ملخص
يظهر عدد من المراقبين والناخبين الأميركيين ثقة تجاه برنامج دونالد ترمب الاقتصادي المطروح، إذ يركز بعض منهم على وعوده بتمديد التخفيضات الضريبية وإلغاء القيود التنظيمية، بينما يرى آخرون أن سياساته السابقة كانت ناجحة. ومع ذلك تحمل خططه الاقتصادية الحالية أخطاراً كبيرة تؤدي إلى عدم يقين اقتصادي ونتائج سلبية على النمو والعمالة.
يتحلى عدد من المراقبين المطلعين ونسبة كبيرة من الناخبين في الولايات المتحدة بالهدوء، إن لم يكن بالحماسة، في شأن البرنامج الاقتصادي الذي سيسعى دونالد ترمب إلى تطبيقه خلال ولايته الثانية المحتملة كرئيس. يركز بعض منهم على وعوده بتمديد العمل بالتخفيضات الضريبية وبإلغاء القيود التنظيمية، إذ يرون فيها استمراراً لسياسات الجمهوريين السابقة. ويشير آخرون إلى معدل التضخم المنخفض وعوائد أسواق الأسهم المرتفعة التي ميزت فترة ولايته الأولى قبل بدء جائحة كوفيد-19، ويجادلون بأن سياسات ترمب - بما في ذلك نهجه غير التقليدي تجاه الرسوم الجمركية والهجرة – كانت ناجحة، أو في الأقل غير ضارة. ويصر عدد من المستثمرين والمطلعين على أن تهديدات ترمب الأكثر تطرفاً في ما يتعلق بالترحيل والتجارة والصين ومجلس الاحتياط الفيدرالي هي في الواقع استراتيجيات حكيمة تستهدف كسب نفوذ على الأطراف الفاعلة الأجنبية أو التكنوقراط الأميركيين أو الغالبية الديمقراطية المحتمل أن تتشكل في مجلس النواب الأميركي. وثمة ثقة واسعة النطاق في أن ترمب، إذا ترتبت على أي من سياساته الاقتصادية العدوانية تكاليف باهظة، ولاسيما على المستثمرين أو الشركات الكبرى، سيبطل هذه السياسات.
ومع ذلك، تضرب جذور هذا الشعور بالثقة في عدم فهم الخطر الحقيقي الذي سيترتب على خطط ترمب الاقتصادية المطروحة حالياً. لم يتخل أي رئيس أميركي في اليوم الأول من تولي إدارته المسؤولية عن أولوياته الاقتصادية المعلنة مراراً خلال الحملات الانتخابية. اقترح ترمب والمرشح إلى منصب نائبه جي دي فانس مجموعة من التدخلات الجذرية الواسعة النطاق في الاقتصاد الأميركي، بما في ذلك فرض رسوم جمركية على الواردات كلها، بنسبة 10 مرات إلى 15 مرة مقارنة بتلك التي فرضها ترمب في فترة ولايته الأولى، التي طاولت في المقام الأول البضائع الصينية فقط، وترحيل ما بين مليون و800 مليون مهاجر أو اعتقالهم، بمن فيهم بعض الموجودين حالياً في الولايات المتحدة في صورة قانونية، والإمساك بالسلطة التنفيذية بما ينطوي على استخدامها لحجز الأموال التي خصصها الكونغرس والتدخل في استقلال مجلس الاحتياطي الفيدرالي في تحديد معدلات الفائدة، وهذه إجراءات أسوأ مما سعى إلى تطبيقه خلال ولايته الأولى.
لا تشبه النظرة الشاملة التي تبرر هذه السياسات تلك التي ميزت إدارة ريغان وإدارتي بوش. بل إنها تستند إلى أفكار هوبز، وليس إلى أفكار حايك، وتعتبر الاقتصاد العالمي لعبة تسعى فيها بلدان أخرى ببساطة إلى استهداف الولايات المتحدة، لذلك يتعين على الولايات المتحدة أن تستهدفها أولاً. يصر ترمب على أن ردع نشاط الأجانب الاقتصادي سيحسن في صورة جوهرية النتائج للأميركيين الذين يفضلهم عليهم. هذا هو الخط الجامع الذي يوحد سياساته الاقتصادية المقترحة كلها.
قد يؤتي نهج مماثل ثماره في عالم التطوير العقاري والترويج للبضائع عبر الإنترنت، لكن الاقتصادات الوطنية هي أكثر من مجرد مجموع الاتفاقات المختلفة التي أبرمتها حكوماتها، حتى في المفاوضات حول التجارة الدولية. ذلك أن الإدارة التي تفشل في إجراء هذا التمييز وتحاول بدلاً من ذلك تعزيز الاتفاقات إلى أقصى حد كل على حدة من شأنها أن تؤدي إلى تآكل جاذبية البلاد أمام الاستثمار البعيد الأجل.
على مدى السنوات الـ50 الماضية، اعترفت الأجندة الاقتصادية للإدارات الرئاسية الجمهورية والديمقراطية، على رغم الاختلافات الكثيرة في ما بينها، بأهمية تعزيز الاستقرار الكلي العام. لقد فضل الرؤساء مجموعات مختلفة اختلافاً واسعاً من التنظيمات الحكومية والإنفاق العام، لكنهم التزموا في صورة عامة بالحد من عدم اليقين في الأجل البعيد. وسعت حكومات أخرى في أنحاء العالم كله إلى محاكاة الولايات المتحدة في هذا الصدد، خدمة لمصالحها الدائمة.
على النقيض من ذلك، يستخدم نهج ترمب عدم اليقين كسلاح. لكن عدم اليقين سلاح يصعب السيطرة عليه، وسيأتي بنتائج عكسية على من يستخدمه على نطاق واسع.
خسارة دائمة
يرى ترمب أن ترحيل أعداد هائلة من العاملين غير المسجلين، وفرض رسوم جمركية عالية على معظم البضائع الأجنبية، إن لم يكن كلها، وزيادة السلطة التقديرية الرئاسية للسياسة المالية العامة والنقدية تدابير من شأنها تحقيق الرخاء للعاملين الأميركيين. في الواقع، سيحقق كل واحد من هذه التدابير نتائج عكسية. من خلال تقييد المعروض من الموارد التي تقدرها وتستخدمها الشركات الأميركية والعاملون الأميركيون والأسر الأميركية، ستقلل هذه التدابير من القدرة الإنتاجية للاقتصاد الأميركي.
كذلك ستجعل هذه الإجراءات ممارسة الأعمال أكثر كلفة وأقل يقيناً، وبسبب اضطرار عدد من الشركات إلى التأمين الذاتي في مواجهة الوصول غير الآمن إلى الإمدادات والأسواق، ستعمل الشركات على نطاق أصغر. قد يفصل القطاع التجاري الأميركي مبيعاته وإنتاجه لبقية العالم عن سوق أميركا الشمالية. وهذا من المرجح أن يقلل من العائد على استثمار القطاع الخاص في الاقتصاد الأميركي، ويخفض نمو الدخل الحقيقي للجميع.
فلنتأمل هنا احتمال عمليات الترحيل الجماعي. إذا نفذت كما يقترح ترمب ودائرته، سيعني ذلك التخلص مما لا يقل عن 1.3 مليون شخص، تعمل غالبيتهم العظمى في الاقتصاد الأميركي. لا شك في أن السياسة المقترحة تحظى بشعبية في صفوف قطاعات كبيرة من الناخبين، ولا شك في أن سنها يندرج من ضمن صلاحيات الرئيس القانونية. ولها سابقة تاريخية: "عملية ويتباك"، أي برنامج إدارة أيزنهاور الذي تمكن من ترحيل أكثر من مليون شخص على مدى 18 شهراً، في حين كان يبلغ إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة مستوى أقل بكثير مقارنة باليوم.
سيكون الأثر الاقتصادي لخطة ترحيل ترمب شديداً، من المرجح أن يتسبب التخلص من مئات الآلاف من العاملين الذين يتولون وظائف بنقص في العمالة في قطاعات ومواقع محددة، مما قد يؤدي بدوره إلى زيادات واسعة النطاق في الأسعار مع تقلص الإمدادات. وجدت دراسة حديثة أجراها معهد بيترسون للاقتصاد الدولي أن إنزال صدمة سلبية كبيرة كهذه في المعروض من العمالة من المؤكد أن تؤدي إلى ركود تضخمي في قطاعات الاقتصاد كلها، وإلى زيادة معدل التضخم بنسبة 1.5 في المئة، وإلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من ثلاثة في المئة في غضون ثلاث سنوات.
ستكون الصدمة أقوى لأن أصحاب العمل، في القطاعات الأكثر اعتماداً على العاملين غير المسجلين - مثل زراعة الفاكهة والخضار والضيافة والبناء السكني والتعدين وبعض الصناعات التحويلية - سيواجهون صعوبة كبيرة في العثور على عاملين قانونيين يحلون محل العاملين المرحلين. ذلك أن العاملين القانونيين يتمتعون بظروف عمل أفضل، وأجور أعلى، ومزايا أعلى مما يمكن أن يطلبه معظم المهاجرين غير الشرعيين، ولن يقبلوا بسهولة أن يتولوا عملاً أقل أجراً. في ظل هذه الظروف، سيعمد عدد من الشركات إلى نهج التعاقد أو خفض تكاليف العمالة من خلال الأتمتة.
ستمرر الرسوم الجمركية الشاملة في الغالب إلى المستهلكين، من خلال ارتفاع الأسعار أو النقص في بعض المنتجات المستوردة.
ومن شأن عمليات الترحيل الجماعي أن تضر بالاقتصاد بطرق أخرى أيضاً، إذ يبين الخبير الاقتصادي مايكل كليمنس أن الهجرة تولد فرص عمل للمواطنين والمقيمين الشرعيين - ما يقرب من وظيفة واحدة لكل 10 مهاجرين عاملين. ذلك لأن العاملين المهاجرين وأفراد عائلاتهم هم أيضاً مستهلكون. ومن شأن ترحيلهم أن يقلل الطلب على البضائع والخدمات كلها التي يشترونها في الولايات المتحدة - وكذلك الطلب على العاملين في القطاعات المتضررة.
وعلاوة على ذلك، يوسع العاملون المهاجرون القاعدة الضريبية، لأن الربح والاستهلاك اللذين يولدونهما يخضعان إلى الضرائب. وهم يميلون إلى أن يكونوا أصغر سناً ويخشون الترحيل، لذلك هم أقل عرضة إلى طلب مزايا حكومية. كذلك يقدم الجيل الأول من المهاجرين مساهمات كبيرة في صورة غير متناسبة في مجال ريادة الأعمال والابتكار في الاقتصاد، وهي مساهمات ستضيع إذا أصبحت الولايات المتحدة أقل ترحيباً بالمهاجرين. باختصار، ستؤدي خطة ترمب في مجال الترحيل إلى تباطؤ النمو (إن لم يكن إلى الركود)، وإلى ارتفاع معدل التضخم، وإلى انخفاض فرص العمل للمواطنين والمقيمين القانونيين، وإلى الحد من الإبداع. وليس تقليص قوة العمل في أي بلد عن عمد سوى تدمير ذاتي واسع النطاق وعميق الأثر.
هذا وتعد خطة ترمب في شأن الرسوم الجمركية متهورة بالمثل في ما يتعلق بجانب آخر من جوانب العرض في الاقتصاد. يقترح ترمب فرض رسوم جمركية بنسبة 60 في المئة على البضائع الواردة من الصين و10 إلى 50 في المئة على البضائع الواردة من أي مكان آخر. ويزعم أن التكاليف التي ستترتب على فرض الرسوم الجمركية هذه ستسدد من خلال تعزيز الأعمال المحلية وتوليد فرص عمل جديدة. ويزعم ترمب أن الإيرادات الناتجة من هذه الرسوم الجمركية ستعوض إلى حد كبير تكاليف التمديد المقترح من جانبه للعمل بتخفيضات ضريبية مخصصة للشركات والأفراد ذوي الدخل المرتفع. في الواقع، ستمرر كلفة هذه الرسوم الجمركية الشاملة في الغالب إلى المستهلكين، من خلال ارتفاع في الأسعار أو نقص في بعض المنتجات المستوردة. وإذا كانت الشركات الأميركية قادرة على إنتاج بدائل لبعض المنتجات المستوردة، فإنها لن تفعل ذلك إلا بقدر ما تستطيع أن تتقاضى أسعاراً أقل بقليل من الأسعار المحددة وفق الرسوم الجمركية، بخلاف ذلك، لن ستتكبد خسائر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ستكون النتيجة زيادة في معدل التضخم، من المرجح أن تؤثر في صورة خاصة في الأسر ذات الدخل المنخفض، التي تنفق موازناتها في الأساس على واردات الملابس ولعب الأطفال والإلكترونيات والطاقة والغذاء. بينت دراسة حديثة لمعهد بيترسون أن الرسوم الجمركية المطروحة ستكلف الأسرة المتوسطة في حال تطبيقها ما لا يقل عن ألفين و600 دولار في السنة، وقدرت دراسات أخرى التكاليف بضعف ذلك. بالنسبة إلى الشركات التي تعتمد على المنتجات المستوردة، يمكن أن يدفعها ارتفاع الأسعار ونقص البدائل إلى إغلاق أبوابها. وبالتالي ستجلب إدارة ترمب الثانية بذلك في صورة أساسية بعض آثار انهيار سلاسل الإمداد خلال الجائحة. ستختلف هذه الرسوم الجمركية عنها خلال إدارة ترمب الأولى لجهة أنها ستطبق على نطاق أوسع وبواقع 10 مرات إلى 15 مرة مقارنة بالمعدلات المفروضة من ذي قبل.
وفي ما يتعلق بالإيرادات الضريبية، لا يمكن للرسوم الجمركية أن تحل محل أي جزء ذي مغزى من عوائد الضرائب الفيدرالية الأخرى، وذلك على وجه التحديد لأن الهدف من الرسوم الجمركية هو إرغام المستهلكين على إجراء تحول في خياراتهم الشرائية. إذا زادت الإدارة الضرائب على بضاعة معينة، يجد دافعو الضرائب مع مرور الوقت بديلاً أو يقللون من استهلاكهم لتلك البضاعة، وتنخفض الإيرادات الضريبية المحصلة منها. وعندما تنهار الشركات لأن تكاليفها تزيد كثيراً، يقلل ذلك أيضاً من الإيرادات الضريبية. ستحقق رسوم ترمب الجمركية الشاملة بنسبة 20 في المئة 1.0 إلى 1.5 في المئة زيادة في الناتج المحلي الإجمالي عبر الإيرادات المحصلة في السنة الأولى من تطبيق الرسوم وستتقلص الزيادة بعدئذ، إن من شأن معدلات الرسوم الجمركية الأعلى أن تحقق إيرادات أقل.
تجاوز للسلطة التنفيذية
نظراً إلى أن التخفيضات الضريبية مكلفة ولن تولد الرسوم الجمركية المقترحة كثيراً من الإيرادات، سيتسبب برنامج ترمب بعجز فيدرالي ضخم. يقدر المحللون غير الحزبيين في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا أن تضيف هذه المقترحات إلى العجز 3.5 إلى 5.0 تريليون دولار على مدى 10 سنوات. (الخطط الاقتصادية التي تروج لها منافسة ترمب، نائبة الرئيس كامالا هاريس، من المحتمل أيضاً أن تزيد العجز، لكن بأقل من ثلث هذا المبلغ). وأظهرت دراسة حديثة غير حزبية أجراها علماء بارزون في المالية العامة أن التخفيضات الضريبية التي أقرها ترمب عام 2017 ولدت نمواً أقل بكثير – وبالتالي إيرادات ضريبية أقل بكثير مقارنة بالخسارة المباشرة في الضرائب المحصلة.
يبلغ عجز الموازنة الفيدرالية الأميركية نحو سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي - وهو رقم كبير جداً في وقت تتمتع فيه البلاد بالعمالة الكاملة ولا تواجه أزمات مالية أو صحية أو عسكرية. أما زيادة هذا الرقم بنسبة 1.5 في المئة أو أكثر سنوياً فمن المتوقع أن يجبر الحكومة على تخصيص حصة أكبر من الموازنة الفيدرالية لمدفوعات الفائدة على الديون. وبما أن ترمب اقترح أيضاً إقامة حواجز جديدة بغرض تثبيط الاستثمارات الصينية وغيرها من الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الأميركي إلى درجة أكبر، بما في ذلك فرض ضريبة محتملة على المشتريات الأجنبية من سندات الحكومة الأميركية، ستشهد الخزانة أيضاً في حال تطبيق الاقتراح تقلص عدد الراغبين المتاحين في تمويل العجز عن طريق شراء السندات. وعندما تصدر الخزانة مزيداً من سندات الديون لصالح عدد أقل من المشترين المؤهلين، يتعين عليها دفع معدلات فائدة أعلى لكي تتمكن من بيعها كلها. وعلى غرار خفض المعروض من البضائع أو العمالة، يفرض خفض المعروض المتاح من المدخرات من الخارج تكاليف على الولايات المتحدة.
ويقول ترمب أيضاً إنه كرئيس سيؤكد صلاحية السلطة التنفيذية لحجز أموال خصصها الكونغرس - أي رفض إنفاقها - وغرض ترمب هو خفض النفقات العامة التي تعارضها إدارته. من خلال هذه الممارسة - التي تهدد فعلياً بتجميد عمل الإدارات الحكومية – سيكتسب ترمب نفوذاً في المفاوضات التي تتناول وضع الموازنات. لكن، حتى لو أيدت المحاكم الفيدرالية تأكيد هذه السلطة بهذه الطريقة بوصفها سلطة قانونية، سيزيد ذلك من تآكل الشفافية والقدرة على التوقع في ما يخص عملية وضع الموازنات الأميركية، وهي عملية تعاني بالفعل هشاشة. هذا وتدفع الحوكمة المالية العامة السيئة المستثمرين، المحليين والأجانب، إلى اعتبار الدين الحكومي محفوفاً بأخطار أكبر، ولذلك يتطلبون معدلات فائدة أعلى لشرائه.
كذلك يهدد ترمب بالحد في صورة كبيرة من استقلال مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وهو مؤسسة تعد ركيزة أساسية للاستقرار الاقتصادي الأميركي. لأن المجلس المستقل يستطيع تحديد معدلات الفائدة من دون اعتبار للضغوط السياسية القريبة الأجل، يمكن له أن يكبح الاقتصاد عند الحاجة، كما فعل بنجاح عامي 2022 و2023، عندما رفع معدلات الفائدة بحدة لمعالجة التضخم الذي طرأ بعد الجائحة. إن وجود مصرف مركزي قادر على الاستجابة بصدقية للضغوط التضخمية من دون تدخل الحكومة أمر ضروري لتجنب دوامة التضخم التصاعدية عندما ترتفع الأسعار.
بوسع ترمب أن يمارس نفوذه من خلال تسييس التعيينات في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، أو إحلال شخص محسوب عليه سياسياً محل رئيس المجلس، أو تغيير القواعد التي تحكم عملية اتخاذ القرار في المجلس. ومن المرجح أن يؤدي تدخل كهذا إلى ارتفاع معدل التضخم وزيادة تواتر دورات الازدهار والكساد. سيعترض بعضهم على ذلك بالقول إن تعهد ترمب بتأكيد سلطة السلطة التنفيذية على مجلس الاحتياطي الفيدرالي هو مجرد خدعة. لكن إذا اعتبر مستثمرو القطاع الخاص التهديد ذا صدقية، سيأخذون في الاعتبار توقعات ارتفاع معدل التضخم ويطالبون بالتعويض عن هذا الخطر. وإذا تسبب سياسي ما بانعدام الأمن في السياسة المالية العامة والنقدية، لا ينفذ المستثمرون ما تأمرهم به الحكومة.
اقتصاديات الرجل المجنون
من شأن مقترحات ترمب الاقتصادية كلها تقريباً أن تقلل من المعروض من العمالة والمدخلات الصناعية والبضائع الاستهلاكية وعوائد الضرائب الفيدرالية، وستفرض استراتيجيته حالة من عدم اليقين في أنحاء الاقتصاد الأميركي كلها، إذ ستخشى الشركات والمستهلكون من ارتفاع الأسعار أو من تقييد الوصول إلى الموارد في أي وقت تختاره الحكومة. وهذا هو النقيض تماماً للسياسات الرامية إلى تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي الذي يملك في أنحاء العالم كلها سجلاً مثبتاً في تحقيق النمو المستدام وانخفاض معدل التضخم.
في مواجهة انعدام الأمن الاقتصادي وتقلص جانب العرض، فضلاً عن ارتفاع العجز والأسعار، سيفرض المستثمرون على الحكومة الأميركية معدلات فائدة أعلى. وستقلل الشركات المتعددة الجنسيات، حتى تلك التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً، خططها للاستثمار والتوظيف في السوق المحلية. لن تضطر إلى قبول مطالب نهج ترمب، حتى لو استسلمت حكوماتها أحياناً إلى إنذارات محددة في لحظة معينة.
يؤكد بعض المستثمرين والمراقبين أن المخاوف في شأن برنامج ترمب الاقتصادي مبالغ فيها، هم يعتقدون بأن خطط ترمب من غير المرجح أن تنفذ لأنها ستهدد أرباح الأعمال، بما في ذلك أرباح الناخبين المؤثرين الذين يدعمون مرشحي الحزب الجمهوري. ووفق هذا التفكير، إذا انخفضت مؤشرات أسواق الأسهم أو ارتفعت معدلات الفائدة، ستقلص إدارة ترمب الثانية نطاق سياساتها أو تبطل العمل بها. ويرى آخرون موازياً لـ"نظرية الرجل المجنون" في السياسة الخارجية: من خلال التهديد بفرض رسوم جمركية عالية - أو تنفيذ عمليات ترحيل جماعي أو رفض إنفاق أموال فيدرالية مخصصة - سينتزع ترمب تنازلات من الحكومات الأجنبية وأعضاء الكونغرس الديمقراطيين، من دون الحاجة إلى تنفيذ تهديداته.
لكن افتراضات كهذه ثبت خطؤها في الماضي. في الواقع، نفذت إدارة ترمب الأولى معظم سياساتها التجارية والمالية العامة والعمالية الموعودة، وحافظت عليها حتى عندما حققت نتائج سيئة. وكما هي الحال مع نهج الرجل المجنون في التعامل مع السياسة الخارجية، يجب أن تكون التهديدات ذات صدقية حتى يكون لها الأثر المطلوب. إذا راهن عدد كاف من النقاد والمستثمرين على أن ترمب لن يفعل الأشياء التي يقول إنه سيفعلها، أو أنه سيوقف العمل بها إذا ارتفعت تكاليفها، سيحتاج إلى الوفاء بها لإظهار صلابته. وإلا ستتجاهله الحكومات والشركات الأجنبية، وهذه النتيجة ليست بالتأكيد النتيجة المرجوة من جانبه.
من شأن مقترحات ترمب الاقتصادية أن تقلل من المعروض من العمالة والمدخلات الصناعية والبضائع الاستهلاكية وعوائد الضرائب الفيدرالية.
لكن المشكلة في أجندة ترمب أكثر عمقاً من كون سياساته مرشحة لإلحاق أضرار بالاقتصاد الأميركي. خلافاً للسياسة الخارجية، إذ قد يؤدي توليد انعدام الأمن في الخارج من خلال سياسة لا يمكن توقعها في ظروف معينة إلى نتائج مفيدة، من شأن التسبب بانعدام الأمن في مجال الاقتصاد الكلي أن يضر بالقدرة الإنتاجية للولايات المتحدة. في الأسواق العالمية، يمكن لواشنطن أن تحاول المساومة مع الحكومات. لكن الشركات الفردية والمستثمرين ومئات الملايين من الناس العاديين، سواء في داخل البلاد أم في خارجها، سيردون بمحاولة الحد من انكشافهم على إدارة ترمب، ولا تستطيع الولايات المتحدة السيطرة على ردود الفعل هذه أو ردعها.
نتيجة لهذا فإن أية مزايا قصيرة الأجل قد تكتسب من خلال الدفع باتجاه إبرام اتفاق صلف في مفاوضات ثنائية أو في قطاع معين ستفوقها إلى حد كبير تكاليف يتحملها الاقتصاد الكلي ستترتب على توليد عدم اليقين. هذا هو الخلل الأساس الذي يشكل أجندة ترمب، التي تختلف اختلافاً جذرياً عن أي برنامج اقتصادي اتبعه أي حزب سياسي أميركي رئيس خلال نصف القرن الماضي. إذا فاز ترمب، سيحاول في الأقل استخدام عدم اليقين كسلاح من خلال تهديدات، وسيكون من الصعب إبطال الضرر الذي سيلحق بالولايات المتحدة.
الكاتب:
آدم إس بوزين رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
*مترجم من "فورين أفيرز"، 18 أكتوبر (تشرين الأول)، 2024