ملخص
لا يمكن أبداً إنكار تورط المملكة المتحدة في تجارة الرقيق، تماماً كما لا يمكن التغاضي عن الدور الكبير الذي اضطلعت به ممالك أفريقية مؤثرة وثرية في بيع العبيد للتجار الأوروبيين إلا أن الجهود ينبغي أن تتركز على تحقيق أقصى استفادة من المزايا التجارية والاستثمارية المتأصلة في جوهر الكومنولث، والتي تنبع من اللغة المشتركة والأنظمة القانونية المتشابهة والأطر الإدارية المتناغمة وتعزيز التعاون لجعل الكومنولث إطاراً أكثر أمناً واستدامة، ويوفر فرصاً تعليمية واقتصادية أفضل للمئات والملايين من أفراد شبابه الطموحين.
في أعقاب تقارير تفيد بأن زعماء دول الكومنولث (وهو اتحاد يضم 56 دولة كانت أقاليم سابقة للإمبراطورية البريطانية) الذين اجتمعوا في جزيرة ساموا في إطار "قمة رؤساء حكومات الكومنولث" Commonwealth Heads of Government Meeting (CHOGM) التي تعقد كل سنتين، يخططون لتحدي المملكة المتحدة من خلال وضع "العدالة التعويضية" [التعويض عن الضرر الناجم عن الممارسات الظالمة] على رأس جدول أعمال القمة، وهو ما يعني أن على رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر تأكيد خطوطه الحمراء، وهو رفض تقديم تعويضات مالية تتعلق بالتاريخ الاستعماري لبلاده، وكذلك الامتناع عن إصدار اعتذار عن تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي.
تقرير صدر العام الماضي عن "جامعة جزر الهند الغربية" University of West Indies، بدعم من القاضي الجامايكي باتريك روبنسون، كان قد أظهر أن المملكة المتحدة مدينة بتعويضات بقيمة 18 تريليون جنيه استرليني (23 تريليوناً و400 مليار دولار أميركي). ولتوضيح الأمر، فإن هذا المبلغ يعادل أكثر من 6 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة لعام 2023، الذي بلغ نحو 2.7 تريليون جنيه استرليني.
المفارقة أن ديفيد لامي الذي يتولى الآن منصب وزير الخارجية في حكومة ستارمر، كان قد قال في عام 2018: "بصفتنا شعوباً من منطقة البحر الكاريبي تعرضنا للاستعباد والاستعمار ودعينا إلى بريطانيا... فإننا نتذكر تاريخنا. نحن لا نريد اعتذاراً فحسب، بل نسعى أيضاً إلى الحصول على تعويضات".
إلا أن تولي منصب رفيع المستوى في حكومة المملكة المتحدة، ينطوي على مسؤولية تتمثل في إعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية البريطانية، بغض النظر عن الخلفية الشخصية للمسؤول. كما يتطلب الأمر فهماً للمشاعر ووجهات النظر السائدة لدى المواطنين داخل المملكة المتحدة، وكذلك لدى حلفائها الرئيسين في دول الكومنولث، التي كانت مستعمرات بريطانية سابقة.
وفي هذا الإطار كشف تقرير حديث صادر عن مؤسسة "بوليسي إكستشينج" Policy Exchange (وهي مؤسسة بحثية بريطانية تجري دراسات عن قضايا الأمن القومي والسياسة الاقتصادية والعلاقات الدولية، وتميل عموماً إلى وجهات النظر "المحافظة" ويمين الوسط) أن 60 في المئة من البريطانيين يرون أن الدور التاريخي للمملكة المتحدة كان إيجاباً إلى حد كبير. وتشير دراسة أخرى صادرة عن المؤسسة نفسها إلى أن الرأي العام الهندي في غالبيته يميل بصورة كبيرة إلى الاعتقاد أن المملكة المتحدة تسهم بصورة إيجابية في الشؤون الدولية أكثر من مساهمتها السلبية، مع وجود آراء مماثلة لدى غالبية الشعب النيجيري.
وبما أن الهند تمثل ثلاثة أخماس سكان دول الكومنولث، بينما تعد نيجيريا أكبر دولة في القارة الأفريقية من حيث عدد السكان. فإن هذه المشاعر، سواء داخل المملكة المتحدة أو خارجها، ينبغي أن تؤثر في طريقة تفكير بريطانيا مع تاريخها الخاص، وكيفية تعاملها مع دورها الراهن في النظام العالمي ما بعد مرحلة الاستعمار.
من هنا، يتعين على الحكومة البريطانية - والكومنولث بصورة عامة - توخي الحذر في التعامل مع قضية العدالة التعويضية وتجنب الغوص في متاهاتها. وعلى رغم أن المرشحين الثلاثة الذين يتنافسون على خلافة البارونة باتريسيا جانيت سكوتلاند في منصب الأمين العام للكومنولث هم من أفريقيا، وقد أعربوا عن تأييدهم لمسألة التعويضات، إلا أن التصرف بحذر قد يكون أمراً حكيماً في هذا السياق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يمكن أبداً إنكار تورط المملكة المتحدة في تجارة الرقيق، تماماً كما لا يمكن التغاضي عن الدور الكبير الذي اضطلعت به ممالك أفريقية مؤثرة وثرية في بيع العبيد للتجار الأوروبيين. ففي أوائل القرن الـ18، برز ملوك داهومي في أفريقيا الوسطى (التي أصبحت الآن دولة بنين) كلاعبين رئيسين في تجارة الرقيق. وكان الملك جيزو الذي حكم تلك البلاد في الفترة الممتدة ما بين عام 1818 وعام 1858 قد قال "إن تجارة الرقيق هي المبدأ الحاكم لشعبي. إنها مصدر ثروتهم ومجدهم"، بل قال إنه سيمتثل للمطالب البريطانية أياً كانت، باستثناء التخلي عن تجارة الرقيق.
كذلك كانت نخب من المجموعتين الإثنيتين الكبيرتين "يوروبا" في نيجيريا و"أشانتي" في غانا، متورطتين بصورة كبيرة في أنشطة تجارة الرقيق. وكانت مجموعات إثنية أخرى مثل "نيامويزي" في تنزانيا تعمل كوسطاء مسلحين، وتشن هجمات لاختطاف أفراد وتصديرهم كعبيد.
في المقابل تتجاهل النقاشات المبسطة لمسألة التعويضات الإقرار بالدور التاريخي المميز الذي اضطلعت به بريطانيا في إلغاء تجارة الرقيق، ولا سيما الجهود التي بذلها في هذا الإطار "سرب غرب أفريقيا" West Africa Squadron (قوة بحرية بريطانية أنشئت في القرن الـ19)، وإصرار المملكة المتحدة على إغلاق أسواق الرقيق في زنجبار.
وفي هذا السياق، يبدو رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر محقاً في تنبيهه إلى الخطر المتمثل في انخراط مجموعة الكومنولث في "مناقشات مطولة لا تنتهي، في ما يتعلق بموضوع التعويضات"، وأن التركيز على "التحديات الحالية والمستقبلية" هو استخدام أكثر جدوى للوقت والطاقة والموارد.
إن الهدف الأساس من هذه الجهود ينبغي أن يتركز على تحقيق أقصى استفادة من المزايا التجارية والاستثمارية المتأصلة في جوهر الكومنولث، والتي تنبع من اللغة المشتركة والأنظمة القانونية المتشابهة والأطر الإدارية المتناغمة. وينبغي أيضاً أن يكون الهدف الأساس هو تعزيز التعاون لجعل الكومنولث إطاراً أكثر أمناً واستدامة، ويوفر فرصاً تعليمية واقتصادية أفضل للمئات والملايين من أفراد شبابه الطموحين.
يبقى القول إن الحاجة إلى تحالف دولي موحد باتت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، وذلك بهدف التصدي للتحديات الكبرى التي تواجهنا اليوم ومعالجتها. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف على أفضل وجه من خلال إعادة تخصيص مبالغ ضخمة من الأموال بصورة مثير للجدل بين أجزاء مختلفة من الكومنولث بسبب مظالم تاريخية، بل ينبغي بدلاً من ذلك أن يركز تحالف الكومنولث على تبادل ديناميكي للمعرفة بين دوله، والجمع بين الخبرات بروح من التعاون الذي يتطلع إلى المستقبل.
الدكتور رقيب إحسان هو مستشار أول في مؤسسة "بوليسي إكستشينج"، ومؤلف كتاب "ما وراء المظالم" Beyond Grievance (يباع في مكتبات "فوروم بوكس" Forum Books بسعر 12.99 جنيه استرليني)
© The Independent