ملخص
محمد الفايد وهارفي واينستين استغلا المال والسلطة لإسكات ضحاياهما من خلال "اتفاقيات عدم الإفصاح" مما أسهم في تفاقم المعاناة النفسية للضحايا. هذه الاتفاقيات تستهدف إسكات الانتهاكات الجنسية وتغذية ثقافة الصمت والخوف في أماكن العمل، وحان الوقت لتعديلها.
عندما يذكر مصطلح "اتفاقية عدم الإفصاح" non-disclosure agreement يتبادر إلى ذهن معظم الناس المال والسلطة. وهذا صحيح، لكن ليس بالطريقة التي يتصورها كثر. أكثر الحجج شيوعاً التي أسمعها ضد تغيير القوانين لوقف إساءة استخدام هذه الاتفاقيات هي إما أنها تحمي أصحاب المناصب العليا من الادعاءات الكيدية التي تهدف للحصول على الأموال، أو أنها تمنح الضحايا الحماية والحرية للمضي قدماً. لكن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً.
يستخدم الأشخاص والمؤسسات والشركات نفوذهم وأموالهم لإسكات القصص الحقيقية فعلاً عن الانتهاكات، خصوصاً في بيئات العمل ذات الأجور المنخفضة أو الظروف غير المستقرة. وعلى رغم أن الرجال يتأثرون أيضاً فإن البيانات تظهر أن النساء يوقعن اتفاقيات عدم الإفصاح بمعدل أربع مرات أكثر من الرجال، وأن 93 في المئة من الموقعات يبلغن عن تأثيرات سلبية في صحتهن النفسية.
التفاصيل المرعبة لانتهاكات محمد الفايد إلى جانب نفوذه المالي واتصالاته الواسعة جعلت هذه الفضائح تتصدر عناوين الأخبار، ويتساءل الناس كيف يمكن لمثل هذا التستر المؤسسي أن يحدث؟ الجواب بسيط، ثقافة الخوف تتغذى على ثقافة الصمت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أتحدث يومياً مع أشخاص تعرضوا للانتهاكات في أماكن عملهم، وأجبروا على توقيع اتفاقيات عدم الإفصاح كخيار وحيد أمامهم. سواء كنت تعمل في وظيفة بسيطة أو في منصب تنفيذي، فإن مديرك يتحكم بمصيرك المالي ويمكنه استغلال هذا النفوذ لصالحه.
كنت في الـ24 من عمري عندما وقعت اتفاقية عدم الإفصاح بعد تعرضي للتحرش الجنسي من قبل هارفي واينستين ولم أتمكن من التحرر نفسياً وعاطفياً إلا عندما تحدثت عما حصل بعد 19 عاماً. وكان الأذى الحقيقي الذي عانيته نتيجة إسكاتي بالقانون. عدم قدرتك على رواية قصتك يعزلك عن التواصل مع من حولك، وهذا ما أثر علي لأعوام طويلة.
الآن، كل ما أتمناه هو أن تشعر النساء اللاتي يتحدثن عن انتهاكات الفايد بنفس التحرر الذي شعرت به بعد كسر الصمت.
بدأت العمل كمساعدة لـواينستين عندما كنت في الـ22 من عمري، وتعرضت للتحرش الجنسي على يده منذ اليوم الأول. لكن تلك كانت حقبة التسعينيات خلال القرن الماضي واعتقدت حينها أنني مضطرة لتحمل ذلك، وكان واينستين أقوى رجل في هوليوود يستطيع الوصول إلى النجوم والسياسيين بمجرد رفع سماعة الهاتف.
لكن عندما أخبرتني مساعدتي روينا تشيو أن واينستين حاول اغتصابها في ثاني لقاء بينهما لم أستطع السكوت وبادرت فوراً بمواجهته ورفع تقرير بما حدث، لكن سرعان ما قيل لنا إنه لا أمل في اتخاذ أي إجراء قانوني جنائي. وكان الطريق الوحيد المتاح لنا هو التوصل إلى اتفاقية تسوية. ووجدنا نفسنا روينا وأنا في دوامة من المحامين والمفاوضات والتهديدات.
كنا امرأتين في العشرينيات من عمرنا، تعرضت إحدانا لاعتداء جنسي عنيف، ولمدة أسبوع تقريباً كنا محاصرتين في غرفة مليئة بمحامين رجال يسألوننا عن كل شيء، إلى من تحدثنا وعن ماذا ومتى؟ ولم يسمح لنا بالتحرك بمفردنا حتى إلى الحمام واستمرت الاجتماعات لساعات طويلة وأحياناً طوال الليل. وعوملنا كما لو كنا مجرمتين، وكانت التجربة مرهقة وتصادمية بل وصادمة نفسياً. ببساطة أشبه بتعذيب قانوني على طريقة "الإيهام بالغرق".
لم يكن هدفي الحصول على المال بل أردت إيقاف واينستين لكن قيل لنا إنه لا يمكننا بدء المفاوضات من دون طلب تسوية مالية، وأصررت على أن يتضمن أي اتفاق بنوداً تلزم واينستين بالخضوع للعلاج النفسي، وأن تجبر شركته "ميراماكس" على إبلاغ الشركة الأم "ديزني" أو أن تطرده في حال محاولته إجراء تسويات أخرى.
لكن بحلول وقت توقيع الاتفاقية كنت أعلم أنها كانت "نصراً باهظ الثمن" وشعرت بانهيار تام، وكنت قد تربيت على الثقة في النظام ولكنني خرجت من هذه التجربة وأنا مدركة أنه كان بلا معنى. لم يدمرني انحراف رجل واحد بل النظام هو من دمرني، فقد كان متواطئاً في تمكين رجل ثري وقوي من شراء القانون والعدالة معاً.
غادرت المملكة المتحدة إذ أدركت بسرعة أن العثور على عمل في صناعة السينما بات مستحيلاً وانتقلت للعيش في غواتيمالا، بعيداً من كل شيء تماماً. لكن مع ذلك كانت اتفاقية عدم الإفصاح تطاردني. كل بضعة أشهر، كنت أتلقى رسالة إلكترونية من فريق المحامين الخاص بواينستين "للاطمئنان علي". كنت أعيش دائماً حالاً من الحذر والتوجس. الرجال مثل هؤلاء لديهم نفوذ وقوة، ومن يعلم ما الذي يمكنهم فعله؟
والأمر الأكثر إيلاماً هو أنني لم أكن قادرة على مصارحة أي شخص. أصيب الأصدقاء والعائلة بالدهشة لأنني تركت وظيفة الأحلام. وأخبرتهم أن شيئاً سيئاً قد حدث، ولكن من يتخلى عن وظيفة تتضمن ركوب الطائرات الخاصة ولقاء نجوم السينما؟
كنت أعيش حالاً دائمة من الهوس والخوف من ارتكاب خطأ. وكانت "اتفاقية الأضرار" هي في الواقع ما يعرف الآن بـ"اتفاقية عدم الإفصاح". لقد كان محظوراً علينا التحدث إلى طبيب أو معالج نفسي أو حتى الشرطة عما حدث. لم يكن بإمكاننا حتى إخبار مصلحة الضرائب أو محاسبنا عن سبب حصولنا على مبلغ 125 ألف جنيه استرليني إلا إذا وقعوا هم أيضاً "اتفاقية عدم إفصاح".
التزمت روينا ببنود الاتفاقية بحذافيرها، لكنني لم أتمكن من الحفاظ على سريتها بالكامل، وكانت بعض التفاصيل تتسرب مني أحياناً عندما أشرب الكحول ثم أستيقظ في اليوم التالي مرعوبة مما قد قلته. وكانت العلاقات الاجتماعية صعبة للغاية، لأن بناء الثقة يعتمد على مشاركة الأسرار وهذا ما لم أكن قادرة على فعله. ومنذ ذلك الحين تعلمت أن الصدمة ليست في ما يحدث لك، بل في ما يحدث بداخلك عندما لا يتم الاعتراف بتجربتك.
الأسوأ من كل ذلك أنني وجدت نفسي في علاقة مؤذية لاعتقادي أنني أستحق هذا المصير. وكنت أخشى أن يتمكن واينستين من الإفلات من العقاب بغض النظر عما تنص عليه "اتفاقية عدم الإفصاح"، وكان هذا الشعور يثير الرعب في داخلي. لقد استوعبت الرسائل الضمنية التي حملتها الاتفاقية، فأصبحت أعتقد أنني مذنبة وغبية وعديمة القيمة. واخترت الارتباط بشخص أعاد تكرار نمط الإيذاء نفسه.
وبعد خمسة أعوام عدت إلى إنجلترا وبدأت أعمل في وظائف بسيطة كمساعدة، مقتنعة أنني لا أستحق أكثر من ذلك. وعندما عرض علي منتج مسرحي معروف وظيفة كمنتجة مساعدة عام 2013، حاولت إقناعه بأنني لا أستحق هذا المنصب لكنه ولحسن الحظ لم يستمع إلي.
ثم في عام 2017، تواصلت معي جودي كانتور التي كانت تحقق في قضية واينستين لمصلحة صحيفة "نيويورك تايمز". وكنت أول امرأة تخرق "اتفاقية عدم الإفصاح" الخاصة بي. لماذا؟ لأنني شعرت أن ذلك واجبي الأخلاقي. ويوجد القانون لحماية الناس، وعلى رغم أن الأمور كانت تشير إلى أن واينستين سيحاسب كنت أريد فضح حقيقة النظام القانوني الأكبر المتواطئ.
وبسرعة كبيرة وجدت نفسي محاطة بمقابلات إعلامية وأروي شهادتي أمام لجان مختارة، وأعلق على الوضع القانوني الحساس المحيط بقضية واينستين، الذي لم يكن قد دين بعد. ومع ذلك حتى وأنا في الأربعينيات من عمري كنت أشك تماماً في إمكانية أخذي على محمل الجد، لكن شيئاً فشيئاً سمح لي تحرري من العبء العاطفي الذي تفرضه اتفاقية عدم الإفصاح بالنمو الحقيقي والمضي قدماً في حياتي.
آمل أن تشعر النساء اللاتي يتحدثن الآن عن فظائع الفايد بنفس الشعور. ولا أحد يختار أن يكون جزءاً من أمر بهذا القدر من العلنية، لكن عندما تجد نفسك مكسوراً وغير قادر على العيش بالصورة الصحيحة تصبح مستعداً لمواجهة التهديدات والمضايقات الإلكترونية والإساءات التي ترافق سرد قصتك.
أشعر بامتنان كبير لأنني تمكنت من تحويل تلك التجربة السلبية إلى شيء إيجابي من خلال كوني مؤسسة مشاركة لحملة "لا يمكن شراء صمتي" Can’t Buy My Silence، وهي حملة دولية تهدف إلى إنهاء إساءة استخدام "اتفاقيات عدم الإفصاح".
في المملكة المتحدة، يمكن لتعديل بسيط في القانون أن يعيد اتفاقيات عدم الإفصاح إلى غايتها الأصلية في حماية الأسرار التجارية والمعلومات الحساسة للشركات، لا أكثر. لأن التحرش الجنسي ليس سراً تجارياً ولا تعد التفرقة العنصرية معلومات حساسة يجب إخفاؤها. كما أن طرد امرأة حبلى لتجنب دفع راتبها أثناء إجازة الأمومة ليس مجرد مصادفة بريئة، إنها صورة من صور الإساءة.
نعم، يجب فضح الأفراد المذنبين. لكن حان الوقت أيضاً لمحاسبة المؤسسات التجارية والمهنية القانونية. فهذه المؤسسات لا تكتفي بإسكات الضحايا فحسب، بل تشارك بفعالية في إلحاق ضرر أكبر بهم، من خلال التستر والتواطؤ.
القصة أعلاه مثلما رويت لـميغان لويد ديفيس
"لا يمكن شراء صمتي" هي حملة دولية تهدف إلى إنهاء إساءة استخدام اتفاقيات عدم الإفصاح. ويمكنكم هنا معرفة مزيد حول الطرق التي تحاول بها تغيير القانون في المملكة المتحدة.
© The Independent