شهد معرض الكتاب في الرياض تفاعلاً واسعاً هذا العام، ظل سمته لأعوام كان فيها التظاهرة الثقافية الوحيدة في البلاد، قبل أن تزاحمه قطاعات ثقافية أخرى من كل المشارب طوال العام مثل السينما والمسرح والموسيقى ومقاهي الكتب في أحياء كثيرة من العاصمة التي صار تحقيق "جودة الحياة" شعارها وتحديها الأكبر.
لكن جوانب غير معتادة كانت لافتة في المعرض هذا العام، إذ وثق انقلاباً في مزاج القراء وتحولاً في اهتمامهم، كان أكثر الشهود عليه غرابة الكاتب الأميركي المثير للجدل فريد ذكريا الذي كان بين المتحدثين، وعاش هو الآخر تحولاً جعله يبشر بالتغيير الذي تشهده السعودية بعد أن كان يرى فيها الجمود والجهل إلى عهد قريب، في تصحيح لافت سبقه إليه الرئيس جو بايدن وآخرون في مجتمع اليسار المتنمر.
ويقول "المملكة تعيش ثورة تغيير في التحول الرقمي والتحولات الاقتصادية، تتواكب مع النظام العالمي وتحولات العصر الحالي، وهي بلا شك دولة كبيرة ذات تأثير إقليمي ودولي".
وجاء ذلك في سياق محاضرة له ضمن فعاليات المعرض، أكد خلالها أن "هناك تحولاً عالمياً في الرقمنة، وتطويراً للقدرات البشرية خلال الأعوام الأخيرة، يسهمان في إحداث تنمية وازدهار في كثير من دول العالم، لا سيما في العالم العربي الذي يعيش طفرة غير مسبوقة في الأفكار والمبادرات الناضجة على الصعيدين الاقتصادي والثقافي".
بعد الهند جاء دور العرب
وأضاف الكاتب ذو الأصول الهندية أن بلده الأم أيضاً بدأت متأخرة لكنها استدركت تراجعها وبدأت بالانفتاح على العالم عبر السينما والتكنولوجيا، في إشارة إلى أن بلدان الخليج والسعودية خصوصاً تحذو حذوها، لافتاً إلى أن أميركا والصين وأوروبا شهدت تحولات اقتصادية كبيرة، وأقرّ بأن "الإسلام لديه القدرة على حل كثير من المشكلات والمعوقات الحالية لأن حلوله مصدرها الخير".
أما الاتجاهات المهددة للتقدم في المنطقة، فلم يتوقف عندها كثيراً، إلا أن رئيس تحرير "عرب نيوز" الزميل فيصل عباس استوقفه وهو يحاوره، فاعتبر أن سلسلة الرد والانتقام بين إسرائيل وإيران تشكل أكبر التحديات في هذا السياق، لا سيما بعدما بات واضحاً أن "قيادة النظام الإيراني تم اختراقها في مكان ما".
سجال تلقائي بين زكريا وعضو "كبار العلماء"
من غير المرجح أن تكون إدارة المعرض في هيئة الأدب والنشر اختارت شعار هذه النسخة "الرياض تقرأ" نكاية بزكريا ومن خلفه من عرب وعجم ما كانوا يرون في بلادٍ هي أصل العرب وملتقى حضارات غير الزيت المتدفق من أرضها، إلا أن عضو هيئة كبار العلماء في السعودية الشيخ سعد الشثري الذي جاءت مشاركته بعد الكاتب الأميركي بدقائق وعلى الكرسي نفسه، أجاب عن هذا النوع من التساؤلات بنقد مهذب لكنه لاذع، على نحو لا يبدو أنه مقصود أو مخطط.
وبعدما عدّد نماذج من الموسوعات والمعاجم في الفنون شتى التي ألفها العرب عبر العصور، ذكر أنه "لو جمع ما كتبت الثقافات والأديان كلها لما شكل إلا يسيراً مما صنف العرب والمسلمون، مع أن كثيراً من ذلك المنتج فُقد بسبب الهجمات والحروب". ومن أشهر تلك الأحداث اجتياح المغول بغداد بعد منتصف القرن الـ13 الميلادي، قاموا على إثره بإغراق نهر دجلة بالمخطوطات، حتى قيل إن "مياه النهر تحولت إلى اللون الأسود من اختلاطها بالمداد"، كما فتك جنود إبراهيم باشا لدى غزو الدرعية 1818 بمكتباتها بعد إخضاع المدينة المزدهرة يومئذ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي رد منه مبطن على النقد الموجه لبلاده من الكتاب الغربيين وسواهم، حذر الشثري من "أقلام مغرضة تكتب كتابات مخالفة للواقع من أجل إما اختلاف المنهج معها أو لما في القلوب من الحسد أو من أجل محاولة مدح من يقابل ما نحن فيه، سواءً من دول أو جماعات أو نحو ذلك مثل السير مع الموجة".
وأضاف أن "من يبحثون عن المثالب لا ينبغي أن نجعل لهم منزلة عالية، سواء مثالب مجتمعنا أو غيرها من المجتمعات، إنما نبحث عن أولئك الذين يذكرون الإيجابيات و يحاولون تعزيزها وسريانها في المجتمعات"، في تعليق لا يبدو أنه يقصد به زكريا وإن كان ينطبق عليه قبل بضع سنين في تقدير من ظلوا يتهامسون بذلك من الجمهور السعودي.
وكان زكريا من أقطاب اليسار الإعلامي في أميركا المنحازين إلى مقاربة طهران في عهد أوباما إبان ما يسمى "الربيع العربي"، وضد توجهات الرياض حتى بعد إصلاحات "رؤية 2030" التشريعية والتنموية، إلا أنه تراجع لاحقاً منذ 2022 وبدأ يرى الرياض بعين أخرى، أسوة بإدارة بايدن التي كان سفيرها لدى الرياض مايكل راتني في الصف الأول من حضور ندوة فريد زكريا في قلب الرياض التي بدا أنها قبلت توبته وردت التحية بأحسن منها.
عهد شباب الـ"فانتازيا"
لكن هذا السجال العفوي لم يكُن اللافت الوحيد، فلدى جولة "اندبندنت عربية" بين أركان دور النشر في المعرض، تراها شهدت في المساء ازدحاماً كبيراً، لا سيما تلك التي تبيع روايات الـ"فانتازيا" والأدب البوليسي والغرائبي على النحو الذي يكتبه السعوديان أسامة المسلم ومساعد بن رمقه بعد أن كانت الروايات العاطفية في وقت سابق وكتب تطوير الذات هي صاحبة الحظوة بالإقبال، بعد تراجع مبيعات كتب الدعاة الجدد لأعوام.
لكن القاسم المشترك بين وقت سبق وهذا العام، أن شريحة الشباب من الجنسين شكلت الطيف الأوسع من رواد المعرض الذي صار مجرد تنظيم حركة الناس قبل الوصول إليه وبعده مهمة صعبة لشدة الإقبال، فكيف بكل الجهد المبذول فيه من جانب الجهة المنظمة ودور النشر التي بلغ عددها نحو ألفي دار، موزعة على 800 جناح، تمثل 30 دولة، وبيع فيه العام الماضي أكثر من 695 ألف كتاب، اشتراها 1.07 مليون زائر.
وفي أقصى المعرض، أقيم رواق للكتب المخفضة التي أشهرت إفلاسها وأراد ناشروها التخلص منها، بثمن بخس.
وكان هذا عادياً في كل معارض العالم، إلا أن تشكيل "كتب الصحوة" فيها القدر الأكبر يظهر إلى أي حد تراجع خطاب الظاهرة التي كان معرض الكتاب قبل نحو عقد وأكثر أحد نقاط نفوذها واحتسابها ووصايتها بالقوائم والأفعال، تصادر كتباً وتعترض على فسح أخرى وتضايق بعض الكتّاب على منصات التوقيع، إلا أن تحجيم هذا التيار لم يعُد رسمياً فحسب، بل إن فئة كثيرة من الجيل الجديد تجاوزت ذلك الخطاب كذلك، حتى صارت كتبه المفسوحة تشهر إفلاسها، في حين صار ينشط على وسائط أحدث هي "بودكاست" كما يرجح الكاتب عبدالله بن بجاد وعدد من المتخصصين في نقد الظاهرة.
"توبة فتاة علمانية"
ومن بين تلك الكتب، "زوجتي والشغالة" و"توبة فتيات" و"غرائب القصص"، بينما أشدها قرباً من ذلك العهد كتاب "فتيات والذئاب" الذي حوى عدداً من القصص الدرامية التي يحتمل أن يكون بعضها صحيحاً، إلا أن التهويل الذي صيغت به كان شائعاً في العقود الماضية حتى لقصص مختلقة مثل "التائب أحمد" بهدف حماية الفضيلة ومحاربة ما كان يعرف بـ"الاختلاط" وعمل المرأة واتصالها بالذكور، بحسب تلك الأدبيات. وتكفي العناوين أمثلة على المحتوى، فمن بينها "ضيعتني مكالمة والبداية كانت الحجاب الفاضح والنهاية!! واعترافات طالبة ونهاية فتاة طائشة وليس للمرأة إلا بيتها وتوبة فتاة علمانية" وغيرها.
وخصص الخطاب الصحوي جزءاً كبيراً من نشاطه للمرأة وتخويفها من المجتمع والمفاسد التي يمكن أن تتعرض لها إن هي استجابت لدعوات الانفتاح، بما في ذلك استخراج بطاقة هوية لها وقيادة السيارة والعمل في مهن محددة، فضلاً عن السفر إلى الخارج أو الكشف عن وجهها، لكن بعد كثير من القوانين التي صاحبت الإصلاحات التي سنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، استطاعت البلاد التكيف بين الانفتاح والمحافظة على القيم، لا سيما الأسرية، عكس ما كان ينذر به بعض صقور تلك المرحلة، وسط مزايدة على القيادات الدينية والسياسية الرسمية في البلد المحافظ حينها.
وكان ولي العهد أكد في كلمته أخيراً أمام مجلس الشورى أنه "بينما نمضي في مسارات التحديث والتنوع، فإننا حريصون أشد الحرص على حماية هويتنا وقيمنا التي هي امتداد لمسيرة أجدادنا وآبائنا، وهي صورتنا الثاقبة في العالم أجمع".
قلب الرياض اللي بالحب جمعنا
أغنية #موسم_الرياض Say Big Time بصوت الفنان الكبير راشد الماجد #BigTime#RiyadhSeason pic.twitter.com/tU9gbo5ors
— موسم الرياض | Riyadh Season (@RiyadhSeason) September 29, 2024
"أسبوع الملاكمة" وموسم الرياض
وتشهد صناعة الترفيه والسياحة في البلاد نمواً متسارعاً هو بين الأكبر في العالم، وفق أرقام وزارة السياحة السعودية التي أعلنت العام الماضي تسجيلها رقماً تاريخياً بعدد سياح بلغ 109 ملايين شخص، كانت تستهدف أقل منه في ذروة "رؤية 2030" إلا أنها حققت ذلك أسرع بسبعة أعوام.
ويعتبر "موسم الرياض" أيقونة الترفيه الأولى في المملكة وهو الذي ينطلق هذا العام في الـ12 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، وسط ترقب فعاليات متنوعة أكثر من أي وقت مضى، شكل الترفيه الثقافي والرياضي عمودها الفقري.
وقال مصدر في الهيئة السعودية للسياحة في تصريح إلى "اندبندنت عربية" إن الموسم "يقود النشاط السياحي في البلاد ويحقق قفزات كبيرة، استفادت منها بقية القطاعات والمناطق الأخرى خارج الرياض"، لكنه ألمح إلى أن التحديات لا تزال كبيرة مقارنة بالاستحقاقات التي تنتظر القطاع الذي يتوقع أن يصبح المساهم الأول بعد النفط والضرائب في الناتج المحلي للدولة الغنية بتنوع التضاريس والبيئة والمناخ.
وقاد رئيس هيئة الترفيه تركي آل الشيخ حملات الترويج للموسم في مدن الترفيه العالمية مثل لاس فيغاس ولندن، عبر تنظيم مواجهات بين أشهر الملاكمين الدوليين بهدف تشكيل قاعدة عريضة للسياحة في السعودية من الزوار الدوليين، مما قال إنه خلق مئات ملايين الانطباعات الموثقة عن الموسم والمملكة التي عزفت نشيدها الوطني في أكبر ملاعب لندن (ويمبلي) المليئة عن بكرة أبيها برواد الألعاب التي اعتادت الرياض تنظيمها، إلى حد جعل "التنافس معها صعباً أو مستحيلاً"، وفق آل الشيخ.
وكان الداعية السعودي الشيخ عائض القرني الذي كان أحد نجوم الصحوة السابقين، قال في حوار مع "اندبندنت عربية" أخيراً إن التشدد في الخطاب والميل إلى التحريم والتهويل وتبديع المجتمع كان بين أشد أخطاء المرحلة التي قال أيضاً إنها لم تخلُ من إيجابيات.
واعتبر أن "تضخيم المسائل الصغيرة وجعلها مسائل كبرى وزيادة كم الحرام على الحلال، ليس هناك حلال كل شيء كان حراماً، حتى النشيد حرام، والعرضة حرام، وأي شيء حرام حتى قبل التفكير فيه بروية"، كان بين الملاحظات التي يجب استدراكها، في حين يراهن على أن الجيل الجديد سيتجاوز ذلك الخطاب، مهما قيل عن التأثر بالمرحلة السابقة.