ملخص
بدلاً من التشبث بتعريف للنصر غير قابل للتطبيق، يجب على واشنطن أن تتعامل بواقعية مع الحرب في أوكرانيا ويتعين عليها أن تعد انتصاراً بقاء كييف مستقلة ذات سيادة، وقادرة على الانضمام بحرية إلى أية تحالفات ومنظمات تريدها
خلال لحظة متقدمة من مناظرة الـ10 من سبتمبر (أيلول) الماضي بين المرشحين الرئاسيين الأميركيين، طرح مذيع شبكة "أي بي سي" ABC الإخبارية ديفيد موير سؤالاً على الجمهوري دونالد ترمب، جاء فيه "هل تريد أن تفوز أوكرانيا بهذه الحرب؟"
رفض ترمب الرد بصورة مباشرة، وأضاف "أريد أن تتوقف الحرب". وعندما كرر موير السؤال ذاته تهرب المرشح الجمهوري مرة أخرى، قائلاً "أعتقد أن المصلحة الفضلى للولايات المتحدة تتمثل في وضع حد لهذه الحرب وطي صفحتها نهائياً".
انتقد عديد من المراقبين رفض ترمب تأييد أوكرانيا في حربها ضد العدوان الروسي. ومع ذلك، فإن الرئيس السابق ليس الشخص الوحيد الذي لا يرغب في الإجابة بصورة مباشرة على مثل هذا السؤال. إن معظم خبراء الأمن القومي الأميركيين، بمن في ذلك فريق السياسة الخارجية لجو بايدن رئيس الولايات المتحدة نفسه، قالوا إنهم يريدون أن تلحق أوكرانيا هزيمة بروسيا. إلا أنهم أبوا أن يحددوا ما يعنيه ذلك بالضبط، معتبرين خلال كثير من الأحيان أن القرار يعود إلى أوكرانيا.
وإذا سئلوا بشيء من الإلحاح فربما يعرف معظمهم هذا الفوز بطريقة مشابهة لتلك التي تحدده بها كييف، بما في ذلك في "خطة النصر"، وهي التعريف الأحدث الذي وضعته وينص على طرد القوات الروسية من كامل أراضي أوكرانيا، بما فيها شبه جزيرة القرم، وإعادة السيطرة على حدود البلاد خلال عام 1991. وهناك سبب وجيه لتبني هذا التعريف. إن القاعدة الأساس في النظام الدولي التي بقيت نافذة لنحو 400 عام وإن لم يجر الالتزام بها على الدوام هي ضرورة احترام الحدود. ولا يجوز اكتساب الأراضي من طريق التهديد باستخدام القوة المسلحة أو باستخدامها الفعلي. وكان هذا أحد الأسباب الرئيسة وراء حشد الولايات المتحدة إلى جانب دول أخرى جهودها للدفاع عن كوريا الجنوبية عام 1950 وعن الكويت عام 1990.
ومع ذلك، وعلى رغم أن هذا التعريف مرغوب فإنه غير قابل للتطبيق في نهاية المطاف. فمن حيث المبدأ، يمكن لأوكرانيا أن تحرر أراضيها التي خسرتها إذا تدخلت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون في الحرب بقواتهم، بيد أن هذا يتطلب التخلي عن الاستراتيجية غير المباشرة التي اختاروها عام 2022. وسيكون لهذا التغيير ثمنه الباهظ من نواح بشرية وعسكرية واقتصادية. ومن شأنه كذلك أن يمهد لأوضاع تنطوي على مجازفات أخطر بكثير [مما هي عليه الحال الآن]، لأنه قد يعني نشوب حرب بين حلف شمال الأطلسي (ناتو) وروسيا التي تملك أسلحة نووية. ولهذا السبب، لن يتم اعتماد مثل هذه السياسة.
وبدلاً من التشبث بتعريف للنصر غير قابل للتطبيق، يجب على واشنطن أن تتعامل مع الواقع المرير للحرب وأن تتصالح مع نتيجة واقعية بصورة أكبر. ويتعين عليها أن تعرف النصر على أنه بقاء كييف مستقلة ذات سيادة، وقادرة على الانضمام بحرية إلى أي تحالفات ومنظمات تريدها. ولكن يجدر بها أن تتخلى عن فكرة أن كييف تحتاج إلى تحرير كل أراضيها لكي تحقق الفوز. لذا، فبينما تستمر الولايات المتحدة وحلفاؤها في إمداد أوكرانيا بالسلاح، عليهم أن يتخذوا الخطوة غير المريحة المتمثلة في دفع كييف إلى التفاوض مع الكرملين، ووضع تصور واضح لكيفية القيام بذلك.
قد لا تحظى مثل هذه الخطوة بشعبية كبيرة. وسوف يتطلب الأمر شجاعة سياسية، كما أن تنفيذه يستلزم وجود قدر كبير من الحرص، بيد أن هذه هي الطريقة الوحيدة لإنهاء الأعمال العدائية والحفاظ على أوكرانيا كدولة مستقلة حقا، وتمكينها من إعادة البناء فضلاً عن تجنيب كل من أوكرانيا والعالم [مواجهة] عاقبة وخيمة.
الواقع... والرغبات المستحيلة
إن العودة إلى حدود عام 1991 أمر لا تقدر كييف على تحقيقه عسكرياً. فالتفاوت بين القوى البشرية والمعدات لدى كل من روسيا وأوكرانيا بكل بساطة كبير للغاية. ويدل التاريخ على أن طرد روسيا من شبه جزيرة القرم أو دونباس يقتضي حيازة أوكرانيا على قوات أكثر بثلاثة أضعاف من حيث العدد والقدرات، من قوات موسكو. كما أن عدد سكان روسيا أكبر بثلاثة أضعاف في الأقل ولديها قاعدة صناعية أكبر بكثير. فالمواقع الدفاعية الروسية محصنة بصورة جيدة، وجاءتها أسلحة ومساعدات فنية من الصين وإيران وكوريا الشمالية. ولا يوجد سبب للاعتقاد بأنها لن تتلقى مزيداً من هذا الدعم مع مرور الوقت. فخلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عمدت كوريا الشمالية إلى تعزيز مشاركتها [في القتال ضد أوكرانيا] من خلال نشر الآلاف من قواتها في روسيا لاستخدامها في المجهود الحربي.
وفي الوقت نفسه، تحتاج كييف إلى معظم قواتها فقط للدفاع عما يقارب 80 في المئة من الأراضي الأوكرانية التي لا تزال تحت سيطرتها. وهي لا تستطيع التخلي عن هذه القوات الآن خصوصاً، ففي الأسابيع الأخيرة سيطرت القوات الروسية على مناطق إضافية في الشرق. وتحاول أوكرانيا بناء ترسانة تكون أشد بأساً غير أنها تفتقر إلى كثير من العناصر اللازمة لجهة القدرة على التصنيع الدفاعي. ويقدم شركاؤها الغربيون المساعدة لها إلا أنهم يفتقرون إلى القدرة على إنتاج ما يكفي من الأسلحة والذخيرة لمنح كييف كل ما ترغب به والإيفاء خلال الوقت نفسه بالتزاماتهم في المناطق الأخرى. إن الولايات المتحدة تحتاج إلى ما يكفي من الأسلحة ليس فقط لمساعدة أوكرانيا، بل أيضاً شركاء مثل إسرائيل وتايوان (إضافة إلى توفير حاجاتها هي). ويمكن لواشنطن بل وينبغي لها أن تزود كييف أنظمة أكثر تطوراً وأن تخفف القيود المفروضة على استخدام الإمدادات العسكرية الأميركية. لكن لا يوجد سلاح قادر على قلب الموازين، كما أنه ليس هناك من قيد قد يسمح رفعه لأوكرانيا بالقيام خلال الوقت نفسه بمهمتي الدفاع عن [الأراضي] التي تسيطر عليها سلفاً وتحرير تلك التي لا تخضع لسيطرتها.
ويمتنع عديد من المحللين عن الاعتراف علناً بهذه الحقائق. ويعود ذلك جزئياً إلى الخوف من أن يؤدي الاعتراف إلى تشجيع روسيا وتوجيه ضربة لمعنويات أوكرانيا. غير أن طرح تعريف مستحيل للفوز يخلق في حد ذاته مشكلات سياسية خاصة به.
وقدمت صياغة تعريف يتعذر تنفيذه حجة قوية للأميركيين والأوروبيين مثلاً ممن يعارضون تقديم مساعدات عسكرية إضافية لأوكرانيا، أو يشككون في نتيجتها. ويقولون إن الغرب ينفق عشرات المليارات من الدولارات على سياسة فرص نجاحها ضئيلة أو تكاد تكون معدومة، في حين يهدد ذلك بتقليل جهوزيته في مسارح صراعات أخرى، يرى بعض المحللين أن للولايات المتحدة فيها مصالح أكبر عرضة للخطر. وكتب المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس جي دي فانس خلال أبريل (نيسان) الماضي قائلاً "في الأساس، نحن نفتقر إلى القدرة على تصنيع كمية الأسلحة التي تحتاج أوكرانيا منا أن نزودها إياها لكي تنتصر في الحرب. وحاجة هذه الأسلحة لا يقتصر على أوكرانيا وحدها".
إن أوكرانيا وأنصارها ينتهجون مساراً يستبعد أن ينجح لكن أثمانه ستكون باهظة
ونظراً إلى عدم تقديم تعريف واقعي للنصر، يخفف الغرب أيضاً الضغوط المفروضة على روسيا من خلال إتاحة مجرد فرصة ضئيلة للدبلوماسية الجادة. كل طرف متروك لتحديد أهدافه القصوى. وهذا لا يعني أن روسيا وأوكرانيا متساويان أخلاقياً. إنهما ليستا كذلك. ولكن من دون جهد دبلوماسي غربي حقيقي، يستطيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يزعم أن نظامه لا يشكل العقبة الرئيسة أمام إنهاء الحرب، مستشهداً برفض الولايات المتحدة وأوروبا التفاوض. والنتيجة وجود ضغوط دولية وداخلية أقل على الكرملين. فالعقوبات الغربية ضد روسيا يتم تجاهلها على نطاق واسع ويحظى بوتين بالترحيب على نحو متزايد في المنتديات الدولية الكبرى، بما في ذلك على سبيل المثال قمة مجموعة "بريكس" التي عقدت خلال أكتوبر الماضي.
وفي الوقت ذاته، فإن استمرار الحرب يدمر أوكرانيا. لقد تكبدت البلاد أكثر من 300 بين قتيل وجريح وهو رقم مذهل، حتى ولو كان يعادل نصف خسائر روسيا فحسب. ومن المتوقع أن ينمو الاقتصاد الأوكراني بنسبة ثلاثة في المئة فقط هذا العام بعد انكماشه بنسبة بلغت 30 في المئة تقريباً خلال عام 2022. ويجعل الصراع المستمر من المستحيل على البلاد البدء في إعادة التعمير بصورة جدية، إذ إن قلة قليلة من الناس فقط سيرغبون في الاستثمار في هياكل بناء يمكن تحويلها مرة أخرى إلى أنقاض. كما أن الحرب تزيد من الكلفة النهائية لإعادة البناء، والتي وصلت سلفاً إلى ما يقدر بنحو 500 مليار دولار.
ويؤدي القتال الذي لا نهاية له إلى إفقار المواطنين الأوكرانيين الذين يعانون الآن نقصاً منتظماً في الكهرباء بسبب الهجمات الروسية على البنية التحتية في البلاد [وأيضاً من] الخدمة العسكرية المفتوحة المطلوبة من عديد من الرجال الأوكرانيين. وعليه، ليس من المفاجئ أن الأوكرانيين يرحلون عن دولتهم على نحو متزايد. ويعيش الآن ما يقارب 6 ملايين منهم في أماكن أخرى، وهو رقم يشمل كثراً من الرجال في سن الخدمة العسكرية.
باختصار، تجد أوكرانيا وأنصارها أنفسهم ينتهجون سياسة من المستبعد أن تنجح لكن من المؤكد أنها ستكون باهظة الثمن. وإن الوضع لن يصبح أفضل مع مرور الزمن. لقد بدأ الإرهاق يخيم على أوكرانيا وعلى داعميها. إن مسار الحرب الحالي ليس مرغوباً ولا قابلاً للاستمرار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويدرك الأوكرانيون هذه الحقائق. ولهذا السبب نشر الرئيس فولوديمير زيلينسكي خلال أكتوبر الماضي "خطة النصر". ولكن على رغم الضجة التي رافقت اقتراح زيلينسكي فإنه لا يقدم سوى قليل من الإرشاد بصدد الكيفية التي يمكن لأوكرانيا أن تتغلب بها على التحديات العديدة التي تواجهها البلاد. والاقتراح يعدد ما تريده أوكرانيا من الضمانات الأمنية والدعم الاقتصادي، بيد أنه لا يأتي على ذكر النتيجة التي ترغب فيها البلاد. وإذ يدعو إلى جعل "المجانين في الكرملين يفقدون القدرة على مواصلة الحرب"، فهو يفشل في تحديد أية أهداف دبلوماسية ما عدا أن "روسيا يجب أن تفقد السيطرة على أوكرانيا إلى الأبد، بل وحتى الرغبة في مثل هذه السيطرة". وبعبارة أخرى، إن الوثيقة لا تقدم استراتيجية واقعية يستطيع شركاء أوكرانيا أن يدعموها. فهي ليست خطة للنصر بل وصفة لاستمرار الحرب. وإذا نأى حلفاء كييف بأنفسهم عنها، فقد ينتهي الأمر إلى أن تكون الخطة بمثابة وصفة للهزيمة.
فن الممكن
إن احتمال خسارة أوكرانيا للحرب أو الكف عن كونها دولة مستقلة حقاً ومتحررة من سيطرة روسيا، من شأنه أن يشكل ضربة خطرة للنظام الدولي والأمن الأوروبي. فهو يمكن أن يزيد من الأخطار التي يمكن أن تنتقل من روسيا إلى أجزاء أخرى من أوروبا، ويضعف ثقة الغرب بنفسه، ويرسل إشارة إلى الصين (وربما لكوريا الشمالية) مفادها أن الغرب ربما لا يتمتع بالقدرة والعزم اللازمين لدحر العدوان. ويمكن لهذا أن يضعف القاعدة [المتفق عليها] ضد فكرة الغزو. وسيكون ذلك بطبيعة الحال أمراً فظيعاً بالنسبة إلى الشعب الأوكراني.
غير أن هناك استراتيجية بديلة لكل من الحرب إلى أجل غير مسمى، ولهزيمة كييف. وهو ينطوي على استمرار الدعم الغربي لأوكرانيا ومعارضة روسيا. غير أنه يتطلب أيضاً التحدث بصورة صادقة مباشرة مع القيادة الأوكرانية إلى جانب تقديم حوافز محدودة لموسكو.
في صميم استراتيجية معدلة من هذا النوع ثمة تعريف أكثر تواضعاً للفوز، وهو تعريف سيستمر في توفير الحماية للمصالح الغربية والأوكرانية الأساس خلال وقت يحرم فيه بوتين من تحقيق عديد من أهدافه الحربية. ولا بد أن تكون الغاية هي إبقاء أوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة من الناحية الاقتصادية. ويجب أن تكون حرة في اختيار نظامها السياسي وقيادتها. ويتعين على البلاد أيضاً أن تكون حرة في إعادة تسليح جيشها والحفاظ عليه بأي حجم تريده، وفي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقبول الالتزامات الأمنية من الغرباء عنها. وهي في حاجة إلى القدرة على الوصول الاقتصادي إلى البحر الأسود.
يجب اعتبار النصر بقاء كييف مستقلة ذات سيادة، وقادرة على الانضمام بحرية إلى أية تحالفات ومنظمات تريدها
إن كييف ليست في حاجة إلى 100 في المئة من أراضيها من أجل تحقيق هذه الأهداف. ولكن ما الذي تحتاج إليه إذاً؟ نهاية الحرب قبل كل شيء. ولا تستلزم هذه الغاية التوصل إلى تسوية دائمة تعالج القضايا الخلافية بين روسيا وأوكرانيا كافة. وفي الواقع، لا ينبغي لها أن تفعل ذلك في هذه المرحلة، كما أن أي مشروع دبلوماسي مفرط في طموحه سيكون مصيره الفشل بالتأكيد. وبدلاً من ذلك، فإن ما يلزم البلاد الآن هو وقف موقت للأعمال العدائية، يعكس إلى حد كبير الوقائع على الأرض.
ولتحقيق هذه الغاية، يجب على الولايات المتحدة وشركائها في أوروبا أن يبدأوا بالحوار مع أوكرانيا. وسيكون الهدف هو إقناع قادتها بقبول هذا التعريف الأكثر تواضعاً للفوز. وعليهم أن يخبروا كييف بأن الدعم الغربي لا يمكن توقع استمراره عند المستويات الحالية أو مستويات قريبة منها، من دون قبول هذه القناعة. ولكن يجدر بهم أيضاً أن يتعهدوا بصورة صارمة ببذل كل ما في وسعهم لتزويد أوكرانيا الأسلحة على المدى الطويل. وسيجري توفير الجزء الأكبر من هذه الأسلحة لها شريطة أن تستخدمها لأغراض دفاعية، إلا أنها تستطيع استعمال بعض الأنظمة طويلة المدى ضد أهداف عسكرية واقتصادية في روسيا. إن الهدف هو تنبيه موسكو إلى أن الغلبة لن تكون لها في ميدان المعركة الآن أو في المستقبل، وأنها ستدفع ثمناً باهظاً لمحاولتها أن تفوز. ومن المرجح وجود مزيد من المحفزات لأوكرانيا في المجال الاقتصادي.
ويمكن أن تتم العملية الدبلوماسية على مرحلتين. ستسعى أولاهما إلى التوصل إلى وقف إطلاق النار إما على طول خطوط المعركة الحالية أو مع تعديلات محدودة، إلى جانب إيجاد منطقة عازلة تفصل بين الطرفين. ومن شأن وقف القتال أن يضع حداً لإراقة الدماء ويسمح لأوكرانيا بإعادة البناء. ولن يتطلب الأمر من البلاد التنازل أو المساومة على أي من مطالباتها القانونية أو السياسية عندما يتعلق الأمر بالحدود. ومن الممكن أن يكون هناك نوع من الوجود الدولي لمراقبة تطبيق الاتفاق. وقد تتم صياغته في بعض النواحي على غرار وقف إطلاق النار الذي حافظ على السلام في قبرص لمدة 50 عاماً.
أما المرحلة الثانية من العملية الدبلوماسية فستبدأ بمجرد الانتهاء من الأولى. وستكون الثانية أطول بكثير، وربما تستمر لعقود من الزمن، إلى أن يصبح لدى روسيا قيادة جديدة لمرحلة ما بعد بوتين معنية بإعادة دمج البلاد في العالم الغربي. وسوف تتناول هذه المرحلة ترتيبات إضافية، بما في ذلك ما يسمى في كثير من الأحيان قضايا الوضع النهائي. ومن الممكن أن تشتمل على نقل الأراضي في الاتجاهين ومنح سكان شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا قدراً قليلاً من الحكم الذاتي. وسوف يتخلل هذه المرحلة أيضاً إيجاد ضمانة أمنية لأوكرانيا، على رغم أن تاريخ هذه الضمانات مختلط (من الواضح أن مذكرة بودابست لعام 1994 التي فقدت صدقيتها لم توفر حماية حقيقية). وبصورة مثالية، ستشتمل هذه الضمانة على عضوية كييف لحلف شمال الأطلسي. غير أن تحالفاً من الدول الراغبة، بما في ذلك الولايات المتحدة، يستطيع أن يقدم لأوكرانيا تعهداً أمنياً إذا ثبت أن أعضاء حلف الناتو مترددون في السماح لأوكرانيا بالانتساب له.
يقول منتقدو الطرق الدبلوماسية إن روسيا لن تلتزم بأي اتفاق توقعه، وأنها ستستخدم وقف إطلاق النار كفرصة من أجل إعادة تجميع صفوفها قبل مواصلة هجومها، بدل الالتزام به. وهذا بالطبع ممكن بيد أن التزاماً غربياً جديراً بالثقة بتقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا على المدى الطويل، إلى جانب فرض قيود أقل على كيفية استعمالها للأنظمة بعيدة المدى، يمكن أن يزيد من كلفة الحرب على روسيا ويشكل تحدياً لافتراض بوتين بأنه قادر على الصمود لوقت أطول من الغرب. وخلال الوقت نفسه، هناك شيء ما في هذا الاقتراح لبوتين قد يدفعه إلى احترام شروطه. فهو لن يستلزم تنازل روسيا عن مطالباتها من أوكرانيا. ويمكن لموسكو أن تواصل إعادة تسليح نفسها. وستحتفظ خلال الوقت الحالي بمعظم أو بكل الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها. وربما يوافق الغرب حتى على رفع بعض العقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي. وإذا احترمت روسيا وقف إطلاق النار، فيجب رفع مزيد منها خلال وقت لاحق، على رغم أن العقوبات الأساس ستظل قائمة لتوفير أداة للتأثير [على موسكو] في المرحلة الثانية من الدبلوماسية. وكجزء من المرحلة الثانية قد يطلب الغرب من أوكرانيا التخلي عن الأسلحة النووية. وخلال وقت يقبل فيه حلف شمال الأطلسي عضوية كييف من الممكن له أن يتعهد بعدم نشر قواته على الأراضي الأوكرانية.
وفي حال قبول هذه المبادرة الدبلوماسية فإن المرحلة الأولى منها يمكن أن تساعد في الحفاظ على استقلال أوكرانيا والسماح لها بالبدء في إعادة البناء. ولكن، حتى ولو تم رفضها فإن المبادرة ينبغي أن تقلل من صعوبة تحفيز الدعم العسكري والاقتصادي المستمر لأوكرانيا. ولعل ذلك سيسلط الضوء على حقيقة أن طموحات بوتين وليس زيلينسكي هي التي تقف عائقاً في طريق إنهاء القتال. وفي كلتا الحالتين فإن أوكرانيا ستكون أفضل حالاً مما هي عليه الآن.
إن ما تم وصفه هنا قد لا يبدو بالنسبة إلى البعض وكأنه انتصار. ويمكن القول إن المبادرة ليست عادلة ولا منصفة. وهي لا تعد بالسلام لكنها ستجعل الوضع أفضل بما لا يقبل المقارنة من البديل المتمثل في خسارة أوكرانيا الحرب، أو استمرارها بالقتال إلى ما لا نهاية. وهذا النهج من شأنه أن يحرم بوتين من كثير مما يسعى إليه وهو استعادة سيطرة موسكو على أغلب أو كل أوكرانيا. وينبغي أن تكون السياسة الخارجية قابلة للتنفيذ ومرغوبة أيضاً. والمقارنة التي يجدر بالمحللين أن يجروها ليست بين ما هو موجود وما هو مثالي، بل بين الممكن والبديل.
فرصة القتال
بقي حتى كتابة هذه السطور نحو 75 يوماً في ولاية بايدن. ويجب على الرئيس استغلال هذا الوقت من أجل بذل كل ما في وسعه بهدف زيادة احتمالات تبني الولايات المتحدة لهذه الاستراتيجية الجديدة تجاه أوكرانيا، وهي استراتيجية مقبولة من جانب كل من حلفاء الولايات المتحدة وكييف.
وعليه أن يفعل ذلك بغض النظر عمن سيفوز خلال الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري. وسوف تستفيد كامالا هاريس [إذا تم انتخابها] من اتخاذ بايدن الخطوة الصعبة ولكن الضرورية بتخطي الاعتراض الأوكراني على أهداف واشنطن الحربية. وسيكون من الأفضل لهاريس عندها أن يكون سلفها هو الذي توقف عن الإصرار على أهداف غير قابلة للتحقيق. سيتعرض بايدن للضغط، مما يمنح هاريس مساحة كافية لتنفيذ ما يمكن أن يكون تغييراً استراتيجياً مثيراً للجدل بيد أنه ضروري.
"خطة زيلينسكي" لا تقدم استراتيجية واقعية يستطيع شركاء أوكرانيا أن يدعموها. فهي ليست خطة للنصر، بل وصفة لاستمرار الحرب
بالمثل، سيكون من الحكمة أيضاً أن يتبنى بايدن تسوية دبلوماسية بعد فوز دونالد ترمب. غير أن تحديد استراتيجية جديدة لأوكرانيا، تقوم على تقديم اقتراح دبلوماسي معقول مصحوب بالوعد بتقديم دعم عسكري على المدى الطويل، من شأنه أن يمكن بايدن من المساعدة على وضع المعايير لسياسة الولايات المتحدة بطريقة قد تعين في حماية المصالح الأساس لكييف من شخص مثل ترمب أقل ميلاً إلى دعم أوكرانيا ضد روسيا. ونأمل أن يرى ترمب في نهاية المطاف أن الاستمرار في تأييد أوكرانيا مع الضغط من أجل الدبلوماسية هو أمر ضروري بالفعل من أجل إنهاء الصراع. أما البديل أي المساومة على أوكرانيا فسترفضه كييف، مما سيؤدي إلى حرب أحادية الجانب، لا نهاية منظورة لها بينها وروسيا. إن رفض ترمب هذا النهج أو شيئاً على شاكلته قد يلقي المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن انتصار روسيا وهزيمة أوكرانيا على عاتق إدارته والولايات المتحدة.
سوف يتمتع الرئيس الـ47 للولايات المتحدة وبطبيعة الحال في نهاية المطاف بقدر كبير من حرية التصرف. إذ لا يمكن لأي رئيس سابق أن يقيد السياسات بصورة كاملة. غير أن مساعدة أوكرانيا في صد العدوان الروسي كانت أعظم إنجازات بايدن في السياسة الخارجية. وأثناء وقت يغادر فيه البيت الأبيض يجدر به أن يبذل قصارى جهده لحماية هذا الإنجاز. إن تبني استراتيجية جديدة أكثر استدامة من أجل كييف أفضل طريقة للقيام بذلك، من ثمَّ ضمان استمرار أوكرانيا في الوجود كدولة مزدهرة وذات سيادة ومستقلة.
ريتشارد هاس الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية، ومستشار بارز في "سنترفيو بارتنيرز"، وباحث جامعي متميز في جامعة نيويورك.
مترجم عن "فورين أفيرز" 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024