Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لبنانيون في يوميات النزوح: آلام نفسية تحت القصف

تتفاوت مناعة اللبنانيين الفارين من الصواريخ الإسرائيلية في ظل أوضاع الاكتظاظ والواقع الجديد

 شاب نازح يجلس على الرصيف في بيروت أمام جدارية مكتوب عليها "لبنان للجميع" بجوار شجرة أرز (أ ف ب)

ملخص

عاش النازحون حالات من الصدمة النفسية بسبب اكتظاظ أماكن النزوح في لبنان وعدم توافر الخدمات الأساسية، فيما يتطلع آخرون إلى السفر لخارج البلاد بحثاً عن الأمان.

"ليس سهلاً أن تتحول إلى نازح في بلدك، ولكن البحث عن الأمان والبقاء على قيد الحياة هو الهدف حالياً"، هكذا يختصر سالم علي قشور النازح من النبطية إلى طرابلس. داخل المسرح الوطني، يحافظ الرجل السبعيني على روتينه اليومي الذي يتمحور حول الكتاب والتجول ضمن المدينة والحديقة العامة وجلسات النقاش الأدبي والفكري بوصفه ناشراً ومؤلفاً.

يروي قشور رحلة الخروج التي حفرت في ذاكرته، "لم يكن الـ23 من سبتمبر (أيلول) الماضي يوماً عادياً، فتحنا أعيننا على قصف شديد غير مسبوق، على خلاف باقي أيام الإثنين في النبطية التي تكون على موعد مع السوق الشعبية الأسبوعية"، واشتد القصف على المدينة والمحيط خلافاً للتوقعات، "ربما كانت قراءتنا السياسية خاطئة".

بدأ الناس بالنزوح، واستغرقت رحلة عائلة قشور إلى بيروت 13 ساعة، إلا أن سالم قرر البقاء، وصمد في أحد المكاتب لغاية الأربعاء عندما استجاب لمطالب العائلة المتكررة. وصل إلى طرابلس وفي الطريق عاين مناطق تعرضت للقصف وأناساً هجروا مدنهم وهربوا نحو ملاذ آمن.

روتين المدينة

ترك سالم عائلته في بيروت "لكي لا يشكل عبئاً عليها"، وبقي على اتصال معهم عبر الهاتف، ولجأ إلى طرابلس حيث "بدأ رحلة فهم المدينة المشرقية"، وكتابة الخواطر اليومية. حافظ على روتينه اليومي الذي تتضمنه ورقة صغيرة، وبدأ رحلة التكيف مع حياته الجديدة برفقة الصلاة والقهوة اليومية وقراءة الجريدة.

 

يقول سالم "عشنا الحروب والتغيرات كافة، بدءاً من الحركة الناصرية والاجتياح الإسرائيلي والحرب الأهلية، وصولاً إلى التحرير عام 2000". وقبل انتصاف النهار، يغادر قشور المسرح الوطني ليجول في ساحة التل، ويتجه إلى الحديقة العامة "المنشية للتأمل والكتابة، قبل الجلوس في المقهى لتدخين نرجيلة التنباك". يعتقد قشور بأن "كل غازي مصيره الانهزام، ولذلك فهو يعيش على أمل العودة لدياره، ولو بعد حين".

أمهات يبحثن عن الأمان

يتضاعف منسوب القلق لدى الأمهات لأن الخوف لا يقتصر عندهن على أنفسهن، وإنما يتجاوزه إلى الأبناء. روت مجموعة من الأمهات الجنوبيات في حديثهن إلى "اندبندنت عربية" تفاصيل رحلة النزوح من قراهن إلى الملجأ الموقت.

من أنصارية (قضاء صيدا)، نزحت سوسن برفقة أطفالها الثلاثة إلى منطقة بشامون، ريثما تيسر لها الأمر وتغادر إلى أفريقيا بحثاً عن الأمان، وتؤكد أنه "لم تكُن لدينا النية بمغادرة بيوتنا، ولكن بعد سلسلة الأحداث بدءاً بتفجير أجهزة الـ’بيجر‘ واغتيال القيادات الحزبية، ومن ثم استهداف أحد المنازل القريبة ومقتل مسنة، عندها حضرنا الحقائب لأوقات الطوارئ".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عاشت العائلة لحظات من الخوف بسبب صراخ المواطنين والحديث عن وجود طائرات في الجو واستهداف أطراف الطرقات في الغازية، وقالت "كنت أحاول تسليتهم وأقول لهم هذا ليس قصفاً وإنما جدار الصوت، والأمر نفسه تكرر عند تردد أصوات استهداف الضاحية الجنوبية إلى حيث نقيم ضمن شقة أحد الأصدقاء في بشامون".

استغرقت الطريق إلى بيروت تسع ساعات، وهنا تقول سوسن "اختبرت ابنتي الكبرى (ثماني سنوات) مشاعر الخوف وضغوط الحرب، والجوع خلال الطريق بسبب إغلاق المصالح، كما أنها عايشت عملية البحث عن تكيت (تذكرة) في السوق السوداء من أجل المغادرة".

وتزداد المعاناة في أوساط التجمعات الكبيرة، إذ تضطر عائلات عدة إلى مشاركة شقة واحدة، أو الإقامة في مراكز الإيواء غير المجهزة أصلاً للسكن، فيما تستمر عشرات العائلات في العيش بالعراء على الكورنيش وتحت الجسور، أو المبيت داخل السيارات.

تشير رهام (أم لثلاثة أطفال) إلى أنه "طوال عام عايشنا أجواء القصف وجدار الصوت والطيران المسيّر، ولكن عندما بدأ القصف على منازل كفر ملكي، تسلل الخوف إلى قلوبنا وتضاعف بسبب وجود الأطفال"، وتضيف أنها "كانت لحظات صعبة، عندما اضطررنا إلى ترك المنازل بما علينا من الملابس، ونسيان بعض الأغراض الأساسية والمهمة للمعيشة". وتمضي في حديثها، "في كثير من الأحيان، نعجز عن تفسير ما يجري للأطفال، ونُفاجأ بأن الصغار واعون لما يحدث، وأن القصف يحدث صدمة موقتة، ومن ثم تمضي".

يسأل الأطفال في مراكز الإيواء الموقتة عن تفاصيل حياتهم الجديدة ويلحون في كثير من الأحيان بطلب أغراضهم القديمة وملابسهم المفضلة وألعابهم، ناهيك عن السؤال المتكرر في شأن أصدقائهم ورفاق المدرسة، كما يشعرون بالشوق إلى آبائهم وأشقائهم وسائر رجال العائلة الذين بقوا في القرى لحفظ ممتلكاتهم.

الطبيعة

بحثاً عن ملجأ آمن، خرجت غدير من دارتها في الطيونة، الواقعة على مشارف الضاحية الجنوبية، قاصدة بشامون ظناً منها أنها أكثر أماناً، ولكن مع اشتداد القصف على الضاحية، قررت المغادرة نحو الشمال. تتحدث عن عيش لحظات مأسوية، فعند كل غارة كانت تشعر بأن الأخطار باتت أشد وأن الدور مقبل عليهم لا محالة.

وتضيف "شغلنا المروحة على أعلى درجة لنتوقف عن سماع الطائرات، وبتنا ننتظر أن يبزغ الفجر للمغادرة، وفي الأثناء كنا نستمع إلى أحاديث وصراخ من هربوا خارج منزلهم خوفاً من سقوطها على رؤوسهم". وفي اليوم التالي، توجهت شمالاً، كانت المحطة الأولى في البترون، وتتحدث عن صدمتها من نوعية الأماكن التي كانت تعرض على النازحين، قائلة "عرض علينا شاليه، ولكن عندما ذهبنا إليه كان أشبه ما يكون بالغرفة المهجورة، وراحت ابنتي تبكي وتطالب بالعودة لبيروت".وتتابع أنه "في البداية، كنت أفكر أن الأولوية لسقف يحمينا، ولكن كان برفقتي طفلان، وهما في حاجة إلى ماء ومكان نظيف من أجل رعايتهما. بعد ذلك توجهنا نحو عكار، وبقينا عندقت البعيدة من بيروت، ولكن وجدنا هناك الأمان، ونعيش حياة شبه طبيعية". سريعاً ما تعرفت غدير إلى المحيط، وبدأت بخوض تجارب جديدة مع أهالي البلدة من خلال رياضة الـ"هايكنغ" والسير في الطبيعة، مما ساعدها على التعافي نفسياً بصورة جزئية. 

الاكتظاظ الضاغط 

يعيش مليون و200 ألف نازح في لبنان داخل دوامة الصراع القائم بين قلق من المستقبل، ومحاولة التكيف مع الواقع الجديد، ويشكل السكن ضمن أماكن مكتظة وفقدان الخصوصية وفراق الأحبة و"الاجتثاث" من الجذور، أكثر العوامل الضاغطة على سلوكياتهم اليومية. وتسهم الإشاعات والبلاغات الكاذبة في تعميق معاناة النزوح، وآخرها إخلاء مهنية دير عمار في المنية شمال لبنان بسبب اتصال من رقم مجهول والتهديد بالاستهداف، فحمل النازحون فرشهم وأغراضهم وهربوا خارجاً.

 

 

في الموازاة، تحولت المدارس والمهنيات إلى أماكن للإيواء، لتتكرر مشاهد الاكتظاظ داخل المراكز، حيث تزدحم الغرف بالفرش وتعلو الأصوات حيناً وتخفت أحياناً، فيما يحاول بعضهم التكيف مع الواقع الجديد والجلوس في الممرات والملاعب وتدخين نرجيلة المعسل، أو تناول بعض الوجبات الخفيفة التي "لا ترقى إلى جميع الأذواق في بعض الأحيان"، فيما يطيلون السهر لساعات الفجر هرباً من الجدران الأربعة.

يشكل الهاتف رابطاً بالموطن والجذور، إذ يتابعون أخبار الاستهدافات والمعارك، ويسألون من بقي في القرى عن بيوتهم، ويتفاعلون مع أخبار تدمير منزل من هنا، ومتاجر من هناك.

في المقابل، تشكل المراحيض والحمامات عامل ضغط، فداخل أحد مراكز النزوح في طرابلس، لا يوجد في الطابق سوى مرحاضين، أحدهما للنساء والآخر للرجال، ويضطر قرابة 50 شخصاً إلى التناوب عليه. ويتحول "الدوش"، وسيلة الاستحمام، إلى لحظة محرجة يقتنصها القاطن، ويكون من أصحاب الحظ الكبير من يظفر بالماء الساخن.

المناعة النفسية

داخل مراكز النزوح، يكثر المتطوعون في الأنشطة الترفيهية التي تساعد الأطفال على تجاوز أجواء الضغط، وتنظم ورش الرسم والتمثيل والغناء، إضافة إلى المسابقات الرياضية، إلا أن تلك الأنشطة غير كافية من دون تقديم الدعم النفسي لتعزيز المناعة الذاتية للنازح.

وتشخص المتخصصة في علم النفس الدكتورة عائدة عبود الحال التي يعيشها النازح من وجهة نظر سيكولوجية، فهو "شخص بلغ مرحلة السلامة الجسدية بعد تعرضه لخطر كبير، إلا أنه يحمل جراحاً نفسية عميقة"، كما أنه "شخص انفصل عن بيئته ويعيش حالاً أشبه بالحداد على المرحلة السابقة لما كان ينعم من هناء وراحة وتناغم مع المحيط. لذلك، فهو يعاني حالاً من الانزعاج، ولكنه مضطر إلى التكيف مع الواقع الجديد، وما لا يمكن تجاهله هو تعرض النازح لصدمات وأحداث مؤلمة وخسارات أثناء الخروج".

 

وتشير دراسات مجلة الصحة النفسية والعقلية إلى أن "22 في المئة ممن تعرضوا لحروب يعانون اضطرابات نفسية، تراوح ما بين قلق ونوبات هلع واضطراب ما بعد الصدمة الذي يترافق مع عدم نوم أو أفكار سوداوية واكتئاب، أو اضطراب ثنائي القطب"، بحسب عبود التي تضيف أن "المؤشرات لا تظهر مباشرة، بل تستغرق بعض الوقت"، فضلاً عن أن الاكتظاظ يؤدي إلى مزيد من المشكلات والصدامات. 

وتتحدث عن تفاوت في الصلابة النفسية للأشخاص، قائلة "لا يمتلك جميع الناس المستوى نفسه من الكفاءة في التأقلم مع التحديات الجديدة، وتظهر صعوبة التأقلم لدى بعضهم، لذلك لا بد من تقديم مساعدة في كثير من الأحيان"، بالتالي تدعو عبود إلى "تقبل الواقع الجديد بوصفه أفضل الممكن وتغيير النظرة إلى ما هو موجود"، والبحث عن كيفية التعامل مع الملجأ حيث يقيمون وممارسة بعض النشاطات مثل الرسم أو الأنشطة الثقافية المختلفة والرياضة، إضافة إلى القيام ببعض الإجراءات على غرار فصل الأغراض الشخصية والغطاء ووضع سماعات الأذن لقضاء بعض الوقت الخاص والانفصال عن مصادر الإزعاج الخارجية، ناهيك عن المحافظة على الروتين وترجمة المشاعر الداخلية. وتقترح التواصل مع الدائرة المقربة والموثوقة من أجل الحصول على الدعم.

وتلاحظ عبود أن "كبت النازح لمشاعره وعدم ممارسة طقوس الراحة والفرح، ظناً منه أن ذلك نوع من أنواع الوفاء للأهل لا يفيدان، بل يجب أن يخرج من دائرة الذنب إلى ممارسة الحق في القيام بعض الأنشطة التي يحبها والعمل على مساعدة الآخرين المحيطين به ورسم البسمة على وجوههم".

وتنوه بجهود الاحتضان التي تبذلها المجتمعات المستضيفة، قائلة إن "إظهار المشاعر الإنسانية ضروري لكي لا يعيش النازح حال الغربة"، وتؤكد أن "الاحتواء يساعد على تخفيف معاناة النازحين، ومحاربة حال الإنكار والانفصال عن الواقع".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير