Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صناديق البريد... أو عندما كان الورق الأشواق والأخبار

"أجيال السوشيال ميديا وربما كل من ولد مع مطلع الألفية الثالثة لم يمر بتجربة كتابة رسالة أو انتظارها"

يوجد بالقاهرة متحف يضم كل ما يتعلق بتاريخ البوستة في مصر منذ بداسية إنشائها (مواقع التواصل)

ملخص

كانت صناديق البريد موجودة ومنتشرة في معظم البنايات، وكانت جزءاً رئيساً من معمار مدخل العمارات، فكانت تُصمم بشكل متسق مع زخارف البوابة والمدخل باعتبارها جزءاً من الطابع الجمالي للمكان.

ورقة بيضاء يكتب الشخص عليها أفكاره ومشاعره لعزيز في مكان بعيد ليطويها ويضعها في مظروف ويغلقه ويضع عليه طابع البريد ثم يتوجه إلى صناديق البريد التي كانت منتشرة في الشوارع في الماضي، ليضع رسالته في الصندوق الأحمر إذا كان مستقبلها داخل مصر، وفي الصندوق الأزرق إذا كان خارج مصر، ليتم جمع الرسائل من قبل "هيئة البريد" وتوزيعها ليتسلمها البوسطجي المسؤول عن المنطقة ليتوجه إلى العنوان ويضعها في محطتها النهائية وهي صندوق البريد الخاص بالمرسَل إليه.

كافة المراحل والخطوات السابقة والتي كانت تستغرق أياماً طويلة حتى تصل الرسالة لمستلمها، كانت طقساً يومياً للمصريين فآلاف الرسائل كان يتم تداولها يومياً، وكان صندوق البريد في مداخل البنايات وجهة يومية لسكانها لتفقده بترقب وأمل في حال انتظارهم لرسالة من شخص عزيز، ربما يُعد هذا شيئاً غريباً على الأجيال الجديدة التي تعتمد البريد الإلكتروني وتطبيقات التواصل التي تصل فيها الرسائل لحظياً، ولكن هكذا كانت الحال لزمن طويل وربما حتى عقود قليلة.

ما كانت تضمه صناديق البريد ليس مجرد أوراق وأظرف وخطابات ولكنها ذكريات ومشاعر وتجارب لا نهائية حملها "البوسطجي" ليضعها في هذا الصندوق لتمثل لمستقبلها لحظات لا تُنسى عند استلام الرسالة بعد انتظار طويل.


مشروع فني لصناديق البريد

جذبت صناديق البريد الكاتب والمصور المصري، ميشيل حنا، ليقدم عنها مشروعاً فنياً برصدها وتصويرها في بنايات مصر الجديدة العريقة، وعنها يقول إن "صناديق البريد كانت موجودة ومنتشرة في معظم البنايات، وكانت جزءاً رئيسياً من معمار مدخل العمارات، ففي العمائر الفخمة التي ميزت الأحياء الراقية كانت صناديق البريد تُصمم بشكل متسق مع زخارف البوابة والمدخل عموماً، فهي جزء من الطابع الجمالي للمكان وكان يصممها المهندس المعماري الذي يصمم العمارة بحيث يكون متناغماً مع ما حوله، بعض الصناديق كانت مرتبطة بمدارس فنية معينة، ففي خلال بحثي وجدت صناديق بريد في واحدة من العمارات تنتمى لمدرسة (أرت نوفو) من تصميم المعماري الشهير، شارل عيروط، فصندوق البريد كان قطعة فنية في مدخل العمارات وليس فقط مكاناً لوضع الرسائل".

ويضيف حنا، "قديماً عندما كان يأتي ساكن جديد إلى العمارة كان يتسلم مفتاح الشقة ومفتاح صندوق البريد الخاص بها في مدخل العمارة وكان يوضع عليه رقم، هو نفسه رقم الشقة في البناية، وعندما يأتي ساعي البريد يضع له رسائله في الصندوق ليقوم الشخص لاحقاً بفتحه بمفتاحه واستلام رسائله".


ويستكمل "مصر من أوائل الدول التي كانت لديها مؤسسة للبريد بكل ما تتطلبه، فإرسال الرسائل يتطلب أن يكون هناك نظام لأسماء الشوارع وترقيم للبنايات والشقق بحيث يتمكن ساعي البريد من الوصول بالرسالة إلى الشخص المطلوب في عنوانه المسجَّل على الظرف. في العقود الأخيرة بدأت صناديق البريد في الاختفاء تدريجاً حتى انقرضت تماماً ولم يعد لها وجود إلا في العمارات القديمة التي لا تزال محتفظة بهذه الصناديق في مداخلها باعتبارها جزءاً رئيسياً من تصميم البناية حتى وإن كانت لا تُستخدم في الوقت الحالي بفعل انتهاء عصر الخطابات التقليدية التي كانت تملأ هذه الصناديق".


الأجيال الجديدة وصندوق البريد

أجيال السوشيال ميديا والبريد الإلكتروني وربما كل من ولِد مع مطلع الألفية الثالثة لم يمر بتجربة كتابة رسالة أو انتظارها وكثر منهم لم يروا صناديق البريد سواء في الشوارع أو في مداخل العمارات، فأغلبها اختفى بحلول هذه الفترة مع بداية ظهور وانتشار الإنترنت في مصر واعتماد البريد الإلكتروني ووسائل المراسلات الإلكترونية التي انتشرت حينها، وكانت طفرة ونقلة نوعية في التواصل الإنساني بين الناس، فمن أمام جهاز الكمبيوتر في منزلك أصبح بإمكانك إرسال رسالتك لشخص في الجانب الآخر من العالم واستقبال رده سريعاً أو بشكل لحظي ليصبح البريد بشكله التقليدي جزءاً من الماضي يحن إليه من عاصروه وخاضوا تجربة كتابة الرسائل.

ويقول حنا إن "صندوق البريد كان جزءاً من حياتنا حتى سنوات قليلة وفجأة تحول إلى تراث، حتى أن الأجيال الجديدة لا تعرف ما هذا الشيء من الأساس. ولمست هذا بنفسي عندما عرضت صوري الخاصة بصناديق البريد فبعضهم وقف أمامها متسائلاً عن هذا الشيء الغريب الذي لم يصادف مثله من قبل بفعل اختفاء هذه الصناديق تماماً من البنايات الحديثة بسبب عدم الحاجة لها فلا أحد يرسل الرسائل الورقية حالياً باعتبار أن الإيميل هو الشكل الحديث للرسائل، إذ قضى على المسافات باعتباره يصل في اللحظة نفسها. كان هذا ضرباً من الخيال في عصور سابقة ولكنه حالياً تحول إلى حقيقة وواقع ملموس".

ويضيف "ارتبط بالرسائل كثير من الهوايات، من بينها المراسلة التي كان لها كثير من المحبين، فكان الشخص يتراسل مع آخرين في دول بعيدة ويرسل لهم خطابات وكروتاً تحمل ملامح من ثقافته وحضارته، كانت هناك أيضاً هواية جمع الطوابع التي كانت شائعة جداً ولها كثير من المحبين الذين كانوا يمتلكون مجموعات كبيرة من الألبومات التي تضم طوابع من كل أنحاء العالم، الخطاب الورقي كان يمثل حالة خاصة، فنوع الورق وملمسه وخط الشخص واهتمامه بأن يكون في أفضل صورة، والطابع على الظرف من الخارج، وفي بعض الأحيان إرسال كارت أو صورة أو عملة، كلها أشياء تمنح الرسالة قيمةً وتميزاً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


جوابات هليوبوليس

ومواكبةً لليوم العالمي للبريد في 9 أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، والذي يأتي هذا العام تحت شعار 150 عاماً من المساعدة على التواصل وتمكين الشعوب، حيث أن اليوم العالمي للبريد يأتي في الذكرى السنوية لتأسيس اتحاد البريد العالمي في عام 1874.

ولمصر تاريخ طويل مع البريد حتى أنها من أوائل الدول التي أقامت مؤسسات وهيئات منظمة للبريد بهدف خدمة المواطنين ونقل رسائلهم بسهولة. ويعود البريد بصورته الحديثة في مصر إلى عهد الخديوي إسماعيل، مع إنشاء ما أُطلق عليه وقتها "البوستة الخديوية"، التي شهدت تطورات عدة على مر الزمن.

وفي عهد الملك فؤاد، أقيم مؤتمر البريد العالمي العاشر بالقاهرة في عام 1934، وعلى أثره افتُتح متحف البريد في مصر الواقع بمنطقة العتبة بالعاصمة والقائم حتى الآن ليروي تاريخ وتطور البوستة المصرية من خلال عرض مجموعات نادرة من صناديق البريد التي كانت مستخدمة في هذا الوقت، إلى جانب مجموعات من الطوابع والأزياء التي يرتديها البوسطجي والتي كانت تميزه في أي مكان.


وفي إطار اليوم العالمي للبريد استضاف قصر البارون بمنطقة هليوبوليس بالقاهرة حدثاً يضم فعاليات متنوعة للتعريف بالبريد وكل ما يتعلق به وبخاصة أن منطقة مصر الجديدة تضم واحداً من أقدم مكاتب البريد الحديثة في القاهرة أنشأه البارون إمبان مع إنشاءاته المتعددة في المنطقة ليسهل التواصل بينها وبين العالم على المستوى الداخلي والخارجي.

وتقول بسمة سليم، مديرة قصر البارون والباحثة في تراث هليوبوليس، إن "فكرة البريد والخطابات التقليدية بدأت تندثر، ومن هنا حاولنا أن نعرف الناس بها باعتبارها جزءاً من تاريخنا الحي، فالمراسلات بين الأشخاص لا تزال موجودة ولكن كل الممارسات القديمة المرتبطة بالبريد تكاد تكون اختفت، سواء صناديق البريد التي يتسلم فيها الناس الرسائل في مداخل العمارات والتي كانت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للمصريين، وكذلك الكروت التي كان يرسلها الناس لبعضهم للمعايدة بمناسبات وأعياد مختلفة وكان استلامها حدثاً مبهجاً وسعيداً لمستقبلها".

وتضيف "حاولنا أيضاً تقديم بعض النشاطات التفاعلية مثل وضع صندوق بريد ودعوة الناس لكتابة رسالة للبارون أو لنا في القصر ووضعها فيه، بعض المشاركين كانت هذه المرة الأولى التي يكتبون فيها رسالة وكانت تجربة جديدة تماماً بالنسبة لهم، جعلتهم يستشعرون الحالة المصاحبة لكتابة الرسائل، فالخطاب الورقي المكتوب له طابع خاص فهو يتميز بالدفء والحميمية بعكس التواصل الإلكتروني الذي في الأغلب يكون جافاً أو معتمداً على قوالب جاهزة للتهنئة بمناسبات أو أحداث معينة مثل التي يتداولها الناس في الأعياد، فهي قوالب جاهزة لا تحمل مشاعر الشخص ولكنها فقط تُستخدم لتؤدي الغرض".


تطور البريد في مصر

لمصر تاريخ طويل في المراسلات بشكل عام، حتى من قبل ظهور الشكل الحديث لمؤسسات البريد فالإنسان على مر العصور ابتكر وسائل مختلفة لتمكنه من التواصل وإرسال الرسائل للأغراض المختلفة، حتى وصل للشكل الحديث لمؤسسات البريد، وأخيراً لكافة الوسائل التكنولوجية التي جعلت أي شخص في العالم على مسافة ضغطة زر وانتقلت بصندوق البريد من مداخل البنايات إلى أجهزة الموبايل واللابتوب.

وتقول الباحثة بسمة سليم إن "لمصر تاريخاً عريقاً في كل ما يتعلق بالبريد فوجدنا وثيقة لبرج حمام زاجل كان يُستخدم في صحراء هليوبوليس للسكان الأصليين الذين كانوا مقيمين في هذه المنطقة، فكانت بعض القبائل تستوطنها وتحديداً بالقرب من منطقة الخليفة المأمون حالياً، فوجِدت وثيقة من مصلحة الآثار تشيد بالبرج وطرازه المعماري وكان هذا قبل وجود البريد بشكله المنظم الذي عُرف لاحقاً، ولكنها تعود لعصر الحمام الزاجل. ومن الجدير بالإشارة أن منطقة هليوبوليس شهدت إقامة واحد من أقدم مكاتب البريد في مصر مع إنشائها على يد البارون إمبان".

وتضيف "هناك طوابع بريدية عدة ارتبطت بحي هليوبوليس وجاءت متواكبة مع أحداث شهدتها المنطقة، ومن بينها طابع عليه منطاد زبلن الشهير وقتها وهو يحلق فوق سماء هليوبوليس، وطوابع متعلقة بفعاليات أقيمت في فندق 'هليوبوليس بالاس' من بينها مؤتمر البريد الذي كان بدايةً لنشأة البريد في مصر، وبناءً عليه تم إنشاء متحف البريد في العتبة والذي لا يزال قائماً حتى الآن، وأيضاً عُرضت طوابع متعلقة بزواج الملك من الملكة فريدة التي أقامت قبل الزفاف في قصر ألفريد شماس لتخرج منه الزفة إلى قصر القبة، وكذلك عند زفاف فاروق والملكة ناريمان كانت تسكن في مصر الجديدة وخرجت من منزلها إلى القصر الملكي".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات