ملخص
مة نقاشين في الأقل بصدد التيار السوريالي لا يزالان على حاليهما مع أن كثراً كانوا يتوقعون لهما أن يستأنفا ليصلا إلى خواتم قد تكون سعيدة وقد لا تكون. نقاشان يحملان الموضوع نفسه متمحوراً حول سؤال هو هل كان بيكاسو حقاً سوريالياً ولو خلال حقبة من مساره الفني؟ وهل كان سلفادور دالي من ناحيته وبقي دائماً سوريالياً؟
مضت حتى اليوم أشهر عديدة على بدء استعادة المئوية الأولى لولادة التيار السوريالي في الرسم كما في غير الرسم وبخاصة في فرنسا (1924 – 2024). وكانت مناسبة حفلت توقعاتها بإمكانية امتلائها بمفاجآت وعد كثر من المهتمين أنفسهم بها. غير أن المفاجأة الأساس التي تمخض عنها الأمر حتى الآن في الأقل كانت عدم ظهور أية مفاجأة على الإطلاق. فما من إعادة تصنيف وما من اكتشافات ولا فضائح ولا أي شيء من هذا القبيل. بل إن ثمة نقاشين في الأقل بصدد هذا التيار الفني لا يزالان على حاليهما مع أن كثراً كانوا يتوقعون لهما أن يستأنفا ليصلا إلى خواتم قد تكون سعيدة وقد لا تكون. نقاشان يحملان الموضوع نفسه متمحوراً حول سؤال هو هل كان بابلو بيكاسو حقاً سوريالياً ولو خلال حقبة من مساره الفني؟ وهل كان سلفادور دالي من ناحيته وبقي دائماً سوريالياً؟
لا شيء قابل للحسم
في النهاية لا حسم لأي من هذين الأمرين كما كانت الحال دائماً قبل قرن بكامله من الزمن يوم ولد التيار قبل صيف ذلك العام التأسيسي، وسرعان ما ضم إليه من خارجه أكثر مما من داخله "كل من هب ودب من فنانين شرط أن تكون في فنهم غرابة ما". ونعرف في النهاية أن الغرابة سواء كانت مقلقة بحسب تعبير فرويد أو هادئة بحسب ما رصدنا في معظم الأحيان، هي سمة أساس من سمات الفن من دون أن يحتاج لأن يصنف سوريالياً. والحقيقة أنه لئن كان السؤال المتعلق ببيكاسو حُسم ولو جزئياً باعتباره كان في ممارسته الفنية دائم التغيير والتبدل ومتعمداً لذلك في غالب الأحيان إلى درجة أنه كان سوريالياً وتكعيبياً وواقعياً ومسيساً وانتهازياً وكل شيء آخر، فإن حال دالي تبقى محطاً للجدال وهو الذي سار طوال حياته على هدي غرابة دائماً ما أثارت إعجاب السورياليين ولكن...
ولعل المهم في الأمر هنا هي هذه الـ"ولكن" التي دائماً ما تتدخل لتفسد كل شيء. وهي هنا تأتي لتفسد ذلك الإجماع الذي يجعل من سلفادور دالي الرسام الإسباني الغرائبي الكبير واللاعب الماهر إلى حد أن أندريه بريتون مؤسس السوريالية وزعيمها والذي لم يكن منذ البداية من الرافضين لفكرة ضم دالي إلى تياره حتى من قبل أن يقصده الرسام، وبالتحديد حين "سريل" نفسه كسينمائي في صحبة مواطنه لويس بونويل في واحد من أول أفلام هذا الأخير المعدة سوريالية "كلب أندلسي"، قبل أن يناصبه العداء إلى درجة تحويل أحرف اسمه من سالفادور دالي إلى آفيدا دولاري (وتعني في الإسبانية "نهم إلى الدولارات") مستخدماً حروف الاسم نفسها.
مبدأ أساسي
والحقيقة بعد ذلك أن تلك الـ"ولكن" التي نشير إليها تتعلق تحديداً بمبدأ أساس من تلك المبادئ التي صاغها بريتون للتيار وما كان للتيار أن يوجد لولاها، إذ يقوم الإبداع السوريالي على الكتابة – أو الرسم – التلقائية الأوتوماتيكية التي تمارس بصورة عفوية دون تخطيط وهندسة مسبقين، وربما دون وجود ما ينم عن أي تفكير بدئي بالموضوع الذي يرسم. ويقيناً أن هذا لا ينطبق بأية حال من الأحوال على أي من لوحات دالي سواء كانت من أعماله الكبرى أو الصغرى. إذ ثمة "غرابة" أجل وقد تكون مقلقة فرويدياً ولكن ما من "سوريالية" تلقائية تقوم على عفوية الأداء! ومن المؤكد أن هذا الاعتراض القاطع الذي رافق نظرة غلاة السورياليين إلى فن دالي منذ عبَّر عن هذا بصورة مباشرة أو مواربة، عن رغبته في أن يعد ليس فقط سوريالياً بل من زعماء السوريالية، لا يزال ساري المفعول حتى اليوم ودائماً ما أثار غيظ صاحب العلاقة نفسه إلى درجة أنه كان يحلو له بين الحين والآخر أن يقول للمحيطين به أنه هو لن يكسب شيئاً إن عدَّ سوريالياً أما هم فسيكونون من الرابحين إن هو تنازل وانضم إليهم فـ"أنا في نهاية الأمر أكبر منهم جميعاً ولعل قيمتهم الوحيدة تكمن في زعم البعض أنني في عدادهم".
في انتظار المئوية الثانية
إذاً، في عام المئوية الأولى لا تزال المسألة دون حسم وربما سيكون في مقدور مؤرخ للفن أن يقول الشيء نفسه في المئوية الثانية أيضاً. من يعلم؟ غير أن هذا لا يقلص لا من شأن السوريالية ولا من شأن سلفادور دالي كذلك. بل لربما كان في وسعنا هنا أن نقول إن أي فنان كبير لا يجدر به على الإطلاق أن يكون جزءاً من تيار حتى يعترف له العالم بقيمته. ولعل من حماقات دالي الشهيرة ذلك التكالب الذي كان لديه لكي يصنف سوريالياً أو غير سوريالي. بل لعل في مقدورنا أن نؤكد أن ذلك التكالب كان من مآخذ مواطنه وزميله اللدود بيكاسو عليه. فهذا كان دائماً من ناحيته يقدر فن دالي مؤكداً أنه مثال الفنان المبدع الكبير الذي يكفيه فنه وحده – وبالتحديد "لوحته في حد ذاتها"، أي كل لوحة من لوحاته في حد ذاتها - لتأكيد مكانته الفنية، كما كان - أي بيكاسو – يؤكد أن ما من تيار فني يحتاج حين يتكون أو يواصل طريق وصولاً إلى انفراطه إلى وجود أي فنان معين في صفوفه ليعيش. ومن الواضح هنا أن ما يعنيه بيكاسو ليس بعيداً من كل تلك التأكيدات التي تزعم عادة أن التصنيف في مدارس وتيارات ليس سوى عمل أكاديمي يلهي به أساتذة الجامعات أنفسهم ولا ينبغي أن يثير غيظ أو فرح الفنانين. وسواء كان هذا الكلام صحيحاً أو مغالى فيه ليست المسألة هنا، وخصوصاً بالنسبة إلى سلفادور دالي الذي كان في نهاية الأمر فريداً في فنه ومفاجئاً في إنتاجه وغزيراً في استخدامه مخيلته، لكنه كان في المقابل نزقاً في تعابيره الكلامية أرعن في مواقفه ما أساء إلى فنه دون أن ندنو هنا من الجانب العاطفي أو الشبقي من جوانب حياته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فتش عن المرأة؟
ومهما يكن من أمر يبقى أن سلفادور دالي الفنان الكتالوني المولود عام 1904 والبادئ حياته الفنية في مثل هذه الأيام تماماً قبل 100 عام (1924)، دنا من الفن أول الأمر عبر اكتشافه وفي باريس تحديداً التيار التكعيبي لكنه سرعان ما اكتشف لوحات الفنان الإيطالي الميتافيزيقي كارا. وقرر أن يكون فناناً بالتحديد خلال عام 1926 حين اطلع على العددين السابع والثامن من "المجلة السوريالية" وفيها منسوخات من لوحات الفرنسي السوريالي المبكر إيف تانغي. وهكذا خلال وقت عاد فيه إلى مدريد جمع من حوله عدداً من المثقفين المبدعين (ومن بينهم بونويل والشاعر فدريكو غارسيا لوركا)، ليكونوا جماعة فنية تدعى الإبداع التلقائي. وعندها تعاون دالي مع هذين الرفيقين تحديداً لتحقيق الفيلم السوريالي "كلب أندلسي" حتى قبل إجراء أي منهم اتصالاً مع الجماعة السوريالية في باريس.
وفيما اتجه بونويل إلى السينما عبر فيلمه التالي "العصر الذهب" ودنا من الفوضويين اليساريين، واتجه لوركا إلى الشعر والمسرح مقترباً من الشيوعيين، تفرد دالي بالرسم. ولنتذكر هنا أن دالي حين أقام معرضه الأول في باريس خلال عام 1929 كان بريتون وعلى رغم كل شيء من كَتب مقدمة كاتالوغ المعرض حتى من دون أن يتبناه، ومع ذلك لا بد من الإشارة هنا إلى أن دالي أثار غيظ بريتون بسرعة من موقعين، أولهما كونه رفض وسم لوحاته الأولى بأنها سوريالية بل وصفها بأنها "رهابية – نقدية" مما أثار حفيظة بريتون بالطبع لأنه كان معتاداً على أن يسمي ويصنف بنفسه. وثاني الموقعين أن دالي سرعان ما انتزع من طفل السورياليين المدلل بول إيلوار زوجته غالا فاعتبر بريتون الأمر جريمة لا تغتفر. وعلى رغم ذلك لا بد من القول مرة أخرى أنه لئن كان هذا كله قد وقف حاجزاً بين السورياليين وسلفادور دالي فإن الدور الذي لعبه في نكران سورياليته الفنية كان ضئيلاً دون أدنى شك، لا يقارن بـ"عقلانية" البعد الفلسفي والهندسي في فن دالي في تناقض تام مع البعد التلقائي العفوي الذي كان بريتون وحواريوه يدافعون عنه.