منذ أن تولى سير كير ستارمر منصب رئاسة الوزراء في الخامس من يوليو (تموز) الماضي، التقى فقط بأحد المتنافسين على الرئاسة في الولايات المتحدة، وبشكل غير متوقع لم يكن اللقاء مع حليفته التقليدية الديمقراطية كامالا هاريس، بل مع منافسها الجمهوري دونالد ترمب.
ولم يكن المقصود من عدم اجتماع ستارمر بالسيدة هاريس التقليل من أهمية أي من الجانبين، بل إن ما قام به رئيس الوزراء البريطاني يعكس نهج "المسار المزدوج" Twin-track الذي يتبعه حزب العمال، وهو إستراتيجية طويلة الأمد حافظ الحزب عليها منذ فترة وجوده في المعارضة، استعداداً لأية نتيجة قد تأتي بها الانتخابات في الولايات المتحدة.
ولقد جنت هذه الاستراتيجية ثمارها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان رئيس الوزراء البريطاني سير كير ووزير خارجيته ديفيد لامي ومستشاروهما يدركون منذ فترة طويلة أن ثمة دائماً فرصة قوية لعودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب للحكم، وقد كشفت صحيفة "اندبندنت" أن لامي كان، حتى أثناء ممارسة مهماته في حكومة الظل المعارضة، يمضي وقتاً في الولايات المتحدة في التعامل مع أطراف من يمين الطيف السياسي الأميركي سعياً إلى كسب ودهم، لا بل حاول بناء علاقات مع معسكر ترمب نفسه.
وأفيد بأنه حاول إلقاء كلمة في مؤسسة "هيريتيدج" Heritage، وهي مركز بحثي يميني كان وراء "مشروع 2025" Project 2025 المثير للجدل (مبادرة إستراتيجية وضعتها جماعات محافظة للاستعداد لولاية ثانية محتملة لترمب)، وعلى رغم عدم تمكنه من إلقاء تلك الكلمة فقد قام وزراء آخرون من حكومة الظل العمالية بعقد لقاءات هناك.
يُشار إلى أن ديفيد لامي كان أدلى بعد الانتخابات الأميركية التي أجريت عام 2016 ببعض التعليقات والملاحظات السلبية حول دونالد ترمب، وذلك خلال فترة عمله نائباً في البرلمان عن حزب العمال، وهذه المواقف جعلت الطريق طويلاً أمامه لترميم العلاقة وإعادة بناء جسور جديدة معه، إلا أن ما تجدر ملاحظته هو أن وزير الخارجية البريطاني دافع بصورة خاصة عن السيد ترمب في ما يتعلق بتصريحاته التحريضية على "حلف شمال الأطلسي" (ناتو)، معتبراً أن الرئيس الأميركي السابق كان على حق في تأكيده ضرورة أن يتحمل أعضاء الحلف مسؤولياتهم المالية بصورة عادلة، كما أنه تحدث عن أوجه تشابه بينه وبين مرشح ترمب اليميني لمنصب نائب الرئيس جي دي فانس.
في المقابل كان رئيس الوزراء سير كير ستارمر حريصاً على عقد لقاء مع السيد دونالد ترمب خلال زيارته الأخيرة لنيويورك، إذ كان يدرك تماماً أهمية إقامة علاقات قوية لتعزيز التحالف الغربي الحيوي، وبدا أن الاجتماع سار بصورة جيدة للغاية.
إلا أن الإجراء القانوني المتمثل في دعوى قضائية أقامتها أخيراً حملة ترمب على حزب العمال البريطاني بسبب مساعدة منافسته السيدة هاريس، يمكن أن يقوض بعضاً من التقدم الذي أُحرز حتى الآن على مستوى العلاقة بين الجانبين.
أوكرانيا
يتمثل التحدي الأكبر في ضمان استمرار الدعم الدولي لأوكرانيا، بغض النظر عن التغيرات السياسية المحتملة، ولا سيما أن عودة دونالد ترمب للسلطة وموقفه من هذه القضية، فقد بات واضحاً منذ بعض الوقت أن الرئيس السابق ومعظم أعضاء الحزب الجمهوري قد لا يقدمون المستوى نفسه من الدعم والمساعدات لأوكرانيا، إن كانوا أساساً يعتزمون تقديم أي شيء لكييف، ويبدو أن السيد ترمب قد يسعى إلى بلورة اتفاق بين كل من الرئيس الروسي ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
ومعلوم أن جهوداً كبيرة بذلت خلال الأشهر الأخيرة بهدف تسريع التمويل لأوكرانيا وضمان قبول طلبها الانضمام إلى منظمة "حلف شمال الأطلسي"، وعلى رغم أن كير ستارمر نجح في تحقيق نحو 90 في المئة من أهدافه في هذا الإطار، فإنه لا تزال هناك تساؤلات حول إمكان أن يقوم دونالد ترمب بالغاء هذه الإنجازات.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن عدم منح إذن لكييف باستخدام صواريخ "ستورم شادو" Storm Shadow (وهي صواريخ كروز بريطانية - فرنسية بمدى يصل إلى 250 كيلومتراً) ضد أهداف داخل روسيا، قد يكون له تأثير كبير في الوضع.
ملفات أخرى
لا بد من أن يشعر رئيس الوزراء البريطاني بقلق عميق تجاه ما قد تقرره السياسات المحتملة لدونالد ترمب في منطقة الشرق الأوسط، فعلى رغم أن إدارة الرئيس جو بايدن قدمت الدعم لإسرائيل لكن مواقف ترمب تشير إلى إمكان اتخاذه خطوات أكثر تشدداً وتطرفاً في دعمها ضد حركة "حماس"، مما قد يؤدي إلى عواقب كارثية في قطاع غزة، ويُضاف إلى ذلك أن ترمب كان قد تراجع عن دعمه السابق لتايوان، مما قد يتيح للصين فرصة تبني سياسات أكثر عدوانية تجاه جارتها، فإلى جانب أن تايوان تمثل رمزاً بارزاً للحرية الغربية إلا أن أهميتها تبرز بصورة أكبر في مجال إنتاج أشباه الموصلات التي تُعتبر حيوية لتشغيل معظم الأجهزة والسيارات الحديثة.
وأخيراً تبرز قضية رئيسة تتعلق بالتبادل التجاري، فالحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة لم يكن على استعداد لأن يبرم صفقة تجارية مع المملكة المتحدة، بينما قد يُقدم دونالد ترمب على ذلك، لكن من ناحية أخرى فإن رئيساً انعزالياً ومتمسكاً بالحمائية يمكن أن يسلك مساراً معاكساً تماماً ويقوم بفرض تعرفات جمركية أعلى بكثير.
زيارة ترمب لفاراج في كلاكتون
الحساب النهائي الذي يُقدره سير كير يتمثل في طريقة تأثير رئاسة محتملة لترمب في السياسات البريطانية والأوروبية خلال المرحلة المقبلة، وكانت صحيفة "اندبندنت" قد كشفت عن اعتقاد سائد بأن ترمب قد يزور دائرة كلاكتون الانتخابية التي يمثلها السياسي اليميني نايجل فاراج، كدليل على دعمه له من موقعه رئيساً للولايات المتحدة في حال فوزه، وهذه الزيارة، إن حصلت، من شأنها أن تعزز الحركة اليمينية في المملكة المتحدة التي تواجه في الواقع تحديات جسيمة بعد صيف شهد أعمال شغب.
أما في أوروبا فتتطلع شخصيات يمينية مثل رئيس الوزراء في المجر فيكتور أوربان، والزعيمة البارزة في حزب "التجمع الوطني" في فرنسا مارين لوبان إلى كسب الدعم من رئاسة دونالد ترمب.
وأخيراً يدرك سير كير تماماً أن على المملكة المتحدة وحكومتها أن يضطلعا بدور معتدل خلال الأعوام الأربعة المقبلة من رئاسة ترمب.
© The Independent