Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أي يسار جديد يسعى اليه فواز طرابلسي نظرياً وسياسياً؟

مسار التزامي وأيديولوجي ونقد للتجربة الحزبية الفردية والجماعية وبحث في إمكانات النظام اللبناني

بيروت عندما كانت مدينة التحرر الفكري (أرشيف وزارة الثقافة)

ملخص

بعد كتابه "صورة الفتى بالأحمر" (1994) الذي تناول فيه تجربته النضالية في اليسار اللبناني أصدر المفكر فواز طرابلسي كتاباً جديداً هو بمثابة جزء ثانٍ وعنوانه "زمن اليسار الجديد، صورة الفتى بالأحمر 2" (دار رياض الريس 2024)، وفيه يواصل مقاربة التجربة الشخصية والحزبية التي خاضها في حركة اليسار، فكراً وتطبيقاً.

لعل كتاب المفكر والمؤرخ  فواز طرابلسي "زمن اليسار الجديد، صورة الفتى بالأحمر 2" هو من الكتب السياسية المهمة التي تناولت تجربة اليسار في لبنان منذ نهاية الخمسينيات. مؤلف الكتاب مفكر ومثقف ومؤرخ ومناضل، عاش المرحلة من الداخل بمفاصلها التاريخية، وكذلك تجارب اليسار اللبناني والعربي، لكنه بقي ثابتاً على مواقفه.    

سبق لطرابلسي أن كتب عن تجربته اليسارية من قبل في كتابه "صورة الفتى بالأحمر"، لكنه لم يتعمق فيها. وعليه، فإن "زمن اليسار الجديد" تتمة "صورة الفتى بالأحمر"، لذلك كان عنوانه الفرعي "صورة الفتى بالأحمر 2". ويقول "هذا الكتاب شهادة عن تجربتي في تنظيمين من تنظيمات ’اليسار الجديد‘، ’لبنان الاشتراكي‘ و’منظمة العمل الشيوعي‘. هي مساهمة تكمل ما ورد في كتابي "صورة الفتى بالأحمر" (1994) تنضم إلى كتابات أسميتها مساهمات في "تصنيع التجارب" التي عشتها خلال أكثر من نصف قرن في ثورات وحركات وتنظيمات اليسار الماركسي اللبناني والعربي" (ص 9(.

لم يكتفِ طرابلسي بالسرد، بل توقف لمراجعة محطات ومنعطفات أساسية في الحياة العامة في لبنان والمنطقة، ولم يُعفِ مواقفه وممارساته من النقد الذاتي (ص 343). وعليه، فالكتاب بمنزلة شهادة صادقة على تلك الحقبة، إذ كان الكاتب صريحاً إلى أبعد الحدود، حتى في نقده الذاتي وتقويم دوره والإعلان عن ذمته المالية. "قدمتُ في صفحات هذا الكتاب كشفَ حساب بوضعي المالي خلال العمل الحزبي. ضميري مرتاح من هذه الناحية" (ص 346).

الأدب بدايةً

دخل طرابلسي السياسة من باب الأدب، فلون كتاباته حتى السياسية منها بنفحة أدبية حالت دون أن تتحول إلى كتابات جافة لا حياة فيها ولا متعة في قراءتها. "يمكنني القول إنني جئتُ إلى اليسار والاشتراكية من قراءاتي الأدبية أكثر من التحصيل الفكري الذي سيأتي لاحقاً" (ص 25). وتفتح وعيه السياسي على العدوان الثلاثي على مصر. فـ"العدوان الثلاثي على مصر حدث تأسيسي في وعيي والتزامي" (ص 22)، ومن ثم على ثورة الجزائر التي أيدها بقوة. انتسب طرابلسي إلى صفوف "حزب البعث" في مدينة مانشستر في بريطانيا، تحديداً إلى الجناح الماركسي في الحزب، إذ كان طرابلسي ميالاً إلى الاشتراكية أكثر منه إلى فكرة القومية العربية (ص 40). لذلك كانت الاشتراكية معيار الحكم على الأحزاب والتجارب، "حاكمنا الناصرية والبعث من منظار بناء الاشتراكية" (ص 51(. حتى الثورة الجزائرية، في نظر طرابلسي، لم تكُن حركة تحرر وطني فحسب. "إن الثورة الجزائرية لم تقُم من أجل الحرية فقط، بل من أجل الخبز أيضاً" (ص 29(. ثم كان لنكسة عام 1967 وقع الصدمة على الجميع. كانت لحظة فارقة في تاريخ العرب ولبنان وفي تاريخ اليسار اللبناني. "1967 هي تلك اللحظة، كانت نهاية عبدالناصر وآخر نظام حركات التحرر الذي عملياً سقط بسبب حرب شنت عليه بالواسطة، في حين كانت الولايات المتحدة تنظم الانقلابات في هذا العالم". (المقابلة مع مجلة "رمان").

جاءت فكرة الكتاب من الأسئلة التي وجهتها إلى طرابلسي الباحثة مريم يونس التي كانت تُعد أطروحة دكتوراه عن "اليسار الشيوعي في لبنان". من أبرز المواضيع التي تناولتها يونس النتاج الفكري لمجموعة "لبنان الاشتراكي"، والمشاركة في الحرب الأهلية، وأسباب مغادرة العمل الحزبي في منتصف الثمانينيات (ص 10).

مجموعة "لبنان الاشتراكي" (السنوات الأُوَل 1965-1968)

ما يميز مجموعة "لبنان الاشتراكي" نشاطها الفكري الثقافي الذي يتمحور حول الاشتراكية. فكانت بمنزلة ورشة فكرية لقراءة الفكر الماركسي والتراث الماركسي من نصوصه الأصلية والنصوص الأساسية التي كتبت حوله، إذ كان المقصود "تعريب الماركسية " (ص 52). وهذا ما لم ينتبه إليه مَن تناول "لبنان الاشتراكي" بالبحث والدرس، أي لم ينتبه إلى أهمية الإنتاج الفكري (ص 62). في هذا السياق يذكر طرابلسي في الصفحة (53) من كتابه بعضاً من القراءات التي كانت تهتم بها مجموعة "لبنان الاشتراكي"، "قرأنا وشرحنا وحللنا ’البيان الشيوعي‘ وكتابات ماركس الفرنسية و’الأيديولوجية الألمانية‘، ومن إنغلز ’أصل الأسرة‘، ومن لينين ’مصادر الماركسية الثلاثة‘ و’ما العمل؟‘، كذلك قرأنا مؤلفات في تاريخ الثورتين الروسية والصينية وفكر ماو تسي تونغ. ودرسنا مؤلفات هنري لوفيفر وجورج لوكاش ولوي ألتوسير ونيكوس بولانتزاس وإسحق دويتشر وفرانز فانون. وقرأنا عن كتاب ’رأس المال‘ لماركس في تأويل لوي ألتوسير، وفي كتاب إرنست مانديل الثمين عن الاقتصاد الماركسي، أكثر مما قرأنا في "رأس المال" بأجزائه الثلاثة. […]. وكان لفكر أنطونيو غرامشي مكان خاص في التحصيل والدراسة" (ص 53). ويضيف ""بالنسبة إلي، لازمتني رفقة غرامشي ولا تزال" (ص 54).

لكن يحق لنا التساؤل، كيف يمكن مجموعة صغيرة من المثقفين، مهما كانت رائدة، أن تحلم بأن تجعل لبنان، ذلك البلد الاستثنائي بتركيبته السكانية وموقعه الجغرافي، بلداً اشتراكياً؟، لا شك في أن الحس الأدبي الإنساني قد طغى عند هؤلاء الرفاق الاشتراكيين على الحس الاجتماعي السياسي.

الحرب الأهلية اللبنانية

وُلدت "منظمة العمل الشيوعي" من اندماج "لبنان الاشتراكي" و"الاشتراكيين اللبنانيين". لكن سرعان ما تعرضت المنظمة لانشقاقات واعتراضات واستقالات كثيرة أضعفتها، لا سيما أنها كانت في منافسة شديدة مع الحزب الشيوعي اللبناني. فكانت المنظمة والحزب الشيوعي ركنَي "اليسار الجديد". لم يتوقع طرابلسي ورفاقه من‏‎ اليسار أن تندلع الحرب الأهلية اللبنانية. لم يتوقعوا أن يتحول النضال السياسي السلمي إلى صراع دموي عسكري بين اللبنانيين. يقول طرابلسي في مقابلته بعد صدور الكتاب "لم نتوقع الحرب. نعم، لم نتوقع الحرب. […]. لم نتوقع أن ينتهي التوتر السياسي إلى اقتتال واسع النطاق على قسم كبير من الأرض يدوم سنتَين، نعم لم نتوقع الحرب، بالتالي أول شيء يجب تسجيله، لماذا حدثت الحرب؟!".

هذه المشاركة الواسعة في الحرب الأهلية اللبنانية كانت مدار مراجعة دائمة لدى طرابلسي بغض النظر عمن تقع عليه مسؤولية الحرب. لذلك يرى أن من يشارك في حرب أهلية، لا سيما من موقع المسؤولية، "لا يحق له أن يقول إن ضميره مرتاح. سكتُ عن تجاوزات وجرائم في الحروب اللبنانية، كما في مسار المقاومة الفلسطينية وحكم اليسار في جنوب اليمن، كان لزاماً علي معارضتها والتنصل منها واستخلاص السلوك العملي بناءً عليها، ولم أفعل" (ص 346). وعليه، يتساءل طرابلسي اليوم، هل كنا نمتلك الحق بألا نرى ولا ندرك؟.

بعد اغتيال كمال جنبلاط عام 1976، بدأ اليسار الجديد يتفكك بسرعة. على صعيد "منظمة العمل الشيوعي"، يوضح الكاتب أن تعيين محسن إبراهيم أمينًا عاما لـ"لحركة الوطنية"، كانت له مضاعفاته السلبية على أكثر من مستوى، إذ أسهم في استفراده بقيادة الحركة الوطنية مهمشاً الأمناء العامين لسائر الأحزاب. كذلك شجع على "انتقال" كوادر المنظمة إلى مؤسسات "الحركة الوطنية"، السياسية والعسكرية...، مما أسهم في "تحلل الروابط التنظيمية" للمنظمة وتفككها، فبهتت شخصية المنظمة "المستقلة الاشتراكية اليسارية والعلمانية والديمقراطية". لذلك بعد نحو 15 عاماً من التفرغ الحزبي، قرر طرابلسي طلاق المنظمة طلاقاً ديمقراطياً، فسافر إلى أسرته في باريس لمتابعة تحصيله العلمي. لم تنجح محاولات الحوار والنقاش في ثنيه عن قراره، إذ بين أزمة المنظمة التي غدت "ضحية" وجودها في "الحركة الوطنية اللبنانية"، فانطمست "هويتها" وغابت عنها "الهيبة الفكرية" وهيمنت القيادة الفردية، والأهم، في نظره، أنه "فقد الأمل" في "إعادة البناء".

المثقف العضوي والمثقف الهامشي

كان طرابلسي وما زال مثقفاً عضوياً بالمعنى الذي اخترعه غرامشي، حتى لو استقال منذ عقود من منظمة العمل الشيوعي. وصحيح أنه استقال من المنظمة، لكنه لم يستقِل من العمل السياسي واليسار السياسي، إذ ما زال يسعى إلى تحقيق نوع من الاشتراكية في لبنان والعالم العربي. فطرابلسي مثقف، يعنيه ما يجري في المجتمع والعالم فيتدخل في ما لا يعنيه. إنه مثقف عضوي، أي مثقف منتمٍ إلى حزبه أو منظمته أو "يساره الجديد". لم يتخلَّ يوماً عن انتمائه بعكس ما ذهب إليه الفيلسوف اللبناني الراحل موسى وهبه الذي أيقن أن الحرب حررته من كونه مثقفاً عضوياً ليصير مثقفاً هامشياً. يقول وهبه "هناك نوعان من المثقفين، النوع الطاغي الذي أسميه المتذهن العضوي، بحسب تعبير غرامشي أي المثقف الذي يركب ثقافته على مشروع سياسي […]. هذه هي ’الثقافة المنتمية‘. أنا حالياً في ’الثقافة اللامنتمية‘، إن صح التعبير، يعني غير العضوية". فشل المثقف العضوي، في رأي وهبه، لأن الطوائف في لبنان أثبتت رسوخها المزمن أثناء الحرب الأهلية وبعدها. حتى الأحزاب اللبنانية تحولت إلى نوع من الطائفة (السفير، الأحد 16/1/1983). طبعاً لا يوافق طرابلسي على ما قاله وهبه. لذلك ما زال يعمل على تجديد اليسار اللبناني والعربي "لإنتاج رؤية مستقلة وراهنة نحو تجديد يسار لبناني وعربي وتوحيده" (ص 346).

الماركسية العملية

على رغم كل الانتقادات التي وجهت إلى الماركسية، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومجموعته الاشتراكية، ما برح فواز طرابلسي متمسكاً بالماركسية وبما أسماه "الماركسية العملية". في هذا السياق يقول "كما يتبين من صفحات هذا الكتاب، لا يزال مرجعي الفكري الأول هو الماركسية، أي منهج المادية التاريخية، […] أقول المرجع الأول، لا الأوحد، بل نقطة الانطلاق الرئيسة في الجهد النظري، ولا نهاية المطاف. والماركسية، في وجه أساسي منها، هي نظرية المعرفة النقدية للرأسمالية" (ص 345). وعن الماركسية العملية يقول "أسترشد بما أسميه ’الماركسية العملية‘، أي ما يمكن استنسابه من التراث الماركسي، بكل موارده ومدارسه وتياراته، من مفاهيم وتجارب لإنتاج معارف عن السلطة والاقتصاد والمجتمع في لبنان وبلداننا العربية. لست من دعاة العودة إلى ماركس والمفكرين الأوائل، لكني أدعو إلى عدم التخلي عنهم باسم تأويلات لاحقة. وأغتني في هذا الجهد بكل جديد في العلوم الاجتماعية والإنسانية" (ص 345). ويضيف "لقد مارست الماركسية، فكراً وعملاً، أكثر بكثير مما كتبت في الماركسية" (ص 345-346).

غالب الظن أن طرابلسي تمسك بالفتوحات الفكرية التي تميز بها ماركس في عالمي الفلسفة والاقتصاد، أي بما بقي خالداً في فلسفة ماركس ويحمل بصمته. لذلك تجاهل ما نشأ حول ماركس من تأويلات وقراءات أيديولوجية تَنسب نفسها إلى ماركس، كما تجاهل ما يمكن حسبانه بمنزلة قشور في ما أبدعه ماركس فلسفياً واقتصادياً كتنبؤاته عن نهاية الرأسمالية وفنائها أو حديثه عن نهاية صراع الطبقات عندما تحل الشيوعية وتتفكك الدولة وينشأ مجتمع الأحرار.

عن فتوحات ماركس الفكرية يقول مشير باسيل عون في مقالته عن ماركس "لا بد من الاعتراف بأن ما يميز الحدس الماركسي ربطُ الحياة بأوضاعها التاريخية، وربطُ الوعي بالنضالات التحررية، وربطُ العالم بشروط الممارسة التاريخية. […] جل اعتنائه النظرُ النقدي في شروط حياتنا الواقعية. لذلك أفضى النقد هذا إلى بناء فلسفة عملية لا تكتفي بتناول العمل غاية بحد ذاته، بل كذلك موضوعاً للتحليل العلمي ووسيلة لاكتساب المعرفة الموثوقة. ذلك بأن دعوة الفلسفة تكمن في إدراك شروط تحول العالم الحي الواقعي الملموس".

نهاية الفلسفة وبداية النضال التغييري

نبه ماركس إلى فساد الطبقة البرجوازية التي جمعت أموالاً طائلة من استغلال الطبقة العمالية، ودعا إلى تغيير الوضع المجحف القائم ووضع آليات لذلك. لذلك قال كلمته الشهيرة "إن الفلاسفة لم يفعلوا إلا أن فسروا العالم بطرق مختلفة، إنما المطلوب تغييره". وعليه، رأى ماركس أنه آن الأوان لنهمل المسائل التأملية المحض التي لا تطعم جائعاً ولا تُغني فقيراً ونهتم بالمسائل العينية العملية، تحديداً الاقتصادية منها. مع ماركس أصبحت الفلسفة تجسيداً للحكمة العليا، ولم تعُد مجرد محبة لها، أصبحت فعلاً عملياً، وبالأخص فعلاً سياسياً جليلاً من خلال إنشاء الأحزاب الشيوعية التي ستقود النضال والصراع مع الطبقة البرجوازية وتجسد الفلسفة في الواقع. هكذا تنتصر الطبقة العمالية، فننتقل من المرحلة الرأسمالية إلى المرحلة الاشتراكية، ومن ثم في نهاية المطاف إلى المرحلة الشيوعية، فنصل إلى مجتمع الأحرار فتتفكك الدولة وتتحقق الجنة على الأرض. في هذا السياق، يقول عون "لا ريب في أن فكر ماركس يناقض التنظير الفلسفي المحض، إذ يُصر على صدارة العمل الواقعي الفعلي التغييري الثوري. جميع هذه العبارات ينطوي عليها اصطلاح البراكسيس (praxis) المشهور الذي غدا شعارَ ثوار الأرض".

الماركسية نظرية علمية

يتناول طرابلسي كتاب محسن ابراهيم "قضايا نظرية وسياسية بعد الحرب" (1984) بالدرس والتحليل، إذ بين فيه محسن ابراهيم إيمانه المطلق بالماركسية اللينينية العلمية "يفتتح الكاتب كتابه بفعل إيمان قاطع بالماركسية واللينينية، فيقول "إن الماركسية (واللينينية في امتدادها) نظرية علمية عامة لتحليل تطور المجتمعات في مختلف أطوار تاريخها، وهي مغتنية باستمرار ومتطورة باستمرار، وتكمن عبقريتها بالضبط في كونها الأداة الفكرية الصالحة وحدها لقراءة كل خاص. ولأنها النظرية الوحيدة العلمية حقاً، تبدو وحدها حين يجري استخدامها استخداماً خلاقاً المؤهلة لتحليل كل أنماط الإنتاج وكل أشكال الانتقال والصراع والتعايش بين هذه الأنماط، والمؤهلة أيضاً لفهم كل تركيب اقتصادي، وكل تشكيلة اجتماعية وكل بنية سياسية وكل التباس أيديولوجي (قضايا 28-29)" (ص 282). ويذكّر طرابلسي بالمقولة الماركسية القائلة "إن نمط إنتاج الحياة المادية هو الذي يحدد الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية. وليس وعي الناس هو الذي يحدد واقعهم الاجتماعي، بل إن واقعهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم" (ص 283). ولا يستثني محسن ابراهيم الحزب الشيوعي اللبناني من النقد، إذ يتهم فكره بـ"الاقتصادوية والدوغمائية والانتقائية" (ص 287).

الأيديولوجي الطائفي في البنية التحتية

لافت ما يذهب إليه تحليل محسن إبراهيم الحال اللبنانية في كتابه "قضايا"، إذ يميل إلى حسبان الأيديولوجيا، وهي هنا الطائفية، بمنزلة بنية تحتية بخلاف التحليل الماركسي المعتمد. هذا ما يذكرنا بدُلوز وصديقه غاتاري عندما مررا الرغبة في البنية التحتية. يقول طرابلسي "أما السمة الثانية للبرجوازية، فتتعلق بالطابع الطائفي العام لتكوينها […] في استنادها إلى مقولة نظرية مؤداها أن ’العامل الأيديولوجي المهيمن على البنية الفوقية (وهو في الحالة اللبنانية العامل الطائفي) يلعب في الوقت نفسه دور العامل المادي المؤثر في البنية التحتية‘، فيتحول إلى أحد العناصر المقررة لتطور التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية" (ص 66). لذلك لم يكُن الانقسام الطائفي "مجرد وهم أيديولوجي تضليلي، بل كان يشكل قاعدة لنظام امتياز وحرمان مادية مسيجة بنظام من التوازنات" (ص 287).

مراجعة الاشتراكية: الخطيئة في النص الأول

لكن إيمان محسن ابراهيم بالماركسية اللينينية لم يدُم طويلاً. ففي النص المنسوب إلى محسوب ابراهيم بعنوان "في الاشتراكية. نص نقدي تحليلي لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان" (نيسان 1993)، نجد مراجعة ذاتية من محسن ابراهيم لفكره الماركسي. "يحسم الكاتب بأن أزمة الماركسية كامنة في النظرية لا في التطبيق [...]. ليست الماركسية تياراً علمياً. لأنها لم تصف الحساب مع الفلسفة، فلم تتحول إلى علم محض، ولأنها تعتمد نبوءة حتمية بقيام المجتمع الشيوعي، كما تحمل دعوة قيمية، إلى ذاك المجتمع، بل إن الماركسية عقيدة مثالية لأن ماركس أخذ الديالكتيك المثالي عن هيغل وطبقه على العالم الواقعي، فاستحال عليه الفصل بين المنهج الديالكتيكي المثالي والفلسفة المثالية. وهذا ما يحرم الماركسية ادعاءَها تمييز نفسها بما هي "الاشتراكية العلمية" (ص 303-304). هكذا يجد محسن ابراهيم أن خطأ الماركسية يكمن في النظرية أولاً، لا في التطبيق، وأن ماركس ما زال ملوثاً بالفلسفة. لذلك فإن الاشتراكية ليست اشتراكية علمية، بل تحولت إلى دين، وهي سبب انهيار الاتحاد السوفياتي.

هل يمكن الاكتفاء بالتحليل الماركسي المحض؟

لا يمكن إغفال التعديلات التي طرأت على الماركسية وتجاهل النقد الذي وُجه إليها. فطرابلسي مصر على تبني ما سماه "الماركسية العملية"، لكنه لم يحدد بالتفصيل ما تعنيه. هل تعني الاكتفاء بمنهج المادية التاريخية؟ هل تعني فصل ماركس الاقتصادي عن ماركس الفلسفي؟ ما العلاقة بين المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية بحسب الماركسية العملية؟. في هذا السياق لا يمكن تجاهل ماركسية مدرسة فرانكفورت التي تبنت الماركسية في المبدأ، لكنها لم تتقيد بصورتها الأرثوذكسية ومقولاتها التقليدية التي قامت على نقد الرأسمالية بما هي نسق اقتصادي تعتمد عليه "البنية الفوقية" والمنظومة الفكرية الأيديولوجية بمختلف جوانبها. لم تكتفِ هذه المدرسة بالماركسية، إذ أدخلت فيها عناصر مختلفة من التحليل النفسي الفرويدي، ومن فلسفات شوبنهاور ونيتشه وبرغسون وغيرهم.

كما لا يمكننا أن نغفل التحليل الفصامي الذي قال به دُلوز وصديقه غاتاري في كتاب "الأنتي-أوديب" الذي صدر عام 1972 بعد أربع سنوات من الثورة الطلابية في فرنسا، إذ حاول كلاهما أن يحللا نظرياً ما جرى. لذلك يمكن القول إن كتاب "الأنتي-أوديب" من أفضل وأهم الكتب التي أغنت الحقل الفلسفي الأوروبي في السبعينيات. كانت ثورة الطلاب عام 68 حدثاً استثنائياً وكانت بمنزلة زلزال هز قناعات الطبقة المثقفة في فرنسا. هذا ما ولد أزمة لدى دلوز وغاتاري على حد سواء، غاتاري المحلل النفسي والشيوعي الآتي من المعارضة اليسارية، ودُلوز الفيلسوف الذي كان يشتغل في عالم الأفاهيم فحسب. لذلك كان لا بد لكل واحد من أن يراجع مساره.

ما يريد أن يقوله الاثنان أن اللاوعي ليس محصوراً بالأسرة، بل هو حقل مشترك بين الناس يشمل المجتمع بأكمله. ولاحظا أن النظرية الثورية تحولت إلى نزعة بيروقراطية فظيعة، وآلة بوليسية تسلطت على رقاب الجميع بمن فيهم العمال. لكن ما زال، في نظرهما، إنقاذ الماركسية ممكناً، إذا عالجنا موضوع الرغبة، وما زال بإمكان التحليل النفسي أن يجدي نفعاً إذا ما انفتح على نظرية الصراع الطبقي، إذ لا وجود لحقل "خاص" تمارس فيه الرغبة نشاطها، وآخر اجتماعي يمارس فيه الصراع الطبقي. لذلك طالبا بما سمياه "ثورات جزيئية" (révolutions moléculaires) قائمة على تضافر جهود المحلل الفصامي والمناضل الثوري والفنان للقضاء على الاستغلال الطبقي. لقد تم الجمع بين فرويد وماركس، لكن بقلبهما معاً، بخيانتهما معاً، وليس بالعودة إليهما. ومن ثم، فإن الحل الذي وجب التفكير فيه يقضي بتمرير الرغبة في البنية التحتية، أو القول عنها إنها منتِجة. "تشكل الرغبة جزءاً من البنية التحتية". حل عبثي في نظر الماركسي الذي يضع الرغبات في التصور الأيديولوجي، وضال في عرف الفرويدي الذي يعتقد بأن الرغبة لا "تنتج" سوى الأحلام والاستيهامات.

 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان المطلوب أن تكون الرغبة جزءاً من البنية التحتية. لا يُفهم ما حصل في ألمانيا إلا عبر إدخال الرغبة في البنية التحتية. فهذا لا علاقة له بالأيديولوجيا، ولا بالجهل أو الوهم، بل بالرغبة، فتكون الرغبة جزءاً من البنية التحتية. هذا ما يعارض الماركسية والفرويدية معاً. إن ما يقوله البشر ليس له البتة، في نظر الماركسي، الكلمة الأخيرة. أما في عرف الفرويدي، فإن الوعي ليس شاهداً جديراً بالثقة لأنه محكوم برغبة لا واعية. لدينا إذاً تعارض بين الوعي والرغبة. الرغبة في التحليل الماركسي جزء من التصورات الأيديولوجية، ولا يمكنها أن تكون منتِجة. وهي في التأويل الفرويدي منتجِة، لكنها منتجة أحلام وترهات واستيهامات. لقد اكتشف فرويد إنتاجية الرغبة، لكنه أخطأ في التشخيص.

في هذا السياق هل يمكننا القول إن اللبنانيين رغبوا في الحرب الأهلية كما رغبت الجماهير الألمانية في النازية؟. ربما تكون الرغبة الأصيلة هذه وقتذاك هي ما سمح للعوامل الداخلية والخارجية الأخرى أن تفعل فعلها، فتدفع اللبنانيين إلى تسوية خلافاتهم السياسية بالاقتتال البيني الداخلي.

ماذا تعني العودة إلى ماركس في الزمن الراهن؟

أن نعود الى ماركس، فهذا يعني أولاً ألا نكون أمينين على فكره، وأن نعارضه ونخالفه في غالبية ما طرحه، بل أن نقلبَه ضد ذاته ونحلِقَ له لحيته الكثة ونجعله أجرد، ويعني ثانياً ألا نحمله وزر مَن نطق باسمه بعد موته وطبق نظرياته تطبيقاً تعسفياً اعتباطياً، ويعني ثالثاً ألا نخلق حوله أصولية ماركسية تريد العودة إليه حرفياً، إذ لا أصولية في الفلسفة لأنها التساؤل الدائم الذي لا ينتهي ولأن المسائل والمشكلات الفلسفية تتغير باستمرار، فلا يمكن لأي فلسفة أن تدوم إلى الأبد. أن نعود إلى ماركس، فهذا يعني أن نبقى في الفضاء الماركسي وأن نعمل في الحقل الجديد الذي اكتشفه ماركس وحرثه، فننطلق من الاقتصاد لنؤسس فلسفة جديدة.

في هذا السياق نلاحظ أن صراع الطبقات الذي قام عليه التحليل الماركسي لم يعُد كافياً، إذ إن الطبقة البرجوازية والطبقة العمالية لم تعودا مؤثرتَين في سياق الوضع الاقتصادي العالمي الجديد، كما كانتا في العهود الماضية. فالمتحكمون في اقتصاد الدول والاقتصاد العالمي أفراد ولم يعودوا طبقات، لا سيما عندما انتقلنا من الاقتصاد الواقعي إلى الاقتصاد الافتراضي، أي إلى اقتصاد البورصات العالمية التي تقع "وول ستريت" على رأسها، فقد أُتيحت للرأسماليين الجدد أدوات جديدة تتمتع بقدرة هائلة على إفقار الأفراد حتى الشعوب والدول. كلنا رأينا كيف تحولت الإدارة الأميركية الى خادمة تسترشد بتعليمات "وول ستريت" بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. لقد تحول الاقتصاد الأميركي فجأة الى اقتصاد شبه موجه تديره المؤسسات الحكومية الأميركية، فجرت التضحية موقتاً بالليبرالية الاقتصادية التي لطالما تغنت بها أميركا.

نحفظ من ماركس أن البشرية لا تطرح مشكلات لا تستطيع حلها. لذلك علينا أن نعين المشكلة ونعمل في الوقت ذاته على الحل. وعليه، ينبه ماركس البشرية إلى أن الحل بأيديها، ويطالبها بألا تنتظر حلاً يأتيها من عالم الغيب. فما كان متداولاً حتى الأمس القريب من ترسانة أفهومية وأدوات فكرية، وكان يصلح إلى حد كبير للمقاومة والنضال أيام الحرب الباردة، أيام حرب فيتنام وحرب التحرير الجزائرية وأزمة كوبا، لم يعُد كذلك اليوم. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومجموعة الدول الاشتراكية، تراجعت الماركسية وانكفأت إلى خط الدفاع. في المقابل، عرفت الرأسمالية تحولات هائلة فازدادت قوة بدلاً من أن تفنى ذاتياً بفعل تناقضاتها الداخلية بحسب ما تنبأ ماركس، بل تحولت إلى رأسمالية متوحشة جعلت المال غاية الإنسان القصوى التي تَهب حياته المعنى الأشمل. لذلك حان الأوان لنعيد النظر في ما لدينا من عُدة فكرية وابتكارات أفهومية كنا نعتقد حتى وقت قريب بأنها قادرة على مساعدتنا في فهم ما يجري وتفسيره، بل تغييره أيضاً. فالفلسفة، بحسب ماركس، لم تعُد تفسيراً للعالم، بل أضحت انتظاماً عملياً في تغييره. وكان ماركس، بحسب مشير باسيل عون "مقتنعاً بأن البنى التحتية الاقتصادية تحرك التاريخ، إذ إن طرائق إنتاج الحياة المادية تؤثر تأثيراً حاسماً في مسار الوجود الاجتماعي والسياسي والروحي. ليس وعي الإنسان ما يحدد فينا كياننا الاجتماعي، بل بخلاف ذلك كياننا الاجتماعي يحدد لنا وعيَنا". هذا ما علينا الانتباه إليه في حال قررنا تبني التحليلات الماركسية للمجتمعات، وفي حال قررنا العودة لماركس.

خلاصة القول إنه لم يعُد بالإمكان اعتماد الاشتراكية أو الإبقاء على الماركسية اللينينية من دون الالتفات إلى ما يجري في العالم من تحولات خطرة، مالية واقتصادية ومجتمعية وتكنولوجية وسياسية، كما لا يمكن تجاهل النقد الذي وُجه إلى الماركسية حتى من قبل مفكرين يرون ماركس عظيماً كمدرسة فرانكفورت ودُلوز وألتُسر وغيرهم. حاولنا في هذه المقالة أن نرى إلى كتاب "زمن اليسار الجديد" من خلال معالجة الأفكار الفلسفية التي يعتمدها الكاتب من دون الغوص في الوقائع والأحداث الكثيرة التي يذكرها. لذلك وجدنا أن الكتاب، في جوهره، قول في "الماركسية العملية". وهذا ما يريد أن ينبهنا إليه الكاتب. لقد كان تنظيم "لبنان الاشتراكي" مجرد ورشة فكرية. ولعل فواز طرابلسي ما زال يتابع الورشة الفكرية هذه.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب