Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وثيقة المستقبل للأمم المتحدة... دعائية أم واقعية؟

لماذا تزعمت روسيا التيار المعارض لإقرارها خوفاً من ضررها؟

هل ما زالت الأمم المتحدة فاعلة وناجزة في أيامنا؟ (رويترز)

ملخص

مؤكد أن الزمن تجاوز الأمم المتحدة بشكلها الماضي، وهناك حاجة إلى مؤسسات مغايرة، وغالب الظن أنها ستنشأ سواء قبلت واشنطن وبروكسيل وغيرهما أم لا، لا سيما أن عجلة التاريخ تقطع بأن هناك دورة أممية جديدة آتية لا محالة.

بهدوء وتؤدة شديدين، يسعى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في طريق إصلاح الأمم المتحدة، ذلك الطريق الذي سار على دربه أمناء عامون سابقون، من بطرس غالي، إلى كوفي أنان، ومنه إلى بان كي مون، وصولاً إلى البرتغالي الذي يتفق الجميع على حسن نواياه وصدق طواياه.

الحديث عن الأمم المتحدة، حديث ذو شجون، وتستتبعه تساؤلات جذرية عميقة عن الأهمية الحقيقية لهذه المؤسسة الأممية في حاضرات أيامنا، وهل لا تزال فاعلة وناجزة؟ أم أنها لا تتجاوز، في واقع الأمر، بعضاً من الديكور العولمي، وأداة للقوى القطبية الكبرى في التحكم بمسارات العالم ومساقات الأمم، لا سيما وأنها لم تفلح في إنهاء نزاع أو حل قضية خلافية كبرى؟ وكيف لها أن تفعل ذلك وهي المجردة من أدوات القوة، فلا جيوش تمتلكها، ولا قدرات عسكرية تحركها لتغيير الأوضاع أو ضبط الطباع المختلة؟

 

تؤكد لنا أي رؤية تحليلية للأمم المتحدة، أنها مرتبطة ارتباطاً جذرياً وثيقاً بالتوازنات الدولية، ولهذا فهي، في زمن الحرب، أكثر وزناً وقيمة من أزمنة السلام، وهذا ما تبدّى بشكل واضح خلال عقود الحرب الباردة.

في تلك الفترة الزمنية التي ناهزت السنوات الـ 40، كانت الأمم المتحدة رمانة الميزان بين دول العالم كافة، وبين القطبين الكبيرين بنوع خاص، على أن المشهد الأممي اليوم تغيّر، وحكماً سوف يتغير بصورة غير مسبوقة بالوصول إلى منتصف القرن الحالي، الأمر الذي يستوجب إعادة النظر في البنية الهيكلية للأمم المتحدة، وقراءة أوضاعها مرة تلو المرة، بهدف مواكبتها للمشهد العالمي المرتبك.

في هذا الإطار يبدو أنه كان هناك عمل عميق تمّ الترتيب له عبر سنوات خلت، لمراجعة ميثاق الأمم المتحدة الحالي، والذي دخل حيّز التنفيذ في 24 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1945، والميثاق هو الوثيقة المؤسسة للمنظمة، وحين تمت المصادقة عليه، بزغت هيئة الأمم المتحدة رسمياً إلى حيّز الوجود؟

ماذا عن ذلك العمل الجديد الذي قدّم له السيد غوتيريش في كلمته الأيام القليلة الماضية؟ وهل هو ميثاق جديد ملزم، أم قراءة استرشادية في دروب المؤسسة العالمية؟ ومع ذلك هناك من رأى أنه ربما يحمل السم في العسل، ولهذا رفضت روسيا الانضمام إليه بل وعارضته والكثير من الأسئلة.

 

غوتيريش ومنطلقات قمة المستقبل

من على منصة الجمعية العمومية، تحدث الأمين العام للأمم المتحدة عن رؤيته لهذه القمة، وكيف أنها تعد، فرصة ذهبية، لإجراء إصلاحات جوهرية لجعل المؤسسات العالمية أكثر شرعية وإنصافاً وفاعلية، وذلك استناداً إلى قيم ميثاق الأمم المتحدة.

العالم في عيون غوتيريش يعاني من تحديات جسام في القرن الـ 21، تتطلب حلولاً مناسبة لهذا القرن، وأطراً مترابطة وشاملة، وتعتمد على خبرة البشرية جمعاء.

هل الوضع الكوني على هذه الدرجة من السوء؟

غالب الظن أن غوتيريش على حق، لا سيما في ظل اتجاهات عدة للانحراف عن المسارات الديمقراطية الصحيحة، ولهذا يبدو الوضع في حاجة لتأصيل جديد، يحجُب القديم، ويستنهض قوى الحديث.

إن نظرة عابرة على أوضاع العالم من شرقه إلى غربه، تكشف لنا عن عمق الأزمة العالمية، حيث الصراعات تضرب وتتفاقم، من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا والسودان، من دون أي نهاية في الأفق، في وقت النظام الأمني الجماعي مهدد بسبب الانقسامات الجيوسياسية، أما عن السباق النووي الجديد والوليد، فحدّث ولا حرج، بخاصة عما يمكن أن ينذر بشتاء نووي قريب.

 

في السياق نفسه، تبدو الاختلالات الحادثة على صعيد الحياة الاقتصادية مخيفة في ظل تعديل مسار الموارد الاقتصادية الحالية من جهة توفير فصل للحياة، إلى استثمارها في الموت والدمار، ما خلق حالة من التفاوت الهائل، الأمر الذي يشكل عائقاً أمام التنمية المستدامة، فالعديد من البلدان النامية غارقة في الديون وغير قادرة على دعم شعوبها.

وفي الوسط من كل هذا تبدو هناك خيبة أمل كبرى موصولة بأحوال المناخ العالمي، وفيما الحل يكمن في التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، لا تزال الانبعاثات تنطلق شرقاً وغرباً في ارتفاع واضح وفاضح.

وباختصار القول، فإن أدوات اليوم ومؤسسات العالم الدولية المتعددة الأطراف، باتت غير قادرة على الاستجابة بفعالية للتحديات السياسية والاقتصادية والبيئية والتكنولوجية التي تواجه الإنسانية المعاصرة، ولهذا سيكون الغد أكثر صعوبة، وأشد خطورة.

هل يكمن الحل إذاً في رؤية جديدة للمؤسسة التي تعتبر بيت البشرية الكبير على نهر الهدسون في مدينة التفاحة نيويورك الشهيرة؟

والمؤكد أن انطلاق فكرة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كان القصد من ورائها ترتيب شؤون الكون، وبما لا يسمح بصراعات عالمية جديدة، عطفاً على تقويم شؤون الاقتصاد العالمي. وعلى رغم أن هناك خطوات جدية جرت في هذا الإطار في بداية نشأتها، إلا أنه من الجلي للعيان، وبعد قرابة ثمانية عقود من مولدها، أن الشيخوخة قد أصابتها بحالة من العجز، وبات السؤال "كيف لهذا المبنى الزجاجي أن ينبض مرة جديدة بالحياة والنماء؟

 

عن ميثاق المستقبل والميثاق الرقمي

يقطع القائمون على مشروع ميثاق المستقبل والميثاق الرقمي، عطفاً على إعلان الأجيال القادمة، وهي محاور النهضة النوعية الأخيرة في المؤسسة الأممية، أنها تفتح الطريق مجتمعة أمام إمكانيات وفرص جديدة لعالم مغاير، فعلى سبيل المثال، وفي ما يتعلق بالسلام والأمن، يعد القادة المجتمعون من حول الميثاق الجديد، بتحقيق تقدم في الإصلاحات الرامية إلى جعل مجلس الأمن أكثر انعكاساً للعالم اليوم، ومعالجة التمثيل الناقص التاريخي لأفريقيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ وأميركا اللاتينية.

ويضع الميثاق الجديد الأسس لإنشاء لجنة بناء سلام أكثر مرونة، ولإجراء مراجعة جذرية لعمليات السلام لجعلها ملائمة للظروف التي تواجهها.

كما تمثل بعض البنود في الميثاق الجديد، فرصة تعبّر عن أو لدعم متعدد الأطراف متفق عليه لنزع السلاح النووي منذ أكثر من عقد من الزمان.

وهذه اللجنة يدرك القائمون عليها الطبيعة المتغيرة للصراع، ويلتزمون باتخاذ خطوات لمنع سباق التسلح في الفضاء الخارجي، وتنظيم استخدام الأسلحة المستقلة القاتلة، وتشمل هذه التدابير تنظيم استجابة فورية ومنسقة للصدامات العالمية المعقدة.

وفي ما يتعلق بالتنمية المستدامة، تمثل هذه الاتفاقيات تقدماً كبيراً نحو الإصلاحات الرائدة في البنية المالية الدولية، كما ستساعد هذه الأهداف في جعل مؤسساتها أكثر تمثيلاً للعالم اليوم، وقادرة على شنّ استجابة أقوى لتحديات اليوم، وقادرة على توفير شبكة أمان عالمية فعالة للدول النامية في وقت يختنق فيه العديد منها بالديون وغير قادرة على إجراء تقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

وبحسب الظاهر من الميثاق، يهدف ميثاق المستقبل إلى تعزيز أهداف التنمية المستدامة واتفاقية باريس للمناخ، وتسريع التحول العادل بعيداً من الوقود الأحفوري، وضمان مستقبل سلمي قابل للعيش للجميع على كوكبنا، وهذا يشمل التزاماً رائداً من جانب الحكومات بالاستماع إلى الشباب وإشراكهم في صنع القرار على المستويين الوطني والعالمي.

والثابت أن القائمين على بلورة هذا الميثاق، قد أخذوا كذلك في الاعتبار، حركة العالم الرقمي القائمة في حاضرات أيامنا مأخذ الجد، ولهذا جاء الميثاق الرقمي العالمي، الملحق بالميثاق، ليعدّ أول إطار عالمي شامل للتعاون الرقمي وحوكمة الذكاء الاصطناعي، وفي قلب الميثاق الالتزام بتصميم واستخدام وإدارة  التكنولوجيا لمصلحة الجميع، ويشكل ذلك التزاماً  من جانب قادة العالم بربط جميع المؤسسات والمدارس والمستشفيات بالإنترنت، وترسيخ التعاون الرقمي في حقوق الإنسان والقانون الدولي، وجعل الفضاء الإلكتروني آمناً للجميع بخاصة الأطفال، من خلال الإجراءات التي تتخذها الحكومات وشركات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي .

وعطفاً على ذلك، يسعى الميثاق الرقمي لما أطلق عليه "حوكمة الذكاء الاصطناعي"، من خلال خريطة طريق تتضمن لجنة علمية دولية وحواراً عالمياً للسياسات بشأن الذكاء الاصطناعي.

وفي الوقت نفسه يسعى القائمون على الميثاق الجديد في طريق جعل البيانات أكثر انفتاحاً وسهولة في الوصول إليها، من خلال الاتفاقيات بشأن البيانات والنماذج والمعايير مفتوحة المصدر، ويعدّ هذا أول التزام عالمي بحوكمة البيانات ووضعها على أجندة الأمم المتحدة وإلزام البلدان باتخاذ إجراءات ملموسة بحلول عام 2030.

الميثاق رؤية حقيقية أم مخملية؟

على أن علامة الاستفهام الأولى التي تقابل قارئ هذا الميثاق تتعلق بإمكانية تحويله من أفكار يوتيوبية مخملية، إلى واقع حي قابل للترجمة، فكما الحال غالباً مع قرارات الأمم المتحدة وتعهداتها، فإن ميثاق المستقبل حافل بالأهداف والالتزامات النبيلة، ولكنه يفتقر إلى الخطوات الفعلية الواقعية التي يمكن للهيئة أن تتخذها لتنفيذ رؤيتها الخاصة.

والميثاق يؤكد أن دول العالم سوف تقضي على الجوع وستحقق الأمن الغذائي، غير أنها لا تضع خريطة طريق للمشهد، لا سيما أن الدول الغنية هي بالدرجة الأولى المسؤولة عن اتساع تلك الفجوة، سواء كان ذلك عن طريق السياسات الحمائية لصادراتها الغذائية، أو عبر مشاركتها الفعلية في تلويث المناخ، الأمر الذي يقود حكماً لجهة حرمان أقنان الأرض من خيراتها عاماً بعد عام.

ويقول الميثاق، في بنوده، أنه سيعالج فجوات التمويل والاستثمار العالمية، وملتزم بنظام تجاري متعدد الأطراف عادل، وسيعمل على تحقيق المساواة بين الجنسين وحماية البيئة والمناخ، وكذلك الدفاع عن الأشخاص المتضررين من حالات الطوارئ الإنسانية، غير أن هذه الأهداف النبيلة للغاية لا شك، لا تصاحبها ميكانيزمات توضح كيف سينفّذ بها السيد غوتيريش وصحبه تلك الأهداف، ما يجعل منها في حقيقة الأمر شعارات براقة وليس أكثر.

هل يتوقف الأمر عند هذا النحو؟

بالقطع لا، ذلك أنه في حين تستمر حرب إسرائيل على غزة، والحرب بين روسيا وأوكرانيا، والحرب الأهلية في السودان في إزهاق الأرواح، فإن الاتفاقية الجديدة تلزم الأمم المتحدة بدعم محكمة العدل الدولية، ولكن في الوقت الذي أوضحت فيه إسرائيل أنها لن تسمح لمحكمة العدل الدولية بالتأثير على حربها المدمرة، التي قتل فيها أكثر من 42 ألف شخص في غزة، فإن الاتفاقية الجديدة لا توضح كيف تخطط الهيئة لحمل الأعضاء على اتباع قواعدها، ولعله في قلب ثغرات الميثاق الجديد، الحث على وقف سباق التسلح النووي الجديد الماضي قدماً، مرة أخرى، بعد نهاية الحرب الباردة، غير أنه يمكن للمرء أن يسائل القائمين عليها "كيف يمكنهم ثني الصين عن زيادة ترسانتها الصاروخية النووية إلى حدود 1000 رأس نووي جديد بالوصول إلى نهاية العقد الجاري؟

لا تمتلك الأمم المتحدة أدوات القوة التي تجعل الصين ترضخ لأهدافها، وهو ما ستمضي في إثره كوريا الشمالية، ولاحقاً العديد من القوى الدولية حول العالم.

 رؤى وسرديات تناقض الواقع

ولعل متابعة سريعة لردود الفعل لدى الكثير من الأنتليجنسيا العالمية، من سياسيين ومفكرين، ومن مسؤولين دوليين باشروا العمل الأممي، تكشف لنا عن أن هناك فجوة كبيرة بين القول والفعل، وعلى من يرى غير ذلك أن يتابع النقاط التالية من دون حماسة زائدة للسيد غوتيريش، على رغم صدق إرادته في تغيير أحوال العالم، وهو الأمر الذي يعجز عنه بمفرده.

ويمكن الحديث عن رؤية الميثاق لإصلاح البنية المالية الدولية، وتعزيز الاستجابة للصدمات الاقتصادية العالمية، وهو حديث يبدو في ظاهره براقاً إلى حدّ جذاب، غير أن سياقات الأحداث تقطع بأن النخب المالية العالمية، هي التي تقود العالم في إطار صالحها ومصالحها، ومن غير أدنى التفاتة إلى بقية هموم شعوب العالم الثالث.

ربما كان للمرء أن يتقبل  طروحات الميثاق الأممي الجديد في هذا الشأن، لو واكبت عملية طرح الميثاق، مبادرة عالمية من الدول الغنية لإسقاط ديون العالم النامي، ما يدفعه في مدارات التنمية الحقيقية، وبعيداً من مذلة صندوق النقد والبنك الدوليين، وقروضهما الربوية التي ترجع النمو إلى الوراء، وهو أمر ينطبق على القوى القطبية القائمة كما الحال بالنسبة لأميركا وأوروبا، وينسحب كذلك على القطبيات القادمة مثل الصين، والتي تستغل فوائض أموالها، لتعزيز استراتيجياتها الأممية، ومشروعاتها العالمية، مثل "الحزام والطريق"، بالدرجة الأولى .

الميثاق يحدثنا على سبيل المثال عن تحسين التعاون في استكشاف الفضاء الخارجي ومنع سباق التسلح هناك. فهل تمتلك الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تضع مثل هذا البند بالفعل موضع التنفيذ؟

بالقطع هذا لن يحدث، والسبب واضح وبسيط، وهو أن غالبية، إن لم يكن كل الدول الأعضاء في مجلس الأمن، هي التي تتسابق على استغلال أو بمعنى أدق استعمار الفضاء الخارجي، والتنافس قائم بينها على أشده، ومن غير أدنى درجات ممكنة من التعاون، أما السبب فيعود إلى أن الجميع باتوا يعتبرون الفضاء هو ساحة جديد للعسكرة ونقل المعارك إلى محور استراتيجي رابع بعد البرّ والبحر والجو.

الميثاق يدعو أيضاً إلى تجديد الثقة في الأمم المتحدة من خلال استجابة سريعة لمعطيات آنية موصولة بحقوق الإنسان، بما في ذلك مكافحة العنصرية وكراهية الأجانب، وهو حديث خلاق ويستحق التشجيع، غير أن التساؤل بحسن نية "كيف يمكن للأمر أن يمضي على هذا النحو في الوقت الذي تصعد فيه النزعات الشعبوية، وترتفع فيه عالياً رايات القومية، وتكاد رموز هذه التيارات أن تحتل البرلمانات العالمية، ما يعني إحياء نعرات النازية والفاشية، وتقسيم العالم من جديد إلى فسطاطين، الأخيار والأشرار؟

ولعله من نافلة القول إن هذا الحديث لا يجد آذاناً صاغية في الداخل الأميركي بنوع خاص، والسبب المباشر مع هذه الجزئية، هو أن ورقة الهجرة والمهاجرين، تعد اليوم، وفي قلب الانتخابات الرئاسية الأميركية أحد أوتار الغزل على المتناقضات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل هذه الرؤية التشريحية تعني أننا ضدّ الميثاق الجديد؟

بالقطع، يبقى حلم المفكر والفيلسوف الفرنسي الكبير جان جاك روسو، عن بيت أممي كبير يجمع العالم، حلماً طهرانياً، يسعى العالم في طريقه، غير أن روسو كان يحلم بقدر من المساواة والعدالة، تلك التي غابت في وقت تأسيس هيئة الأمم ولا تزال غائبة، ولم يأتِ الميثاق الجديد بشيء منها لتقويم الأوضاع المعوجة. فما الذي نعنيه بهذا الكلام؟

حق النقض ومعالجة الظلم التاريخي

من بين الجزئيات التي يمكن اعتبارها دعائية، بأكثر منها واقعية، الحديث عن الاستياء المتزايد من الجمود ونقص التمثيل العالمي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتتعهد الوثيقة بـ "معالجة الظلم التاريخي ضد الأفارقة كأولوية، وتحسين التمثيل لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.

هنا السؤال مثار الكلام عند العوام "هل الدول الخمس الكبرى في الأمم المتحدة على استعداد للتنازل عن الامتياز التاريخي المعروف بحق النقض أو الفيتو، المناهض المؤكد للعدالة الدولية في الهيئة الأممية منذ تأسيسها إلى اليوم؟ أم أنها سوف توافق على منح عدد من دول العالم الحق نفسه، ما يعني أنها ستشرك آخرين في بلورة مشهد النظام العالمي، الأمر الذي لا يمكن توقعه عقلاً أو عدلاً؟

تبقى الحقيقة التي لا جدال فيها، أن حق النقض، في حد ذاته، يقوّض الشرعية الديمقراطية للمنظمة الأممية، ذلك أنه يمكن للقوى الكبرى من أن تنتهك كل مبدأ وهدف منصوص عليهما في الميثاق الأصلي، وليس بالجديد هذا، ومع ذلك، تظل عضواً في المنظمة من خلال الاستخدام القانوني للحق الممنوح لها.

هل حق النقض يمثل وجهاً للظلم التاريخي حول العالم؟

ذلك كذلك من دون أدنى شك، وعلى غير المصدّق أن تراجع حالات كثيرة منذ الخمسينيات اتخذ فيها "الفيتو ضدّ قرارات ترفع الظلم عن المظلومين شرقاً وغرباً، ولا تزال قرارات أممية عدة، اعترضت عليها واشنطن وموسكو، تمثل ندبة في جسد العدالة الدولية، وتختصم كل يوم من مصداقية المؤسسة العالمية الأممية"، ولعل الحجة التي بني عليها نظام حق "الفيتو"، والمتمثلة في كون الكبار هم من يصدون ويحدون من حالات عدم الاستقرار السياسي العالمي، تتهاوى وتترنح، وبخاصة في ظل تغير ملامح معالم القطبية العالمية، وظهور أطراف جديدة فاعلة، سواء من الدول، أو من الأطراف والكيانات الاعتبارية الفاعلة، أو المؤسسات غير الحكومية، وجميعها بات لها ثقل دولي عالمي، وعليه بات السؤال هل يمكن لمثل هذا الميثاق الجديد أن يغيّر من طبيعة هذا الحق غير العادل؟ أم أن الأمر مجرد سطور إنشائية ولو ارتدت مسوح أنبياء العدالة؟

ولعله من المثير جداً أن أصواتاً أميركية بالتحديد ارتفعت بالضدّ من هذا الميثاق، ما يطرح تساؤلات لماذا؟ على رغم أنه لا يزال رؤى غير واقعية وإمكانية بلورتها في خطط واستراتيجيات على الأرض تبدأ من عند الوصف بالصعوبة، وتكاد تصل إلى غير الممكن.

توصيات برفض ميثاق المستقبل

وكان من المثير أن ترتفع أصوات عدد من كبار الأكاديميين والمفكرين الأميركيين خلال الأيام القليلة الفائتة، بأن على واشنطن أن ترفض هذا الميثاق المستقبلي، والذي اعتبرته جهداً غير حكيم  لمنح مسؤوليات إضافية  لمنظمة غير قادرة على إدارة مسؤولياتها الحالية، وبدلاً من محاولة  استعادة الأمم المتحدة  لمركزيتها في الشؤون العالمية، ينبغي للأمين العام أن يدعو إلى إعادة التقييم والتقليص وإعادة التركيز، ذلك أن الجهود  المتغطرسة مثل ميثاق المستقبل غير الواقعي لا تؤدي إلا إلى تحويل انتباه الأمم المتحدة، وبما أنها لا تحقق الأهداف الموضوعة، فإنها تؤدي إلى المزيد من تآكل سمعتها.

الرأي المتقدم هذا يقف وراءه البروفيسور بريت د. شايفر زميل أبحاث أول من جاي كونينغهام في الشؤون التنظيمية الدولية في مركز "مارغريت تاتشر" للحرية في مؤسسة التراث الأميركية الشهيرة.

هل البروفيسور شايفر يعارض الميثاق الجديد من منطلق أنه يمكن أن يختصم من سطوة ونفوذ الولايات المتحدة الأميركية في عالمنا المعاصر، وعلى الضدّ من رؤى وقراءات معهد التراث، ذاك الذي بلور رؤية أميركا 2025 اليمينية الإشكالية المعاصرة؟ أم لأن الميثاق نفسه خلا من أي قيمة حقيقية ولا يتجاوز أن يضحى شعارات طنانة؟

يقطع شايفر بأن أي تركيبة في مجلس الأمن أمر يتطلب تعديل ميثاق الأمم المتحدة الأصلي، وهو ما يجب اعتماده وفقاً لعملية التصديق من جانب ثلثي الدول الأعضاء وجميع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ويتعيّن على مجلس الشيوخ أن يرفض التعديلات التي تقترح توسعاً كبيراً في مجلس الأمن إذا ما تم تقديمها إليه للحصول على مشورته وموافقته.

هل يمكننا أن نستنتج الجواب على علامة الاستفهام المتقدمة؟

غوتيريش، في غالب الأمر، يحاول وقبل أن يرحل، وهو راحل قريباً حكماً، لا سيما بعد أن صار شوكة في حلق القوى الدولية الكبرى، لا سيما واشنطن، ومن خلال مساندته الصريحة والواضحة للحق الفلسطيني، ولدولته المستقلة، ورفضه المؤكد لما تقوم به إسرائيل، نقول يحاول أن يبلور مشهداً مغايراً للأمم المتحدة.

وعلى رغم أن "ميثاق المستقبل" هذا غير ملزم، ويكاد يكون تشاورياً فقط، إلا أن القائمين على شؤون اليمين الأميركي المخيف، يرون فيه تهديداً لنفوذ أميركا، وللقرن الأميركي، ولزمن "الباكس أميركانا" الموعود.

شايفر يؤكد أن ميثاق المستقبل هذا يشكل محاولة من جانب الأمين العام غوتيريش لاستعادة مكانة الأمم المتحدة ومركزيتها في الشؤون العالمية، وهو ما يهدد مركزية واشنطن ودورها المحوري في قيادة العالم الجديد الذي يتخلّق في الرحم بأطراف متعددة، ومعه تخشى أميركا أن تصبح، وفي أفضل الأحوال "الأولى بين متساويين"، في حين أنها تتطلع لأن تضحى السيدة المسيطرة من دون منازع أو مشارك.

من هذا المنطلق، وفي براغماتية لا تخطئها العين، يرى شايفر، ولا شك أن أنداده ومن يلفّون له في الداخل الأميركي كثر، أنه كان على السيد غوتيريش، عوضاً عن ذلك، أن يدعو إلى إعادة التقييم والتقليص، وإعادة التركيز. فهناك محاولات وأنشطة، مثل المساعدات الإنسانية، حيث تستطيع الأمم المتحدة أن تقدم مساهمات فريدة. ويخلص إلى القول إن الجهود المتغطرسة مثل ميثاق المستقبل غير الواقعي، لن تؤدي إلا إلى تحويل مسار الأمم المتحدة، ولأنها تفشل في تحقيق أهدافها الموعودة، فإنها سوف تفقد الكثير والأكثر من سمعتها.

وفي الخلاصة، يبدو من الواضح جداً أن السيد شايفر لا يريد كياناً أممياً فاعلاً وناجزاً، يتقاسم المسؤولية الأممية، ويجنّب الهيمنة الأحادية الأميركية جانباً، إنه يتطلع، في أفضل الأحوال، لأن تضحى الأمم المتحدة جمعية شؤون اجتماعية عالمية لا تتجاوز تقديم المساعدات، أما إحقاق الحقوق وتحقيق العدالة العالمية، فهذا ما لا يريده.

هل كان فرنسيس فوكاياما رجل نهاية التاريخ على حق حين رأى، في مؤلفه الشهير "أميركا على مفترق الطرق"، أنه حان الوقت لإنشاء مؤسسات أممية جديدة وتكييف المؤسسات الموجودة لتلائم الظروف الحديثة؟

مؤكد أن الزمن تجاوز الأمم المتحدة بشكلها الماضي، وهناك حاجة إلى مؤسسات مغايرة، وغالب الظن أنها ستنشأ سواء قبلت واشنطن وبروكسيل وغيرهما أم لا، لا سيما أن عجلة التاريخ تقطع بأن هناك دورة أممية جديدة آتية لا محالة.

المزيد من تقارير