ملخص
لم يتضمن البيان الانتخابي لقيس سعيد برنامجاً اقتصادياً مفصلاً أو وعوداً انتخابية واضحة ومحددة بل اقتصر بيانه على أنه "لن يتردد في إعادة المرافق العامة المتعلقة بالصحة والتعليم والتنقل والضمان الاجتماعي وغيرها إلى سالف إشعاعها، بعد أن تم ضربها على مدى عقود"
ينتظر التونسيون وأصحاب المال والأعمال أن تكون العهدة الرئاسية الجديدة أفضل من سابقاتها في معالجة ملفات اقتصادية حارقة وعاجلة على طاولة الرئيس التونسي قيس سعيد، بعد أن فاز بولاية رئاسية ثانية حتى عام 2029 إثر حصوله على أكثر من 90 في المئة من ثقة التونسيين المقترعين خلال انتخابات السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.
إلى ذلك، يأمل المواطنون إثر إعادة انتخاب رئيسهم في محاربة الفساد والدفاع عن الطبقات الضعيفة وأن تتحسن أوضاعهم المعيشية على محاور عدة باتت ملحة، في مقدمها توفير المواد الاستهلاكية الأساس التي تظهر وتغيب من حين إلى آخر مع تحسين الدخل في ظل ارتفاع مستوى المعيشة وسط بقاء التضخم عند مستويات مرتفعة 6.7 في المئة حالياً.
وفي غضون ذلك، يجمع المتخصصون في الاقتصاد على أن العهدة الرئاسية الجديد مليئة بالتحديات الاقتصادية الواجب على الرئيس التونسي كسبها، وفي مقدمها رفع نسق نمو البلاد الضعيف الذي لا يزيد على واحد في المئة خلال الأعوام الماضية، حتى يستوعب معدل البطالة المرتفعة وتحسين مناخ الأعمال وإصلاح قوانين الاستثمار.
وحدد المتخصصون في تصريحاتهم إلى "اندبندنت عربية" الملفات الاقتصادية العاجلة والحارقة التي على الرئيس التونسي التركيز عليها خلال الأعوام الخمسة المقبلة، متقدمين بمقترحات عدة وتوصيات في الغرض.
آن الأوان لبناء الاقتصاد الوطني
لم يتضمن البيان الانتخابي لقيس سعيد برنامجاً اقتصادياً مفصلاً أو وعوداً انتخابية واضحة ومحددة بل اقتصر بيانه على أنه "لن يتردد في إعادة المرافق العامة المتعلقة بالصحة والتعليم والتنقل والضمان الاجتماعي وغيرها إلى سالف إشعاعها، بعد أن تم ضربها على مدى عقود".
واعتبر سعيد في بيانه الانتخابي الذي حمل شعار "الشعب يريد البناء والتشييد" أنه آن الأوان لبناء الاقتصاد الوطني وإعادة بناء المؤسسات العمومية بعد تطهيرها، ووضع تشريعات جديدة تستعيد بواسطتها الدولة دورها الاجتماعي، مضيفاً أن "التحديات كثيرة والإصرار على تخطيها قوي، وأنه لن يتراجع أبداً عن رفع تحدي تطهير البلاد، وإزالة كل العقبات مهما كان حجمها ومأتاها ومهما كان مرتكبوها".
وأشار إلى أنه من بين التحديات الماثلة الحق في العمل بمقابل مجز وعادل، إلى جانب تحقيق الاستقرار في العمل والكف عن الاتجار بالحقوق الطبيعية لكل إنسان في حياة كريمة، مؤكداً أنه لن يقبل بأنصاف الحلول وأنه سيعول في المقام الأول على الإمكانات الذاتية.
عهدة رئاسية اقتصادية بامتياز
وتعليقاً على ذلك، قال المتخصص في الشؤون الضريبية وعضو المجلس الوطني للجباية (مجلس استشاري) محمد صالح العياري إن "المرحلة المقبلة لتونس تتسم بعهد رئاسية جديدة بخمسة أعوام ستكون اقتصادية بامتياز".
وأكد أن "هناك جملة من التحديات على الرئيس التونسي أن يركز عليها بل عليه أن يسرع في حسمها"، موضحاً أن "تلك التحديات تتعلق بضرورة التعجيل بسن قانون الصرف الجديد الذي بات أمراً ملحاً في ظل قانون صار بالياً يعود إلى عام 1976، خصوصاً أن قانون الصرف الحالي صار معرقلاً للاستثمار".
وفي سياق متصل بالاستثمار، دعا العياري الرئيس التونسي إلى التدخل لمراجعة قانون الاستثمار ومسايرة التحولات الاقتصادية العالمية، وإدراج الطاقات المتجددة والاقتصاد الأخضر وتكنولوجيات الاتصال والمعلومات، واعتبر العياري أن قانون الاستثمار الحالي الذي دخل حيز النفاذ خلال عام 2016 لم يعد ملائماً للحركة الاستثمارية الدولية التي باتت تفرض إدخال تغييرات مهمة على قانون الاستثمار التونسي من أجل جذب كبرى الشركات العالمية بإقرار تحفيزات ضريبية جريئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبما أن عهدة الرئيس التونسي تتزامن مع المخطط التنموي الجديد لتونس 2025 - 2030 أوصى العياري أن يكون ذلك منطلقاً جديداً لتغيير منوال التنمية في تونس".
وبوصفه متخصصاً في الشأن الضريبي، أوضح العياري أن "العهدة الجديدة يحب أن تتبعها إجراءات قوية في ملف العدالة الضريبية في تونس، وهي مسألة قال إن الرئيس التونسي يراهن عليها وسبق أن نبه في عديد من المناسبات بالثغرات في العدالة الضريبية وارتفاع أعداد المتهربين مما أحدث هوة كبيرة ما بين المطالبين بالضرائب وأكثرهم الموظفون، والمتهربين من واجبهم الضريبي".
واقترح العياري إعادة النظر في جدول الضريبة على الدخل بالتخفيف من الاقتطاعات على الموظفين وأصحاب المهن الصغيرة بطريقة ترفع من دخلهم الشهري أو السنوي، من دون الحاجة إلى إقرار زيادات في أجور الموظفين .
رسالة طمأنة لرجال الأعمال
وبالتوازي مع الفترة الرئاسية الجديدة، طالب محمد صالح العياري بسن عفو جبائي يكون بمثابة إشارة قوية من رئيس الدولة إلى الدخول في مرحلة جديدة، ورسالة طمأنة لرجال الأعمال والمستثمرين التونسيين بأنهم ليسوا أعداء بل إنهم معنيون أيضاً بحرب التحرير التي ما انفك يركز عليها الرئيس قيس سعيد، مقترحاً أن يُتخذ خلال الفترة الرئاسية الجديدة قرار رئاسي بتغيير العملة في خطوة مهمة لتطويق القطاع الموازي أو غير المنظم، موضحاً أن قرار تغيير العملة قد يدر على خزانة الدولة نحو 40 مليار دينار (10 مليارات دولار)، إذ سيكون لزاماً على العاملين في القطاع الموازي والمالكين لأموال طائلة أن يتوجهوا إلى البنوك لاستبدال الأوراق النقدية الجديدة بالقديمة.
مؤشرات اقتصادية ضعيفة
ويعاني اقتصاد تونس خلال الأعوام الأخيرة عدداً من الإشكاليات الهيكلية عمقتها أزمات ظرفية في مقدمها تداعيات جائحة كوفيد والحرب الروسية – الأوكرانية، التي أفقدت البلاد توازناتها المالية ودفعتها إلى زيادة وتيرة الاقتراض الداخلي في ظل عدم التواصل مع صندوق النقد الدولي ورفض شروطه، التي وصفها الرئيس التونسي خلال وقت سابق بأنها "ستؤثر في السلم الأهلي في البلد".
على أية حال، لم تحقق تونس خلال الأعوام الـ10 الأخيرة الإقلاع الاقتصادي المنشود مثلما يخطط له رؤساء الحكومات المتعاقبة، مما أدى إلى نتائج عكسية بتسجيل مستويات ضعيفة للنمو لا تمتص بطالة الشباب الراغب بشدة في الهجرة غير القانونية إلى أوروبا، إضافة إلى تراجع مناخ الاستثمار وارتفاع التضخم وشطط الأسعار.
إرجاع الثقة
ومن جانبه رأى المتخصص في الشأن الاقتصادي بجامعة "قرطاج" معز السوسي إنه "من الضروري أن تتسم العهدة الرئاسية الجديدة باستعادة الثقة في الاقتصاد التونسي، وإعداد خريطة طريق اقتصادية واضحة المعالم في مدى زمني واضح ومحدد في ظل أشغال مقدمة عليها البلاد خلال الأعوام المقبلة". وشدد السوسي على أن إرجاع الثقة في اقتصاد البلاد أمر ضروري سواء للمستثمرين المحليين أو الأجانب عبر إقرار حزمة من الإجراءات والإصلاحات الاقتصادية، قائلاً "يجب أن تكون جريئة بالصورة المطلوبة لإعطاء الدفعة اللازمة". ولفت السوسي إلى أن "أحد أبرز الملفات الشائكة على طاولة رئيس تونس يتمثل في معالجة مستوى البطالة المرتفعة الذي وصل إلى 16 في المئة حالياً"، مشيراً إلى أن ذلك لن يتحقق إلا باستهداف وتيرة نمو جديدة خلال الفترة 2025 - 2030 وضبط أهداف طموحة لاستعادة نسق التنمية المفقود.
أضاف "من ضمن الملفات الواجب على الرئيس قيس سعيد الاهتمام بها خلال الولاية الرئاسية للأعوام الخمسة المقبلة التعايش بين القطاعين العام والخاص، وعلى الحكومة أن تعي أن القطاع الخاص في تونس يشكل القاطرة الحقيقية القادرة على امتصاص البطالة وتحقيق التوازن الهش بين المحافظات".
الابتعاد من الشعبوية الاقتصادية
ورجح السوسي أن تكون الخماسية المقبلة صعبة من حيث مستوى الخيارات الاقتصادية في ظل تواضع المؤشرات الحالية، داعياً السلطات إلى مراجعة أخطاء الماضي والابتعاد مما وصفه بـ"الشعبوية الاقتصادية"، موضحاً أن "الشعبوية الاقتصادية ميزت العشرية السوداء التي أدخلت البلاد في دهاليز مظلمة تبحث عن الخروج منها بأخف الأضرار".
من جانب آخر، أوصى المتخصص في الشأن الاقتصادي بجامعة "قرطاج" بأهمية إعادة العلاقة مع صندوق النقد الدولي والامتثال إلى ضوابط الفصل الرابع من قانون الصندوق الذي ينص على إجراء مراقبة دورية لاقتصاد تونس، لافتاً إلى أنه لا يمكن ربح ثقة المانحين الدوليين إلا من خلال استعادة العلاقة مع صندوق الدولي المعلقة منذ أكثر من عامين بما ييسر الخروج على الأسواق المالية بنسب فائدة مقبولة.
لا عداء لسعيد مع رجال الأعمال
وقال مدير الحملة الانتخابية للرئيس التونسي نوفل سعيد إنه "لا عداء للرئيس مع رجال الأعمال بل يرفع عنهم العراقيل"، مستدركاً "لكنه ضد توظيف مقدرات البلاد لمجموعة بعينها ولوبيات الفساد". وأكد في تصريحات إعلامية بعد انتهاء الانتخابات "بإمكانك كمستثمر الربح من دون الاستيلاء على مقدرات الدولة من أجل مجموعات ضغط ومصالح ضيقة".
إحداث ثورة تشريعية
في الأثناء، دعت الجمعية التونسية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة من خلال رئيسها عبدالرزاق حواص إلى إحداث ثورة تشريعية لتحسين النمو الاقتصادي داخل تونس. وقدمت الجمعية حزمة من المقترحات عدتها سهلة وعملية، من أهمها التسهيل على المستثمرين بإنهاء جميع الإجراءات الإدارية في مكان واحد مع مهل زمنية محددة، واعتماد الرقمنة لتقليل الحاجة إلى الوثائق الورقية. ورأت أن على الرئيس التونسي أن يدفع باتجاه مراجعة شاملة للنظام الضريبي تتضمن توسيع القاعدة الضريبية، وتقليل الفجوات بين الشرائح الضريبية المختلفة وربط الضريبة بالقدرة الاقتصادية للفرد أو المؤسسة.
أما في مجال تحسين التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تشكل نحو 90 في المئة من النسيج الاقتصادي في البلاد، فاقترحت الجمعية سنّ قانون يشجع المؤسسات المالية على تقديم تمويلات بشروط ميسرة للشركات الصغيرة والمتوسطة، بما في ذلك ضمانات الدولة للقروض.