ملخص
قد نشهد في المستقبل إنتاج اللحوم في المختبرات بدلاً من المزارع. دعونا نطرح الأسئلة الجوهرية: هل هي آمنة وصحية؟ وهل ستسهم في إنقاذ كوكبنا أم أنها مجرد نوع آخر من الأطعمة المعالجة بصورة مفرطة؟
أثارت الحكومة البريطانية اهتماماً واسعاً الأسبوع الماضي عندما أعلنت عن تخصيص 1.6 مليون جنيه استرليني لـ "وكالة معايير الغذاء" Food Standards Agency (الدائرة المسؤولة عن حماية الصحة العامة في ما يتعلق بالغذاء في إنجلترا وويلز وإيرلندا الشمالية) لاستكشاف مفهوم يبدو وكأنه من عالم الخيال العلمي: اللحوم المزروعة في المختبر. ففكرة لحم بقر لم يمضغ علفه أو صوت دجاج ينقنق تبدو وكأنها مشهد من قصة خيالية لكاتب مسلسل "بلاك ميرور" Black Mirror.
على رغم ذلك، قد نشهد في المستقبل إنتاج اللحوم في المختبرات بدلاً من المزارع. وقبل أن تتخيل الدجاج المزروع في علب بتري (وعاء أسطواني غير عميق، مصنوع من الزجاج أو البلاستيك، ومزوَّد بغطاء، يستعمله علماء الأحياء لاستنبات الخلايا) وشرائح اللحم في المختبر على رفوف متاجر "تيسكو" Tesco، دعونا نطرح الأسئلة الجوهرية: هل هي آمنة وصحية؟ وهل ستسهم في إنقاذ كوكبنا أم أنها مجرد نوع آخر من الأطعمة المعالجة بصورة مفرطة؟.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعتقد شركة "أبسايد فودز" Upside Foods، وهي إحدى الشركات الرائدة في مجال اللحوم المزروعة، بأن لديها دوراً في مستقبل غذائي مستدام، إذ تقول ميليسا موسيكر، رئيسة قسم الاتصالات في الشركة التي تتخذ من كاليفورنيا مقراً لها "لقد تجاوزنا مرحلة الاستنبات". وبدلاً من تصور مختبر معقم، تخيلوا مكاناً يشبه مصنع خمور حرفياً، لكن مع استبدال المكونات العصرية بمفاعلات حيوية ضخمة من الفولاذ.
كيف تنتج المختبرات اللحوم المزروعة؟. تبدأ العملية باختيار خلايا من بيضة دجاج مخصبة، يقوم العلماء باختيار أفضل هذه الخلايا لضمان نموها المستمر وتحولها إلى لحوم آمنة وعالية الجودة، ثم تغذى هذه الخلايا بمزيج غني بالعناصر الغذائية يتضمن الماء والسكريات والأحماض الأمينية والفيتامينات والمعادن والأملاح، يتم تحضيره داخل المفاعلات الحيوية الضخمة، وهذه العملية تشبه إلى حد ما إعداد المكونات في المصانع الحديثة، لكنها تهدف هنا إلى إنتاج لحوم مستدامة بدلاً من الأطعمة التقليدية. وبعد أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، يتم إنتاج ما يشبه صدر الدجاج، وعلى رغم أن هذه الفكرة تبدو مبتكرة، إلا أنها تعتمد على علوم حقيقية موجودة منذ أعوام.
وفي الواقع، تنبع هذه الفكرة من المجال الطبي، إذ ابتكر الدكتور أوما فالتي، مؤسس شركة "أبسايد"، هذا المفهوم أثناء عمله على استخدام الخلايا الجذعية لمساعدة مرضى النوبات القلبية في تجديد الأنسجة التالفة. هنا تساءل الدكتور فاليتي: إذا كان بإمكاننا زراعة الأعضاء البشرية، فلماذا لا يمكننا زراعة اللحوم؟. وبعد أكثر من 10 أعوام، أصبحت شركة "أبسايد فودز" تنتج أكثر من 22 ألف كيلوغرام من الدجاج المصنع سنوياً، وتطمح إلى زيادة الإنتاج ثمانية أضعاف.
ولم تكُن "أبسايد فودز" وحدها في هذا المجال، فثمة شركات أخرى مثل "إيت جست" Eat Just و"بلو نالو" BlueNalu خطت خطوات كبيرة، فأصبح الدجاج المصنع في المختبر متاحاً في سنغافورة بالفعل، وتقترب "بلو نالو" من طرح تونة البلوفين المزروعة قريباً. وقد تختلف التقنيات بين الشركات، فبعضها يعتمد على أخذ الخلايا من الحيوانات الحية، لكن المملكة المتحدة لا تزال متأخرة بسبب العقبات التنظيمية، ويعتبر التمويل الأخير من "وكالة معايير الغذاء" خطوة مهمة تمهيداً لإدخال اللحوم المصنعة إلى مائدة طعام البريطانيين.
لكن السؤال الأهم هو: هل تقدم هذه اللحوم المتطورة مزايا حقيقية مقارنة باللحوم التقليدية؟. يعتبر تيم سبكتور، أستاذ علم الأوبئة الجينية في "كينغز كوليج لندن" King’s College London وأحد الأسماء البارزة في مجال صحة الغذاء في المملكة المتحدة، أن هذه الخطوة ضرورية لتحفيز الناس على إعادة تقييم أنظمتهم الغذائية. ويقول "يمكن أن تكون هذه الخطوة بمثابة نقطة تحول لكثيرين، ونحتاج إلى تشجيعهم على التوجه نحو الأغذية النباتية".
من الواضح أن سبكتور لا يتبنى مواقف قاطعة، ولا يفضل اتخاذ مواقف حاسمة حول التغذية ويسعى إلى التحسينات التدريجية، مشيراً إلى الانتقادات التي وجهت لمنتجات اللحوم النباتية مثل "بيوند ميت" Beyond Meat وإمبوسيبل برغرز" Impossible Burgers التي تنتج أيضاً في المختبرات، بسبب كونها فائقة المعالجة، ويوضح "لكنها لا تزال أكثر صحة من البرغر التقليدي الذي صنعت لتحل محله". والنقطة ليست الوصول إلى الكمال، بل تحقيق التقدم، وهذا ما تقدمه اللحوم المصنعة في المختبرات، خطوة نحو الابتعاد من إنتاج اللحوم الصناعية.
ويشير سبكتور حول ما إذا كانت اللحوم المزروعة في المختبر تعتبر فائقة المعالجة، إلى أن "اللحم المستخرج من المختبر بسيط في جوهره. لكن لإعطائه القوام والشعور كاللحوم الحقيقية، قد تحتاج إلى إضافة مواد كيماوية تجعله ربما فائض المعالجة، لكن ليس من الضروري أن يحدث ذلك"، مضيفاً "البروتينات والدهون ليست معالَجة بصورة مفرطة في حد ذاتها. ما يحدد ذلك هو ما قد يحدث لاحقاً وكيفية معالجتها، مما قد يؤدي إلى تصنيف اللحوم المزروعة في المختبر كأطعمة فائقة المعالجة".
وعلى رغم الفوائد الكبيرة المحتملة للحوم المزروعة في المختبر، إلا أن هناك من لا يعتبر هذه التكنولوجيا هي الحل، إذ عبّر باتريك هولدن، مزارع ألبان ومؤسس منظمة الثقة بالغذاء المستدام، عن شكوكه في هذا الصدد. ويقول "أجد أنه من المؤسف أن يتم توجيه كل هذا الجهد والاهتمام نحو إعادة ابتكار ما تقدمه الطبيعة، بينما يمكن للطبيعة أن تغذينا على نحو أفضل بكثير من التكنولوجيا".
ويدعو هولدن إلى اتباع ممارسات الزراعة المستدامة التي تتماشى مع الطبيعة بدلاً من محاولة التفوق عليها في المختبرات. ففي مزرعته، يركز على تحسين نوعية التربة وتخزين الكربون وزيادة التنوع البيولوجي من خلال تدوير المحاصيل ورعي الحيوانات في المراعي الطبيعية.
ويظن أن هذه هي الحلول الحقيقية. ومع ذلك، لا تزال هذه الأساليب تعتبر هامشية في الزراعة البريطانية، ويشير إلى أن "المشكلة الأساسية تكمن في هيمنة الزراعة الصناعية على المملكة المتحدة وأن الجميع يتحدث عن ضرورة التخلي عن اللحوم والاعتماد على نظام غذائي نباتي، لكن الأمر ليس بهذه السهولة".
وأكد أنه يجب علينا التخلي عن تناول اللحوم البيضاء الرخيصة والمصنعة مثل الدجاج، قائلاً "المشكلة ليست في الحيوان نفسه، بل في طريقة إنتاجه".
وبعيداً من القضايا البيئية، يتساءل هولدن عما إذا كانت اللحوم المنتجة في المختبرات يمكن أن تعكس يوماً ما ثراء وتعقيد اللحوم التي تنتج بصورة طبيعية، ويطرح سؤالاً عن كيفية تقليد ذلك في المختبرات؟، فالجبنة التي يصنعها في مزرعته تعكس تنوع المراعي التي ترعى فيها أبقاره. ويؤكد أن هذا النوع من النكهة والخصائص لا يمكن تحقيقه من خلال استنبات الخلايا في أوعية كبيرة.
من جانبها، تستهزئ موسيكر بهذه الانتقادات. وتؤكد أن دجاج "أبسايد" يتمتع بالطراوة لأنه لا ينتج من طائر حي. وبفضل طريقة الإنتاج، تكون اللحوم أكثر طراوة. وقد استضافت أخيراً عشاء قدمت فيه دجاج "أبسايد"، وكان طعمه مشابهاً جداً للطبيعي لدرجة أن جيرانها اشتكوا من رائحته. وتقول ضاحكة "هذا يعتبر مجاملة كبيرة لنا". وقد نجحت في إقناع أصدقائها الذين امتنعوا عن تناول اللحوم لأسباب أخلاقية. "كانت إحدى صديقاتي متأثرة جداً، إذ لم تأكل قطعة لحم منذ 20 عاماً، وقالت إن الطعم كان رائعاً".
وبالنسبة إلى شركة "أبسايد"، الهدف الحقيقي ليس المزارع الصغيرة المستدامة، بل استهداف المنظومة الصناعية الكبرى لإنتاج اللحوم التي تسهم بصورة كبيرة في انبعاثات الغازات الدفيئة عالمياً. وتقول موسيكر "ينظر إلينا على أننا تهديد كبير، على رغم أننا ننتج نسبة ضئيلة جداً مقارنة بإجمالي إنتاج صناعة اللحوم الحيوانية"، مضيفة "في الواقع، إذا كنت تدعم الزراعة البطيئة والمزارع الصغيرة أو الزراعة المستدامة، فإن أهدافنا النهائية متشابهة للغاية".
والمقصود هو تقليل الاعتماد على اللحوم الرخيصة المنتجة بكميات كبيرة التي تسهم في إزالة الغابات واستنزاف الموارد المائية والتلوث. وتصف موسيكر اللحوم المزروعة بأنها "صمام أمان بيئي"، وهي خيار للأشخاص الذين يسعون إلى اتخاذ خطوات عملية لمواجهة قلقهم في شأن المناخ، تماماً كما يفعلون عند شراء سيارات كهربائية أو تعويض انبعاثات الكربون أثناء السفر باستخدام الطائرات.
ولكن هل هو حقاً أفضل للكوكب؟. لا شك في أن إنتاج اللحوم التقليدية يعتبر من أكبر مسببات الانبعاثات في العالم. كما أن تربية الحيوانات تتطلب مساحات شاسعة من الأراضي وكميات كبيرة من المياه والأعلاف، وتنتج كميات كبيرة من غاز الميثان. وتشير الأبحاث إلى أن اللحوم المزروعة في المختبرات قد تقلل انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة تصل إلى 96 في المئة مقارنة باللحوم التقليدية، مع استهلاك أقل بكثير للأراضي والمياه.
ومع ذلك، فإن هذا الحل ليس خالياً من التحديات، فهو يتطلب كميات كبيرة من الطاقة، بخاصة الكهرباء اللازمة لتشغيل المفاعلات الحيوية الضخمة. وفي الوقت الحالي، نتحدث عن إنتاج بالكيلوغرامات فقط، وحتى يتم توسيع نطاق الصناعة، لن نعرف التأثير البيئي الحقيقي بصورة دقيقة.
كما أن الكلفة تشكل تحدياً آخر. وحالياً، يعتبر إنتاج اللحوم المزروعة في المختبرات مكلفاً جداً، مما يجعلها متاحة فقط للنخبة الأكثر وعياً بالبيئة. ومع تقدم التكنولوجيا، بفضل التمويلات مثل تلك في المملكة المتحدة ودخول مزيد من الشركات إلى السوق، قد تنخفض الأسعار، مما يجعلها أكثر سهولة للمستهلك العادي. ولكن في الوقت الحالي، لا تزال هذه اللحوم منتجاً متخصصاً.
وعلى رغم كل التحديات، لا يزال سبكتور متفائلاً. ويقول "أنا مؤيد تماماً لهذه الأطعمة. فهي تدفع الناس عموماً في الاتجاه الصحيح، وتصبح مع الوقت أكثر استدامة أو صحة". كما يتوقع أنه خلال 10 أعوام سنكون جميعاً نتناول هذه الأطعمة. وبالنسبة إلى الوقت الحالي، يعتقد بأن مجرد الحديث عن الأمر خطوة إيجابية. ويؤكد أن "كمية اللحوم التي تختار تناولها هي من أهم القرارات التي يمكنك اتخاذها لمصلحة كوكب الأرض".
وعلى رغم التفاؤل الذي تبديه شركة "أبسايد فودز"، تواجه اللحوم المزروعة في المختبرات تحديات كبيرة قبل أن تصبح شائعة. أول هذه التحديات القوانين والتنظيمات، يليها انتشار المعلومات المضللة، كما أن بعضهم يشكك في مدى كون هذه اللحوم "صحية" بالمعنى الأوسع للكلمة.
وفي العام الماضي، نشر موقع "بلومبيرغ" Bloomberg مقالة أثارت مخاوف من الخلايا المستخدمة في إنتاج اللحوم المزروعة في المختبرات، مدعياً أن نموها السريع قد يجعلها عرضة للتحول السرطاني. وعلى رغم تفنيد هذه الادعاءات تماماً، إلا أن الأمر يكشف عن تردد الجمهور في تقبل هذه التكنولوجيا الجديدة.
ومع ذلك، تتميز اللحوم المزروعة في المختبرات بمزايا عدة، فهي خالية من المضادات الحيوية والهرمونات، وتتجنب الأخطار البيئية التي تأتي مع الزراعة التقليدية، مثل إنفلونزا الطيور.
وقالت موسيكر إنها واثقة من أن هذه المخاوف ستزول مع مرور الوقت. وتقارن الشكوك الحالية بتلك التي واجهتها التقنيات الجديدة والمبتكرة في بداياتها، مضيفة "الأمر يشبه المقطع الشهير من برنامج ’توداي‘ Today عام 1994، عندما تساءلت كاتي كوريك وبراينت غومبل 'ما هو الإنترنت؟ هل نستخدمه مثل البريد؟'، استغرق الأمر سنوات، لكن أصبحت الآن إحدى أهم ركائز حياتنا اليومية".
هل سيكون مستقبل اللحوم المزروعة في المختبرات مشابهاً لما حدث مع الإنترنت؟. سنرى ذلك مع الوقت. راهناً، لا تزال هذه الصناعة في مرحلة التطوير، مع تحديات تنظيمية يجب التغلب عليها وكلف إنتاج تحتاج إلى تخفيض، ومع دعم الحكومة البريطانية لهذا التوجه، أصبحت فكرة وجود اللحوم المزروعة في المختبرات في المتاجر البريطانية أقرب إلى الواقع.
في النهاية، تمثل اللحوم المزروعة في المختبر مزيجاً من الفرص والتساؤلات. فهي تقدم حلاً تقنياً لبعض أكبر التحديات التي تواجه نظامنا الغذائي، مثل تغير المناخ ورفاهية الحيوانات، لكنها في الوقت نفسه تثير تساؤلات جوهرية حول دور التكنولوجيا في مستقبل غذائنا. وهل ستكون هذه التقنية خطوة نحو مستقبل أكثر استدامة، أو أنها ستبعدنا من الحلول الطبيعية التي لدينا بالفعل؟. الإجابة تعتمد ربما على مدى تقبلنا لفكرة أن اللحوم في المستقبل قد لا تأتي من الحيوانات كما اعتدنا.
© The Independent