Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصص من المغرب وفلسطين تتقاطع وتختلف رؤية وأسلوبا

"الرحلة إلى جبل قاف" و"غرفة 13" بين المقاربة الواقعية والخلفية التراثية

لوحة للرسام أنس البريحي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

يختلف العالم المرجعي الذي تتصدر عنه وتحيل إليه مجموعة "الرحلة إلى جبل قاف" القصصية للقاص المغربي محمد سعيد أحجيوج، عن ذاك الذي تتصدر عنه وتحيل إليه مجموعة "غرفة 13" القصصية للقاص الفلسطيني أنس سمحان. والمجموعتان كلتاهما صادرتان عن دار مرفأ في بيروت، على أن الاختلاف بين المجموعتين لا يقتصر على العالم المرجعي بل يتعداه إلى الثيمات المطروحة وتقنيات السرد القصصي.

في "الرحلة إلى جبل قاف" يتخذ أحجيوج مادة القص الأولية من المدونتين التراثية والأدبية ويمتاح منهما وقائع معينة يعيد تشكيلها في قصصه بما يفارق تشكيلاتها السابقة، ويمنح نفسه هامشاً واسعاً من التجريب فيقلب تلك التشكيلات رأساً على عقب أو يدمج تشكيلين في قصة واحدة، أو يعيد توزيع الأدوار على الشخوص القصصية، وبذلك يحرر المادة من تراثيتها أو عالميتها ويضفي عليها طابعاً حداثياً فيمنحها أبوته القصصية ويسجلها في بيان قيده القصصي. وفي غمرة التجريب الذي يمارسه، كثيراً ما يلغي المسافة بين القاص والراوي أو يرفع الكلفة بين الكاتب والقارئ أو يوشح القصة بمقدمات تمهيدية أو تذييلات استفهامية أو استطرادات نصية، وقد يذيلها بملاحق توضيحية. على أن بعض هذه العمليات هو من قبيل الزوائد التي تؤثر في قصصية القصة ويمكن الاستغناء عنه. وفي السياق نفسه يخلط الكاتب بين القص والنقد، الحقيقة والخيال، الواقع والحلم، الماضي والحاضر، الإلفة والغرابة وغيرها من الثنائيات مما يجعل عالم القص مفارقاً للعالم الواقعي وإن انطلق منه في بعض القصص.

 

القصة المركبة  

 

 يستخدم أحجيوج ما نسميه بـتقنية القصة المركبة في اثنتين من قصص المجموعة في الأقل، فقصة "الظهور الثاني لكتاب الرمل" التي يستخرج مادتها الأولية من "ألف ليلة وليلة" ورواية بورخيس تتألف من خمسة فصول متعاقبة في الصورة متفارقة في المضمون، ولكل منها عنوانه الخاص مما يجعل تقنية السرد المستخدمة أقرب إلى الروائي منها إلى القصصي. وفيها نقع على ثيمة السفر عبر الزمن فيلتقي بورخيس الشاب ببورخيس الكهل في مكان واحد ويتبادلان الكلام، ويقوم الثاني بإهداء الأول "كتاب الرمل" حتى إذا ما مارس الكتاب نوعاً من الاستحواذ الشيطاني على المهدى إليه يفكر في التخلص منه، وحين يوشك أن يفعل ينفتح الكتاب على قصة "ألف ليلة وليلة" فيقوم بقراءتها ويفقد بصره بنهاية القراءة. لقد أخذ الكتاب عينيه، وهو ما يحصل مع الأستاذ في جامعة الرباط حسين ميرو الذي يحلم بأنه خبأ الكتاب في مكتبته خلف مجلدات "ألف ليلة وليلة"، ويتحول حلمه إلى حقيقة ويتلقى رزمة بريدية من صديقه الأستاذ الأميركي يوليوس موريس تشتمل على "كتاب الرمل" مقترحاً عليه أن يتخذه موضوعاً لأطروحته الجامعية، وحين يقرأ قصة "ألف ليلة وليلة" في الكتاب تدركه لعنة بورخيس ويخسر بصره بدوره.

والغريب أن قصة حسن ترويها شهرزاد لشهريار في الفصل الرابع من القصة، على رغم أن مئات الأعوام تفصل بين الليالي وكتاب بورخيس، وتبلغ الغرائبية الذروة في نهاية القصة حين يجتمع في بئر عميقة أربعة رجال من أزمنة مختلفة، شهريار وبورخيس وحسن ميرو ويوليوس موريس. وهكذا يطيح أحجيوج في إطار عبثه التجريبي بتعاقب الزمن ويجمع أزمنة مختلفة في المكان الواحد.

القصة المركبة الثانية في المجموعة هي قصة "البحث عن إدمون عمران المالح" وتتألف من ثلاثة نصوص، تتمحور حول البحث عن المالح في فضاء بوليسي. وخلال هذه العملية يستخدم الكاتب تقنية السفر عبر الزمن فيكتشف الراوي بواسطة الذكاء الاصطناعي أن م. س. هو نسخة منه بعد 30 عاماً، ويتماهى الراوي/الكاتب البوليس مع المروي عنه/المالح حتى إذا تمت مطاردة الأخير بعد اكتشاف أمره يفر من مطارديه وقد تقيأ على نفسه، ليجد نفسه في حديقة صديقه الممرض محمود فيقتاده الأخير إلى غرفته في الفيلا التي يقيم فيها، ويعود ليكمل الكتابة من حيث توقف. وهكذا تلتقي الأزمنة في الحيز القصصي وتختلط الشخوص وتفارق الأحداث الواقع.

 

 على أن القصص الأخرى في المجموعة تتحلل من التركيب البنيوي وتنحو منحى التبسيط وتتعاطى مع الوقائع المستخرجة من المدونتين المذكورتين أعلاه بطرق مختلفة، ففي "نبوءة المجوس..." يعيد الكاتب صياغة حكاية شهرزاد وشهريار من منظور مغاير ويدمج بينها وبين حكاية المجوسي الذي شاهد النجم المبشر بولادة السيد المسيح، وبذلك يجمع بين الحكائي والديني في قصته وينسب إلى الشخوص أدواراً مفارقة لأدوارها في المدونتين التراثية والأدبية، فالوزير يأخذ باقتراح المجوسي ليحفظ رأسه من سيف شهريار وهذا الأخير يعاني عجزاً جنسياً، وشهرزاد تستمد حكاياتها من الكتاب الذي أهداها إياه المجوسي. وهنا مرة جديدة يلغي أحجيوج تعاقب الأزمنة ويجمع الشخوص من أزمنة مختلفة، ويعيد توزيع الأدوار في ما بينها بما يخالف المأثور التراثي. وفي "شهريار يحلم..." يفعل أحجيوج الأمر نفسه في خلط الأدوار وإعادة توزيعها على الشخوص في قصة "الصياد والمارد"، فشهريار يحلم أنه الصياد الذي يواقع زوجة المارد الجميلة وهذه الأخيرة تمارس دورها التاريخي فتخون المارد الذي اختطفها ليلة عرسها وأرغمها على الزواج منه مع ألف رجل غيره، والصياد يحلم بأنه شهريار ويلبي دعوة الزوجة إلى الخيانة. وبذلك نكون إزاء أحداث مختلفة وأدوار مغايرة تطيح القصة القديمة، ونكون إزاء قصة جديدة. وفي "فلما جاء دور شهرزاد" يبطش الملك بالنساء ألف ليلة وليلة ولا يجد في حكايات شهرزاد ما يستحق الإصغاء، فيدفعها إلى مسرور السياف لإجراء المقتضى بحقها. والمفارق أن أحجيوج يذيل هذه القصة بخمسة ملاحق نقدية ويأخذ حريته في التجريب إلى أبعد الحدود.

وفي قصة "الجنازة الثانية لابن رشد"، يتناول الكاتب التضييق على حرية الفكر في أواخر العصر الأندلسي، والدور الخطر الذي يضطلع به الوزراء والفقهاء في تضليل الحاكم وإيراده موارد التهلكة، مما يؤدي إلى اتهام ابن رشد بالزندقة ومحاكمته وإحراق كتبه ونفيه خارج قرطبة، ويفسر من زاوية معينة سقوط الأندلس.

المدونة الأدبية

 وإذا كانت القصص الأخيرة التي تنحو منحى التبسيط البنيوي تمتاح من المدونة التراثية فإن ثمة قصصاً أخرى في المجموعة تنحو المنحى نفسه وتمتاح من المدونة الأدبية، ففي "مكر الأحلام"، يكتب بورخيس الذي لا يعرف العربية مقالاً بهذه اللغة عن قصة لن يكتبها صاحبها إلا بعد 42 عاماً وينشرها يوم مولد الكاتب أحجيوج. وفي "مدينة من زجاج" يكتشف جواد الإدريسي الكاتب المعتزل داخل شقته في طنجة خلال تعريجه ليلاً على مكتبة، وجود كتاب فيها لمحمد سعيد أحجيوج فيشكل الاكتشاف مفاجأة له باعتباره يوقع رواياته بهذا الاسم المستعار ما يحرره من أعباء الأب والأسرة والتاريخ، ولا يحود دون عودته إلى اسمه الأصلي عند الضرورة.

والملاحظ هنا أن الكاتب يحول نفسه إلى شخصية قصصية ويلغي المسافة بينه وراويه. والمفارق أن هذا الراوي نفسه يقوم بمهمة الروي في قصة "الرحلة إلى جبل قاف" التي تحمل المجموعة اسمها ويلعب دور البطولة فيها، فجواد الإدريسي الذي يحلم بفتاة جميلة خلال نومه يستيقظ نتيجة طرقات على بابه ليجدها على الباب تحمل طفلاً رضيعاً، وتدفع به إليه باعتباره ابنه وتغادر على عجل، وهو الذي لم يسبق له أن مس امرأة إلا في الأحلام. وهكذا، تتمظهر الغرابة في القصة في تحول حلم الراوي إلى واقع، وفي تحوله إلى أب لرضيع يشبهه ولم يسبق له أن مس أمه، وفي إدراكه أنه شخصية روائية يحلم بأنه يولد في نهاية الرواية، فيشهق ويبكي.

في المقابل، وخلافاً لما يقوم به أحجيوج يتخذ أنس سمحان في "غرفة 13" من الحياة المعاصرة عالماً مرجعياً لقصص المجموعة.

لذلك لا غرو أن نقع فيها على ثيمات الوحدة والعزلة والتوحد والضجيج والاكتئاب والأرق وسواها من إفرازات الحياة المعاصرة. وينتظمها خطاب قصصي تتعدد تقنيات السرد فيه وتتنوع، وتتفاوت مساحات القصص الـ14 في المجموعة وتختلف، وتراوح مساحة القصة الواحدة بين فقرة واحدة في الحد الأدنى و18 صفحة في الحد الأقصى، ذلك أن القصة الأقصر في المجموعة هي قصة "إني اخترتك يا وطني" التي هي أقرب إلى الأقصوصة منها إلى القصة القصيرة، وتقوم على مفارقة ساخرة بين العنوان والمتن، فبطل القصة الابن الذي يعيش في وطن يضطر فيه الأب إلى بيع أشيائه ليشتري له حلة جديدة يغني للوطن. أما القصة الأطول فيها هي "كلارينيت" وتدور حول شخصية مخترع الكلارينيت الألماني يوهان كريستوف وتتناول تحولات الشخصية، بدءاً من خسارة كل أمواله في استثمار فاشل مروراً بخسارة زوجته وأولاده والهيام على وجهه واعتزال الناس، وفقدان الصوت والارتباط بمعلمة موسيقى تصالحه مع الحياة والانفصال عنها لعدم قدرته على الكلام. وانتهاء باختراعه الكلارينيت. وهكذا تطغى ترجمة الشخصية على أحداث القصة مما يجعل قصصيتها على المحك.

 مضاعفات الوحدة

 بين القصتين الأقصر والأطول ثمة 12 قصة في "غرفة 13" تتناول الثيمات المذكورة أعلاه، فنقع على الوحدة في قصة "الهاوية" التي يشعر فيها البطل بتخلي الجميع عنه، ويتردى في وحدة قاتلة ويعيش صراعاً بين العقل والقلب ينكفئ فيه على ذاته، ويطرح عليها أسئلة وجودية لا يعرف أجوبتها فيفضل البقاء عالقاً في برزخ عدم المعرفة. وبذلك نكون إزاء قصة داخلية تجري أحداثها في رأس البطل لا على أرض الواقع. وتكون القصة مجموعة أسئلة وجودية. والثيمة نفسها نقع عليها في قصة "غرفة 13" التي تحمل المجموعة اسمها، مع فارق أن الذي يعاني وحدة قاتلة فيها ليس إنساناً بل جماد، فالغرفة 13 في الفندق يزعجها أن الذين ينزلون فيها سرعان ما يغادرونها تشاؤماً برقمها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لذلك ما إن يأتي صياد لينام فيها حتى تنخرط في حوار معه وتحاول إقناعه في البقاء وتغريه بجولة في الزمان، وإذ يحاول الفرار من هذه الوضعية الغرائبية توصد بابها دونه وتقرر ابتلاعه وإخفاء أثره كما فعلت مع سواه. وهكذا تقول القصة ثقل وطأة الوحدة إلى حد أن الجماد لا يقدر على تحملها. ولعل الخوف من الوحدة هو الذي يدفع البطل في قصة "طاولة لاثنين" إلى موافاة صديقه محمود إلى استراحة الباقة وتكون المفارقة أن الصديق المزعوم لا يأتي إلى الموعد ويخفي عن صديقه انشغاله بالحصول على منحة دراسية، مما يشي بعابرية الصداقة وهو ما ينطبق على الأصدقاء العابرين الذين يخترعهم البطل في مواجهة الوحدة.

 على أن الوحدة ليست العطب الوحيد الذي أفرزته الحياة المعاصرة مما نقع عليه في "غرفة 13"، فثمة أعطاب أخرى تعانيها شخوص المجموعة ويكون لها تداعياتها المدمرة عليها،  فالبطل في قصة "حافلة" يعاني الضجيج الداخلي، فيهرب إلى حافلة مكتظة بالركاب ويأخذ في تأمل راكب يحرك رأسه ويديه حركات إيقاعية حتى التماهي به، فينخرط في نوبة رقص دون وعي منه ولا يستيقظ منها إلا حين تتوقف الحافلة، على وقع استنكار الركاب الذين يسد عليهم ممر النزول حتى إذا ما ترجل منها يعود ليغرق في الضوضاء من جديد.

والبطل في "صندوق رمل" يعاني فوبيا الاختلاط ويعتزل الناس مخافة التعلق بأي شيء فان من جهة، ومخافة إقدام البلدية على جرف شقته لشق شارع في المكان من جهة ثانية. وحين تنجح صديقته نور في إخراجه من عزلته ويكتشف أن البلدية نفذت مشروعها يشعر بتعرضه للخيانة، فيقتلها وينتحر. والبطل في "البوم" يشعر باللاجدوى وتجاهل الناس له واحتقار البوم إياه، فيكاد ينجح في الانتحار لو لم يتداركه أخوه في اللحظة الأخيرة. والبطل في "كابوس غزة" يصاب باكتئاب المدينة ويعجز عن خروجه منها أو إخراجها منه. والبطل في "أرق" يعاني الأرق ما يخرجه من دائرة الوعي إلى الهلوسة. وهكذا، نكون إزاء مجموعة من الشخوص التي أخنى عليها نمط الحياة المعاصرة، وأصابها بأعطاب قاتلة وهو ما يرصده أنس سمحان في مجموعته، فيواكب الواقع المعيش في حكاياته ويفارقه في تقنيات التعبير عنها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة