Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تعلمنا الحيوانات التصالح مع الموت؟

معرفتنا بفنائنا شيء تصنعه السرديات القائلة إننا سنموت جميعاً أما الحيوانات فعليها أن تكتشف ذلك المجهول بنفسها

على كل حيوان أن يواجه السؤال منفرداً فيبدأ بجمع تجارب تسمح له بالتوصل إلى تعميم استقرائي مبني عليها (أ ف ب)

ملخص

يجدر بهذا البحث أن يبدو غريباً، فهو ينتمي إلى مجال بحثي جديد نسبياً يعرف بـ"علم الموت المقارن" و"يركز على ردود فعل الحيوانات تجاه الموت أو الاحتضار، والآليات السيكولوجية الكامنة وراء ردود أفعالها هذه".

صحيح أن البشر لا يتصرفون تصرف الضيوف العابرين، لكننا في قرارة أنفسنا نعلم أننا كذلك، محض عابرين، وأن منحة - أو محنة - وجودنا على ظهر الأرض موقتة لا سبيل إلى دوامها. هذه المعرفة العميقة في ظني هي الجذر الأعمق لكل فضائل البشر ورذائلهم، فما الفن الخالد إلا محاولة للبقاء بعد الموت، وتوصيل أصواتنا وأرواحنا إلى أبناء لن نراهم ولن يرونا، وما الجشع إلى حد القتل إلا محاولة اغتنام فوري لأكبر قدر ممكن من متع نعرف أننا لن ندوم قادرين على التمتع بها. في ظني أن وعينا هذا بالموت قد يكون الدافع الخفي لكل فعل أو تقاعس عن فعل، لكل نشاط يمارسه البشر أو يحجمون عنه، أو هو في الأقل شريك أساس في دفعنا إلى أي شيء أو عنه. هذا عنا، فماذا عن شركائنا في الكوكب والحياة والموت، أعني الحيوانات؟ هل لدى الحيوانات مثلنا وعي بالموت؟

في مدونة تعرف نفسها بأنها معنية بالتقاطعات بين الفلسفة وعلم النفس والصحة العقلية، كتبت أخيراً سوزانا مونسو عن كتاب صدر لها حديثاً باللغة الإنجليزية. ومونسو هي أستاذة الفلسفة المشاركة بقسم الفلسفة والمنطق والتاريخ وفلسفة العلم بالجامعة الوطنية للتعليم عن بعد في مدريد، والمتخصصة في فلسفة عقول الحيوانات وأخلاقياتها وفلسفة علم النفس المقارن، وكتابها الصادر حديثاً عن مطبعة جامعة "برينستن" عنوانه "لعب دور الجثة: كيف تفهم الحيوانات الموت؟".

مركزية الإنسان

كتبت سوزانا مونسو أن "البشر درجوا على التفكير في أنفسهم باعتبارهم ’حيوانات ذات مفهوم عن الموت‘، غير أن السنوات الأخيرة شهدت طفرة دراسات حديثة تشير إلى أننا قد لا نكون منفردين بالاهتمام بهذه الظاهرة. إذ شوهدت شمبانزي وهي تنظف أسنان جثة مراهق من جماعتها كانت على صلة قوية به، وتجتمع الغربان حول جثث موتاها لتعرف ملابسات الوفاة، كما اكتشفت فيلة صغيرة دفنتها في ما يبدو فيلة كبيرة، وشوهدت ثكلى من الحيتان تحمل جثة ابنها الصغير على مدى 17 يوماً لمسافة تتجاوز ألف ميل".

وتضيف مونسو، "في كتابي ’لعب دور الجثة: كيف تفهم الحيوانات الموت‘ أذهب إلى أن الدراسة اللائقة لعلاقة الحيوانات بالموت تقتضي منا التغلب على لونين من الانحيازات يعتريان نقاشاتنا المعاصرة لهذا الموضوع. أول هذين الانحيازين هو ما أسميه بـ’مركزية الإنسان الفكرية‘، ومفاد هذه الفكرة هو أن السبيل الوحيد إلى فهم الموت هو السبيل الإنساني، وقد ساقتنا مركزية الإنسان الفكرية هذه إلى فرط التفكير في مفهوم الموت الذي ارتبط بقدرات شديدة الصعوبة من قبيل نظرية العقل أو التفكير التجريدي أو مفهوم الغياب أو التفكير القياسي".

 

 

وتتابع "بدلاً من ذلك، أذهب إلى أن انطلاق التفكير من مفهوم الموت شديد التعقيد لدى البشر يعني وضع العربة أمام الحصان، في حين أننا إذا شئنا أن ندرس ما إذا كانت الحيوانات تفهم هذه الظاهرة أم لا تفهمها، فعلينا البدء بالتحقيق في ما لو أن لدى الحيوانات مفهوماً للموت. وأبسط فهم للموت يعني القدرة على استيعاب أن الأفراد الموتى لا يستطيعون القيام بأمور يستطيع الأحياء منهم عادة القيام بها، وأن هذا العجز حال دائمة لا رجعة عنها".

وثاني هذين الانحيازين، بحسب مونسو، "هو أننا بحاجة إلى التغلب على مركزية الإنسان العاطفية. وهذا هو الرأي القائل إن الجدير باهتمامنا من ردود الفعل العاطفية تجاه الموت هي ردود الفعل العاطفية الشبيهة بردود أفعال البشر العاطفية. ولقد ساقتنا مركزية الإنسان العاطفية إلى إفراط التركيز على ’الحزن‘ عند بحث استجابات الحيوانات للموت. وعلاجاً لهذا، أوضح أن الحزن محض رد فعل مما لا حصر له من ردود الأفعال التي يمكن أن يثيرها الموت، وأذهب إلى أنه لو استمر العلماء في الكتابة عن حالات السلوك الحزين لأهملنا بذلك جزءاً مهماً من ظاهرة مهمة".

ذهبت مونسو "إلى أنه في حال إعراضنا عن مركزيتي الإنسان العاطفية والفكرية، يتضح لنا أن مفهوم الموت لا يقتضي إدراكاً شديد التعقيد، وأن الحيوان قد يسلك نطاقاً عريضاً من المسارات لفهم الموت، ونتيجة لذلك من المتوقع أن يكون مفهوم الموت منتشراً في الطبيعة".

علم الموت المقارن

يمثل كتاب "لعب دور الجثة" تتويجاً لمشروع بحثي للكاتبة عنوانه "الحيوانات ومفهوم الموت"، يموله صندوق العلوم النمسوي. وصدر هذا الكتاب أصلاً بالإسبانية، لكن ترجمته الإنجليزية طبعة منقحة ومحدثة.

يجدر بهذا البحث أن يبدو غريباً، فهو ينتمي إلى مجال بحثي جديد نسبياً يعرف بـ"علم الموت المقارن" و"يركز على ردود فعل الحيوانات تجاه الموت أو الاحتضار، والآليات السيكولوجية الكامنة وراء ردود أفعالها هذه، وما يمكن أن نتعلمه من هذه السلوكيات في شأن عقول الحيوانات"، لكن لعل الأغرب من هذا المجال الجديد هو أن يكون لأستاذة "فلسفة" إسهام فيه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تعرج سوزان مونسو على هذه النقطة في حوار أجرته معها جينيفر أوليت ["آرس تكنيكا" – الـ16 من أكتوبر (تشرين الأول) 2024] ، فتقول "كنت أرى أن تخصصاً جديداً ينشأ، وأنه بحاجة ماسة إلى نهج فلسفي يساعده في استيضاح كثير من المفاهيم. وعلى المستوى الشخصي، كنت بلغت الـ30 في ذلك الوقت وبت منشغلة بعض الشيء بالموت، فأردت أن أفكر كثيراً فيه، أو لعلي أردت أن أقلل خوفي منه عبر تأمله فلسفياً".

في استعراضه للكتاب ["إنكويزيتف بيولوجيست" – أكتوبر 2024]، يتوقف ليون فيغر عند حيوان معين يظهر في عنوان الكتاب بالإنجليزية من دون ترجمتنا العربية، فالترجمة الحرفية للعنوان هي "لعب دور الأوبسوم". وحيوان الأوبسوم يعد من أغرب صنائع الطبيعة، فذلك الحيوان الجرابي يلجأ عند تعرضه للتهديد إلى التظاهر بالموت، فيسقط مشلولاً جاحظ العينين فاغر الفم مزرق اللسان منخفضاً في درجة الحرارة ونبضات القلب، فضلاً عن تبوله وتبرزه وسيلان لعابه وإفراز شرجه مادة لزجة خضراء كريهة الرائحة، بهذه التمثيلية المتقنة يزهد فيه مهاجمه.

يكتب فيغر أن الكتاب الموجه للقارئ العام يبقى كتاباً مهماً للمتخصصين، وأن مونسو تخصص نصف كتابها الأول للمقدمات، جرياً على عادة الفلاسفة، قبل أن تصل إلى لب موضوعها في النصف الثاني، "وعلى رغم أن في هذا امتحاناً كبيراً لصبر القارئ العام، لكنني أناشدكم الصبر على الاستمرار القراءة لسببين وجيهين:

السبب الأول هو أن مونسو لا تسلم في كتابها بشيء، فمنهجها هو استكشاف وتعريف كل ما ينبغي معرفته، وهي تلجأ إلى استعمال العناوين الفرعية لضبط بنية ما تطلق عليه "الرحلة الصعبة والضرورية في أرض التحليل الفلسفي"، ولو أن مسألة فهم الحيوانات للموت من عدمه تقسم الناس إلى معسكرين متقابلين بحسب ما يقول ليون فيغر، فإن مونسو تبين بدلاً من ذلك أن الأمر أكثر تعقيداً وأن القسمة أقرب إلى الكسور العشرية منها إلى النصفين.

يعالج نصف الكتاب الأول أسئلة من قبيل: ما الأنماط الثلاثة من حججنا في ما يتعلق بامتلاك الحيوانات عقلاً؟ وما المناهج الثلاثة المستعملة لدراسة عقول الحيوانات؟ وما معيار الحد الأدنى لامتلاك مفهوم للموت؟ بل وما المفهوم أصلاً؟

 

 

ودونما نقل لإجابات هذه الأسئلة وغيرها، أنتقل رأساً إلى تعريف مونسو العملي للموت. انطلاقاً من قائمة بسبعة معايير يستعملها علماء نفس نمو الأطفال لقياس فهم الموت، تركز مونسو على معيارين بالذات: انعدام الوظيفة، أي فهم أن الميت لا يعود قادراً على وظائف الأحياء العقلية والجسدية، واللاعودة أي فهم أن الميت لا يمكن أن يعود ثانية للحياة.

أما السبب الثاني الموجب للصبر على قراءة النصف التأسيسي من الكتاب فهو نقد الكاتبة لعلم الموت المقارن نفسه، وإظهارها أنه لم يزل بحاجة إلى كثير من النضج. "وهذا القسم عظيم القيمة للمتخصصين، لأنه يكشف عن افتراضات هذا التخصص المسكوت عنها وانحيازاته المضمرة".

عقلية الحيوانات

من الأمور التي تنشغل بها مونسو أنه نظراً إلى أن الموت يباغتنا فإنه نادر الملاحظة، ومن ثم فأدبيات الموت المنشورة غالباً ما تكون ذات طابع قصصي، وتكون عرضة لسوء التفسير، وبخاصة حينما يتعلق الأمر بموضوع شديد العاطفية شأن الموت، مما يثير تخوفاً آخر مشروعاً يتعلق بالتشبيه بالبشر، أي إسقاط سمات بشرية على حيوانات قد لا تمتلك هذه السمات. وتكشف عن تخوف مناقض هو إنكار سمات بشرية على حيوانات تمتلك هذه السمات.

وثمة انحياز ثان هو مركزية البشر "التي تجعل التجربة البشرية معياراً مطلقاً"، وفي ما يتعلق بعلم الموت المقارن ثمة انحيازان تستكشفهما مونسو وتبددهما، أولاً مركزية الإنسان الفكرية التي تعني أن الحيوانات لا يمكن أن تفهم الموت إلا بامتلاكها مفهوم البشر للموت، وثانياً مركزية الإنسان العاطفية، وتعني أن الحيوانات لا يمكن أن تخوض تجربة الموت ما لم تستجب له عاطفياً بمثل استجابتنا له، ويظهر هذا في فرط تركيز علم الموت المقارن على دراسة الحزن، في حين أن الحزن والموت قد يتداخلان، لكن ذلك ليس لازماً.

 

 

يكتب ليون فيغر أن مونسو "بعد تمهيد الأرض تمهيداً جيداً، تغوص عبر نصف الكتاب الثاني في سؤال عن مدى انتشار فهم الموت في الطبيعة".

"تجتمع لدى الحيوانات ثلاثة عوامل تعتبرها مونسو شديدة الأهمية، ففي ضوء شيوع الموت في الطبيعة ثمة فرص وفيرة لتجربته على نحو مباشر، ويشجع على ذلك طيف واسع من المشاعر التي يثيرها الموتى، وأخيراً أن الإدراك اللازم لفهم أن الموتى لا يعودون لأداء وظائف الأحياء هو إدراك بسيط بعض الشيء، وفي الوقت نفسه هو شديد الأهمية للبقاء، والحيوانات شديدة البراعة في إدراك ما إذا كان شيء ما على قيد الحياة أم لا. ولقد بذل العلماء بالفعل جهوداً كبيرة في توثيق كيفية تضافر هذه العوامل الثلاثة بدرجات متفاوتة لتشكيل كيفية فهم الحيوانات المختلفة للموت، ولكن كثيراً من هذه الجهود تركز على عدد محدود من الحيوانات الاجتماعية من قبيل الرئيسيات والفيلة والحيتان. لكن المدهش هو تجاهل العلاقة بين العنف (الافتراس مثلاً) وفهم الموت، وتمضي بنا مونسو مراراً إلى الأسباب التي تجعل مرتكبي العنف وضحاياه يدركون أنه قد يكون مميتاً، فيمارسونه أو يتجنبونه بناء على هذا".

تنهي مونسو كتابها بالأوبسوم الذي يظهر في عنوانه، فتذهب إلى أن سلوك التظاهر بالموت عنده أشد تعقيداً مما يلزم للدفاع عن النفس، لكنه يكشف كثيراً عن عقلية الحيوانات المفترسة التي لا تستطيب كثير منها جثث الموتى أو الطعام المتحلل، فتستغل فرائس معينة "مفهوم الموت" عند الضواري لتخدعها، وهذا مؤشر قوي على أن "مفهوم الموت شديد الانتشار في مملكة الحيوان" على حد قول مونسو.

 

 

في حوارها مع آرس تكنيكا، سئلت مونسو هذا السؤال، "نخلص من كتابك إلى أن كثيراً من الحيوانات لديها الحد الأدنى من مفهوم الموت، لكن تراها تعي أنها فانية؟ هذا جزء كبير مما يجعل البشر بشراً"، أجابت سوزانا مونسو بقولها:

 "أعتقد أن معرفتنا بفنائنا شيء تديمه فينا السرديات، فأنت لا تمتلك أي دليل قوي على أنك شخصياً ستموت، ليس لديك من برهان على هذا. إنما أنت تؤمن به لقولهم لك إننا سنموت جميعاً، أما الحيوانات فلا تحظى بهذا العون عند تكوينها لمفهوم الموت، فعليها أن تفعل ذلك فردياً. وأنا هنا أفترض أن التواصل الحيواني لا يمكن أن يدعم التواصل المتعلق بالموت، ولكن مؤكد أننا لا نعلم ذلك علم اليقين".

وتضيف "إذا افترضنا أن هذه هي الحال، فعلى كل حيوان أن يواجه السؤال منفرداً فيبدأ بجمع تجارب تسمح له بالتوصل إلى تعميم استقرائي مبني عليها. ففي حال رؤيتي كثيراً من أبناء سلالتي يموتون، بوسعي أن أبدأ في تعميم ذلك على المستقبل، كأن أقول ’إن جميع هؤلاء الأفراد ماتوا لأنهم وقعوا في طريق الفهد، فمن يقع من الحيوانات الأخرى في طريق الفهد قد يموت هو الآخر‘، وأخيراً قد يفكر ذلك الحيوان في أن ذلك ينطبق عليه هو نفسه: ’قد يقع هذا لي إن وقعت في طريق فهد‘. وهو أمر أصعب لأنه يستوجب من الحيوان أن يحول انتباهه ويركز على نفسه ويتبنى منظوراً خارجياً لنفسه هذه، وهذا يستوجب مزيداً من التعقيد المعرفي".

قواعد اللعبة

وفي الحوار نفسه سئلت مونسو أخيراً عن ثيمة تتكرر في كتابها، وهي أن البشر دائمو البحث عما يميزهم، في حين تقترح مونسو أننا لو تقبلنا حقيقة أننا حيوانات فإننا قد نتقبل أيضاً فكرة فنائنا، وفي تعليقها على ذلك تقول مونسو إن مشروع بحثها كله في مفهوم الموت عند الحيوان كان مدفوعاً جزئياً على مستوى غير واع بـ"حاجة عميقة لدي إلى أن أفهم الموت، وأن أفهم أنني فانية. مكنتني هذه الرحلة كلها من تقبل فنائي، إذ جعلتني الرحلة أفهم أن فنائي ما هو إلا جزء من قواعد اللعبة. وما نحن إلا حيوان من زمرة الحيوانات، ولو أنك تريد أن تكون حياً، فعليك أن تتقبل أنك ستموت. هذا هو الأمر بمنتهى البساطة. إيلاء مزيد من الانتباه إلى الحيوانات مفيد للغاية على كثير جداً من المستويات، لأنه يغرز فينا مزيداً من التواضع. وجزء مما يفعله هذا الانتباه هو أنه يتيح لنا أن ندرك أننا كائنات فانية شأن الحيوانات جميعاً، لأننا أيضاً حيوانات، إننا أجسام قادرة لكنها لا يمكن أن تبقى قادرة إلى الأبد، وما هذه بمأساة، إنما هي حقيقة من حقائق الحياة".

العنوان: Playing Possum: How Animals Understand Death 

تأليف: Susana Monsó 

الناشر:  Princeton University Press

المزيد من كتب