Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اللبنانيون "متعبون نفسياً" والحرب الحالية تضاعف الصدمات

دراسة حديثة أكدت فقدان شريحة واسعة القدرة على الصمود التي تمتعوا بها سابقاً

يتعرض المواطن اللبناني إلى أزمات متتالية بشكل لا يسمح له بالنهوض واستعادة صحته النفسية (ا ف ب)

ملخص

أظهرت الأرقام أن ثلثي اللبنانيين يعانون اضطرابات نفسية مما يعكس واقعاً كارثياً يستوجب التدخل. فما الذي قد يساعد المواطن اللبناني على الحد من هذا الخطر في ظل الأزمات؟

صدمات متتالية يتعرض لها المواطن اللبناني خلال الأعوام الأخيرة مع الأزمات والكوارث التي تتعاقب، وصولاً إلى الحرب الحالية. أما عن الصمود وقدرة المواطن اللبناني على تخطي الصدمات التي يتغنى بها الكل، يتساءل كثر حول ما إذا كانت لا تزال من ميزاته بعد كل ما تعرض له من صدمات تسببت بهشاشة في صحته النفسية.

وتأتي دراسة حديثة أجراها طبيب الأمراض النفسية ومؤسس جمعية "إدراك" البروفيسور إيلي كرم لتؤكد أن المواطن اللبناني ليس بخير بالفعل، إذ أظهرت أول دراسة وطنية في لبنان حول انتشار الاضطرابات النفسية وأجريت بالتعاون مع جامعة "هارفرد"، أن ثلثي اللبنانيين يعانون اضطرابات نفسية على اختلاف أنواعها ومنها اضطرابان تعانيهما 50 في المئة منهم.

أرقام تعكس الواقع فعلاً

في الدراسة التي أجريت على شريحة ضمت 2857 لبنانياً فوق 18 سنة تبين أن 50 في المئة من المشاركين يعانون الاكتئاب والقلق، هذا ما أكده كرم في حديثه مع "اندبندنت عربية" مشيراً إلى أن الدراسة أجريت وفق المعايير العلمية التي تجرى على أساسها الدراسات لتعكس الواقع بصورة أمثل، فضمت مواطنين من مختلف الشرائح والمناطق والمجتمعات.

نتائج الدراسة التي أكدت أن 50 في المئة من المشاركين يعانون القلق والاكتئاب وأن قرابة ثلثي المواطنين يعانون اضطرابات نفسية متنوعة تبدو كارثية، وناتجة حكماً من صعوبة الواقع الذي يعيش في ظله المواطن اللبناني.

وبحسب كرم فإن الحديث عن أن 60 في المئة من اللبنانيين يعانون اضطرابات نفسية بمعناها الحقيقي تعد مسألة لا يمكن الاستهانة بها، مضيفاً "قلائل هم من يحصلون على المتابعة النفسية اللازمة، وقد يقتصر الدعم على المساعدة النفسية من قبل المحيطين". وأضاف "لا يمكن أن ننكر أنه في لبنان ما يخفف عن المواطن هو وجود وسائل ترفيه ومحيط داعم. ويساعد ذلك على الحد من الضغط النفسي، لكن من المؤسف أنه في ظل ظروف الحرب الحالية، فقدت وسائل الترفيه أيضاً كما يبدو واضحاً ولا تتاح هذه الفرصة حتى للمواطن".

ومضى طبيب الأمراض النفسية في تحليله بقوله "الأسوأ أن كثيراً من المواطنين غادروا البلاد بسبب ظروف الحرب مما أفقد المواطن آليات التأقلم والمواجهة التي كانت تخفف من الضغط النفسي الذي يتعرض له، فدعم المحيط خف بالمقارنة مع السابق، وفقدت وسائل الترفيه التي كان يعتمد عليها. لذلك يبدو الكل متعباً الآن كما يبدو واضحاً على من هم من حولنا".

في ظروف مماثلة يشدد كرم في حديثه على أهمية الدعم الجماعي حين يساعد كل الآخر، حتى إن الوجود ضمن مجموعات بحثاً عن الترفيه مسألة إيجابية تساعد على الحد من الضغط النفسي، إضافة إلى خطوات عديدة أخرى سريعة وسهلة لها أثر إيجابي.

وعن هذه الخطوات يقول "عدم مشاهدة أخبار الحرب وتجنب متابعتها بصورة متواصلة لأثرها السلبي الواضح وتجنب التحدث عن الحرب وتفاصيلها، وضرورة إدراك الكل أنها مرحلة صعبة على الكل وتأثيرها يطاول الأفراد كافة، وممارسة الرياضة للشعور بتحسن لأن استخدام الجسم عبر القيام بنشاط بدني يساعد بصورة واضحة على تهدئة الدماغ وإبعاد التفكير بأمور سلبية معينة، والابتعاد من استهلاك الكحول لأنها ليست الحل أبداً في مثل هذه الظروف في مواجهة الواقع، والتحضير لمشاريع واجتماعات يحضر فيها كل فرد أطعمة معينة يمكن تناولها ضمن المجموعة مما يساعد على تنمية العلاقات الاجتماعية والحد من التوتر والقلق من خلال المشاركة. فهي من الوسائل التي تبدو كتنفس للدماغ لتجنب الضغوط الزائدة".

انعكاس للواقع

أما إذا اتجهت الأمور نحو الأسوأ بصورة لا تبدو فيها هذه الوسائل مجدية، فمن الضروري البحث عن المتابعة الطبية والعلاجية، لكن يشدد كرم في الوقت نفسه على أنه ليس الكل يحتاج إلى علاج كما يعتقد كثر، بل وحده الطبيب يحدد ذلك ولا يمكن اللجوء إلى المهدئات بصورة عشوائية، إذ يصفها الطبيب حصراً في الحالات المتقدمة وفي حالات معينة. 

بالنظر إلى الواقع في لبنان فإن الأرقام التي أظهرتها الدراسة ليست مجرد كلام نظري لدراسات، بحسب رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى أوتيل ديو دو فرانس الدكتور رامي بو خليل، فهي تعكس الواقع بالفعل، ويمكن تأكيد ذلك بالنظر إلى الحياة اليومية في لبنان والظروف السائدة في البلاد، مع كل ما يتعرض له المواطن من أزمات وصدمات.

وتابع "ما نشهده في لبنان يؤكد فعلاً ارتفاع أعداد المواطنين الذين يعانون اضطرابات نفسية، نظراً إلى أعداد من يحتاجون إلى مساعدة نفسية ومن يلجأون إلى العيادات، ومن يتناولون أدوية مهدئة من دون وصفة طبية. فكلها عناصر تدل على أن أكثر من نصف المواطنين يعاني هذا النوع من الاضطرابات النفسية أي اضطراب يشخص استناداً إلى عارض نفسي أو فكري يطاول السلوك أو الأفكار أو المشاعر. كما أن تشخيص الاضطرابات النفسية يرتبط بالفترة الزمنية أيضاً، وهي حالات تستمر لأسابيع أو حتى أشهر في بعض أنواعها، وعندها يكون من الممكن التحدث عن اضطرابات بالفعل".

القلق والاكتئاب أولاً

في الأزمات التي تحصل في لبنان تغلب حالات القلق والاكتئاب بالفعل، وتعد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً. وفي الطب النفسي يرتبط القلق بعدم قدرة على الشعور بهامش المناورة، والقدرة على التحرك في المستقبل وانعدام الشعور بالأمان، وعدم القدرة على التخطيط للمستقبل. ويؤدي ذلك إلى حال خوف تترجم بالإنكار والشرود الذهني وقلة التركيز، وعدم قدرة على التحمل ونوبات غضب وتفادي أمور عديدة في الحياة مثل الحياة الاجتماعية، والتوجه إلى أماكن معينة.

ولعل من يصاب بالحال السابقة يستبعد مجالات عديدة في حياته بسبب الخوف حتى إنه جسدياً يزيد الشعور بأوجاع، ومشكلات في الجهاز الهضمي والتعب. أما من يعاني الاكتئاب، فيفقد السعادة والشعور باللذة باهتمامات معينة في الحياة وهوايات فلا يجد متعة في أمور كانت تجذبه، ويعاني هبوطاً في المزاج مع فقدان اللذة في الحياة. ويترافق ذلك مع مشكلات ذهنية كقلة التركيز وضعف الذاكرة وأوجاع وتعب ومشاعر أخرى مثل الشعور بالذنب. وفي حال عدم المعالجة، تؤدي الحال إلى التفكير بالانتحار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يترافق هذان النوعان من الاضطرابات عادة مع أنواع أخرى من المشكلات في فترات الأزمات، مثل اضطراب قلق ما بعد الصدمة. علماً أن المشكلات الاقتصادية لا تسبب اضطراب ما بعد الصدمة، بل قلقاً على المستقبل مما قد يقود إلى الاكتئاب خصوصاً بعد أعوام. وفي المقابل، ما يسبب اضطراب ما بعد الصدمة هو حدث مفاجئ مثل تفجيرات "البيجر" أو انفجار المرفأ، وعندها تظهر حال قلق مع استعادة الأحداث التي لها علاقة بالصدمة، وتغييرات في الجسم. ويشعر المريض بتنبه دائم وعجز عن إيجاد الهدوء، مع فترات من الضياع والارتباك، وانعدام الاتصال بالواقع. ومن الاضطرابات التي قد تزيد في ظل الظروف الحالية الاضطرابات الغذائية والإدمان على الكحول والمخدرات والحبوب المهدئة. ففي ظروف مماثلة يحاول الإنسان أن ينسى عبر استهلاك هذه المواد ليشعر بالسيطرة على الوضع وهو اضطراب بحد ذاته، خصوصاً أن هذه المواد تفقد فاعليتها مع الوقت، كما أن وقفها صعب جداً، ويتطلب الدخول إلى المستشفى، وعلى المدى البعيد إذا لم تؤد إلى الوفاة، تسبب أضراراً في الأعضاء كالكبد والقلب.

الاستعداد الوراثي أحد الأسباب

يعد أكثر عرضة لهذه الاضطرابات من لديهم استعداد وراثي وعائلي، فهناك ميل إلى القلق والاكتئاب في بعض العائلات، وعند التعرض لصعوبات كتلك التي تمر بها البلاد يظهر هذا النوع من الاضطرابات. أيضاً من كانوا يعانون قبل الأزمات اضطرابات في الصحة النفسية ويلقون علاجات ترتبط بالشخصية مثل انفصام الشخصية وغيرها، يكونون في الأزمات أكثر عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب، واستهلاك المواد المخدرة.

والفئة الأكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية تضم من هم أكثر ضعفاً، وليس لهم هامش تحرك أو يعجزون عن القيام بمبادرة لحل المشكلات، ويعتمدون على الآخر مثل الأطفال والمسنين. أيضاً تعد النساء أكثر عرضة للاضطرابات النفسية لأن المرأة أكثر عرضة للتأثر عاطفياً بالأحداث من الرجال. هذا، إضافة إلى الرجال المسؤولين عن بيت وعائلة أو أهله ويتخذون قرارات تخص آخرين.

ويقول الدكتور رامي بو خليل "إذا جمعنا كل هذه الفئات نلاحظ أن كل فئات المجتمع عرضة بنسب متفاوتة للاضطرابات النفسية. فعلى رغم وجود عوامل تجعل بعض الفئات أكثر هشاشة، لكل فئة صعوبة معينة مع نوع معين من الاضطرابات بحسب نوع الأزمة استناداً إلى عوامل ترتبط بحياتها، تبقى الفئات الأكثر هشاشة من الناحية النفسية كمن يعانون أصلاً اضطرابات نفسية أكثر عرضة لهذه الاضطرابات في الأزمات. لذلك من الطبيعي أن تكون نسب المصابين بالاضطرابات النفسية مرتفعة وتبدو الأرقام المرتفعة حقيقية لأن الكل معني بصورة أو بأخرى بالأزمات على اختلافها. ولا يعود مستغرباً أن يعاني معظم المواطنين اللبنانيين اضطرابات نفسية".

الاضطرابات النفسية حول العالم وبخاصة في لبنان

وفق ما يوضحه طبيب الأمراض النفسية الدكتور إيلي عطاالله ثمة ارتفاع في معدلات الإصابة بالاضطرابات النفسية على مستوى العالم، وتسجل إصابة واحدة بين كل أربعة أشخاص في معدل عالمي. وفي لبنان لا تتوافر أرقام ودراسات لكن ما يمكن تأكيده أن الأزمات المتتالية شكلت عاملاً خطراً أساساً مع ارتفاع ملحوظ في معدلات الإصابة بالاضطرابات النفسية.

ففي خمسة أعوام تعرض المواطن اللبناني إلى صدمات عدة متتالية وإن اختلفت في طبيعتها، ومنها انفجار مرفأ بيروت وانعدام الاستقرار السياسي والأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا وصولاً إلى الحرب الحالية. وكانت هذه الأزمات متتالية ولم يكن للبناني فترة راحة ليتمكن من التقاط أنفاسه واستعادة صلابته النفسية.

وقد تظهر الاضطرابات النفسية بلا سبب أحياناً. أيضاً بات أكيداً أنه ما من سبب واحد لها بل هناك عوامل عدة جينية وبيئية ونفسية تلعب دوراً. وعلى رغم أن من لديه استعداد جيني أكثر عرضة للإصابة تبين أن الاضطرابات النفسية قد تصيب حتى من ليس لديه استعداد جيني، وهناك عوامل أخرى يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار كتلك التي لها علاقة بالبيئة المحيطة والضغط النفسي الذي يمكن التعرض له. وفي الوقت نفسه يمكن أن تأتي الصدمات أو الأزمات بأنواعها لتزيد من الخطر.

ويشير عطاالله إلى أن التوتر يؤدي إلى تغيير في الجسم من نواح عديدة منها على مستوى الهرمونات كالأدرينالين والكورتيزون فيسبب خللاً فيها، ويؤثر في جهاز المناعة الذي يضعف ويفقد فاعليته، مما يزيد من احتمال الإصابة بأمراض عديدة كالسكري والكوليسترول والشحوم الثلاثية والسرطان. وكانت دراسات كثيرة ربطت بين التوتر والإصابة بأمراض جسدية واضطرابات نفسية أيضاً.

 

 

ويعد الكل عرضة للتوتر، وهي حال طبيعية إيجابية يكون الجسم فيها قادراً على التعامل معها في الحياة العادية، شرط أن يحصل ذلك على المدى القصير، فقد ينبئ التوتر ليدعو إلى التركيز والعمل مثلاً فيكون إيجابياً، لكن تبدأ المشكلة عندما يصبح مزمناً. فالجسم يتحمله لفترة قصيرة لكن يصبح عاجزاً عن توفير الحماية عندما يطول الأمد، مما يسبب انهياراً ويؤدي إلى ظهور أمراض نفسية وجسدية.

وفي لبنان الفئات الأكثر تأثراً هي تلك التي تتعرض بصورة مباشرة للصدمة ويكون أثرها عليها مباشراً. ففي انفجار المرفأ كان الأكثر تأثراً من يسكنون في محيط المرفأ، ومن تأثر أكثر بالأزمة الاقتصادية هو من عجز عن التأقلم. واليوم في ظل الحرب الحالية، يعد النازحون من المناطق الأكثر تعرضاً للقصف الأكثر تأثراً، لكن الكل يعد معرضاً لخطر الإصابة بالاضطرابات النفسية بصورة عامة فيكفي التعرض لوسائل التواصل الاجتماعي، ومواجهة هذا الكم من التوتر الذي يؤثر في الكل بدرجات متفاوتة في البلاد.

ويؤكد "في لبنان، نجد كل أنواع الاضطرابات النفسية الموجودة في العالم، لكن كما هو متوقع، بسبب الضغط النفسي الزائد في البلاد تزيد معدلات القلق والاكتئاب، وما له علاقة بالمزاج والإدمان على الكحول والأدوية المهدئة التي يفرط اللبنانيون في تناولها من دون وصفة طبية. ولسوء الحظ هذه الأدوية لا تعالج الحال النفسية بل تضبط الحال على المدى القصير، كما أنها قد تسبب الإدمان واضطرابات النوم، إضافة إلى صعوبات في التركيز والانتباه".

الحد من الخطر ممكن

غالباً ما يشار إلى اللبناني على أنه يتمتع بالصلابة على المستوى النفسي ويتميز بالقدرة على الصمود والتغلب على التحديات. وبحسب عطاالله فإنه عند التحدث عن القدرة على الصمود يكون المقصود بذلك قدرة الشخص على المقاومة والنهوض مجدداً بعد التعرض لصدمة، والعودة إلى الوضع الذي كان فيه قبل ذلك، لكن بالنسبة إلى اللبناني تكمن المشكلة في أنه لا يجد فرصة أو مجالاً للنهوض، والعودة إلى حال ما قبل الصدمة بسبب الأزمات المتتالية سريعاً. أما فكرة أن الصدمات تقوي الإنسان فليست صحيحة في الواقع. فهي تضعف الإنسان من النواحي النفسية والجسدية وهذا ما يحصل أيضاً عند التعرض للتوتر المزمن، ففي هذه الحال تحصل تغييرات في الجسم ويكون عرضة للشيخوخة المبكرة والمرض فكثرة التعرض للصدمات يسبب أضراراً كثيرة.

وعلى رغم كل ما يتم التعرض له في لبنان، وصحيح أنه ثمة أمور لا يمكن السيطرة عليها، من الممكن الحد من خطر التعرض للاضطرابات النفسية عبر وسائل عديدة. ويمكن البحث عن نافذة تشكل متنفساً باللجوء قدر الإمكان إلى تقنيات الحد من التوتر مثل تمارين الاسترخاء والرياضة وغيرها، ويساعد اتباع روتين معين في نمط الحياة على الحد من التوتر ومن أثر الضغط النفسي، بحسب عطاالله.

وهنا تأتي أهمية استراتيجيات التأقلم مع ضرورة اتباع نمط حياة صحي يعتمد على ممارسة الرياضة ونظام غذائي سليم، وممارسة أنشطة تساعد على الاسترخاء وممارسة هوايات مفضلة، والابتعاد من وسائل التواصل قدر الإمكان.

المزيد من متابعات