ملخص
على مشارف الانتخابات الرئاسية الأميركية، أعلنت "واشنطن بوست" النأي عن دعم مرشح دون غيره في الانتخابات الرئاسية. فماذا وراء هذا القرار؟ فهل كان موقفها السابق منحازاً إلى المرشحة الديمقراطية أم إلى مبادئ وقيم ديمقراطية وتنويرية؟
قبل أيام من انتخابات 2024 الرئاسية الأميركية المرتقبة أعلنت صحيفة "واشنطن بوست" العزوف عن تأييد أي من المرشحين في تغطيتها، على رغم أنها في 2018 رفعت لواء شعار "الديمقراطية تذوي في الظلام" في إشارة إلى خطاب يقوض أفكار التنوير التي رجحت في الغرب منذ القرن السابع عشر. فـ"الظلام" هنا ارتكاس إلى ما قبل القرن السابع عشر. وتعلي هذه الأفكار شأن التجربة والخبرة، وتنزل الوقائع منزلة النواة، وتلتزم التواضع في وجه التعقيد.
"واشنطن بوست" كانت من أوائل من دق ناقوس الخطر من خطاب دونالد ترمب الذي يقوض أبرز قيم الأنوار، وحينها أعلنت الصحيفة تأييد خصوم دونالد ترمب، واستضافت على منبرها أكاديميين وخبراء الاستخبارات من المؤرخة الأميركية الخبيرة في الشؤون الروسية آن أبلباوم ومايكل هايدن، مدير سابق لوكالة الأمن القومي الأميركية، وغيرهما. وما أتى به ترمب وأصحابه من ترويج لأكاذيب حمل قاموس أوكسفورد على سبيل المثال إدراج عبارة "ما بعد الواقع" بين صفحاتها في 2016. وترجح في عالم ما بعد الواقع كفة الانفعالات والمعتقدات الخاصة على كفة الوقائع في بلورة الرأي. وعالم ما بعد الواقع غير بعيد من عالم ما بعد العلم، إذا جاز القول. ورافعو لواء عالم ما بعد العلم يطعنون في العلم ونجاعة علاجاته. فدونالد ترمب مثلاً دعا المصابين بفيروس كورونا إلى حقن أنفسهم بمعقمات لمكافحة الفيروس. وسارعت أبرز شركات المعقمات، ومنها "ديتول"، إلى التحذير من استعمال منتجاتها من دون سند طبي؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونبه الجنرال السابق مايكل هايدن على صفحات "واشنطن بوست" من نتائج غلبة التحزب السياسي على الحياة السياسية في الولايات المتحدة. وهو ذهب إلى أن هذا التحزب صار "شمولياً"، مستعيداً كلمات المعلق والكاتب ديفيد بروكس. وأضاف أن الهوية الحزبية صارت تملأ الفراغ الناجم عن ذواء الروابط - الدينية والإثنية والجماعاتية والعائلية. واليوم، صارت المعتقدات وثيقة الصلة بالهويات، وبلغت مبلغاً لا تجدي معه المحاججة في مسألة ما والمناقشة.
فما الذي حمل جيف بيزوس، الملياردير، مالك "واشنطن بوست"، وهو ثاني أكثر أغنياء المعمورة، بحسب تصنيف "فوكس"، على النأي في السباق الرئاسي الأميركي عن ترجيح ما بدا أنه على المحك، أي قيم الأنوار المستندة إلى أدلة، في حين كانت الصحيفة رأس حربة في الدفاع عن هذه المبادئ والحريات في وجه السياسات الشعبوية "الفاشية" والتصدي للتحزب السياسي؟ وفي وقت يدق ناقوس الخطر من خطاب ترمب الفاشي على ما نبه شون أوغرايدي في "اندبندنت"، تمس الحاجة إلى صحافة تعلي معايير الموضوعية في التغطية وتسهم في حماية الحريات في آنٍ. وكان المؤرخ تيموثي سنايدر سلط الضوء على أهمية الاستناد إلى الواقع في كتيبه التحذيري "حول الاستبداد"، قائلاً "أن نهجر الوقائع هو صنو أن نهجر الحرية. فإذا لم يكن شيئاً صحيحاً، فليس في الإمكان نقد السلطة في غياب سند يبنى عليه النقد... ما بعد الواقع هو ما قبل يمهد لـ(الفاشية)".
وخلال وقت يسلط الضوء على سعي الأثرياء الأميركيين إلى التأثير في الانتخابات الرئاسية الأميركية من طريق التبرع بمبالغ كبيرة -تبرع بيل غيتس لحملة كامالا هاريس بـ50 مليون دولار، وإيلون ماسك بـ75 مليون دولار أميركي لحملة دونالد ترمب- يبرز سؤال، هل تراجع جيف بيزوس عن النهج التحريري السابق في صحيفة "واشنطن بوست" الرامي إلى حماية الديمقراطية من قبيل مساعي التأثير في الانتخابات، ولو من طريق الوقوف على حياد في زمن غلبة التحزب السياسي على الحياة السياسية في الولايات المتحدة؟
والحق أن الأمر لم يعد يقتصر على استقطاب حزبي بل على خروج على المؤسسات والمعايير ومبادئ المنافسة السياسية والسباق الرئاسي. وهذه الحرب لا تدور بين حزبين فحسب بل في الحزب الجمهوري نفسه إلى حد قرع بعض صقوره (من أمثال جون بولتون) ناقوس الخطر من محاباة مستبدين من أمثال فلاديمير بوتين وكيم جونغ أونغ. فمسؤولون جمهوريون هم من تصدوا لمساعي ترمب إلى تقديم مصلحته الشخصية على مبادئ المؤسسات، وأولهم نائب ترمب حينها مايكل بنس الذي رفض إعلان فوز دونالد ترمب بولاية ثانية خلال عام 2020، ليس انحيازاً إلى المرشح الديمقراطي جو بايدن بل التزاماً بالقوانين والأصول.
ويرى ستيفن مارش صاحب كتاب "الحرب الأهلية المقبلة" أن هذه الحرب بدأت إلى حد ما بالفعل. والمؤشرات إليها ماثلة في كل حدب وصوب ومنها تحدي مأموري الشرطة في جميع أنحاء البلاد للقوانين الفيدرالية، وحصول مجموعات تؤمن بتفوق العرق الأبيض على مواد نووية. ولكن تفادي أن تكر سبحة فصول هذه الحرب ممكن على ما يخلص ستيفن مارش على رغم تنبيهه إلى أن الولايات المتحدة انزلقت إلى "مرحلة ما بعد السياسة". فالناس يستندون في خياراتهم إلى مشاعر الكراهية فحسب وليس إلى أداء المرشح وتقييم برنامجه. ولسان حالهم "يا إلهي كم أكره دونالد ترمب أو كامالا هاريس".