ملخص
أصبحت ولايات شرق السودان متخمة بالعديد من الميليشيات والحركات المسلحة مما خلق واقعاً مخيفاً في ظل بيئة صدامية يغذيها غبن ودعاوي التهميش والظلم، وقد يتحول السلاح القبلي إلى وسيلة لانتزاع الحقوق عبر عنف قوة السلاح.
أثار تنامي ظهور العديد من الحركات المسلحة ذات الطابع القبلي في شرق السودان خلال الأشهر القليلة الماضية العديد من مخاوف إلقاء هذه الظاهرة بظلالها على أمن واستقرار الإقليم المحتقن بالتوترات السياسية والصراع الاثني المجتمعي، في وقت تتخذ فيه أيضاً عدداً من حركات "سلام دارفور" التي تقاتل إلى جانب الجيش من الإقليم منطلقاً لها، فما خطورة ذلك على الوضع على أمن الإقليم؟، وهل أصبح شرق السودان على حافة الانفجار في ظل مخاوف اقتراب الحرب من تخوم بعض ولايات الشرق؟
تنامي الحركات
يرجع مراقبون التصعيد المفاجئ للوضع في شرق السودان إلى التنامي المتسارع لظاهرة تشكيل الحركات المسلحة بسبب تزايد مخاوف مكونات الإقليم من وصول الحرب إلى شرق البلاد، وبالتالي تكرار نفس الانتهاكات التي تعرضت لها ولايات وأقاليم أخرى وسط البلاد.
لكن المراقبين لا يخفون قلقهم البالغ من تسارع التسليح القبلي في شرق السودان، حيث وصل عدد الميليشيات القبلية التي تشكلت تحت مسميات مختلفة ثمانية حركات مسلحة خلال أقل من عامين منذ نشوب الحرب في منتصف أبريل (نيسان) العام الماضي.
وبحسب مراقبين، فإنه مما يفاقم المخاوف وخطورة الموقف انتماء كل واحدة من تلك الحركات بشكل مباشر لقبيلة أو مجموعة سكانية أو دينية بعينها في وقت تتفشي فيه الصراعات بين العديد من المجموعات داخل الإقليم.
أورطة جديدة
ورفع إعلان الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة الأسبوع الماضي نشر قوات سميت بـ (الأورطة الشرقية) على حدود ولايات شرق السودان بالتعاون مع الجيش السوداني لحماية الحدود من منسوب التوترات بين المكونات الاجتماعية بالإقليم، التي تعاني أصلاً من صراعات تاريخية متجذرة فيما بينها.
وأكد بيان للقوة الجديدة التابعة للجبهة الشعبية التي يقودها الأمين داؤود، على موقعها بمنصة "فيسبوك"، أن انتشار قوات الاورطة بالإقليم الشرقي جاء بعد مشاورات فنية وعسكرية مع الجيش.
وترافق مع انفتاح أورطة الشرق في الوقت نفسه انتشار لقوات أخرى داخل الإقليم تتبع لحزب مؤتمر البجا بقيادة مساعد الرئيس السابق عمر البشير موسى محمد أحمد.
وعقد رئيس الجبهة المتحدة للتحرير والعدالة قائد (الأورطة الشرقية) الأمين داؤود أمس الأحد اجتماعاً مع الرئيس الإرتيري إسياس أفورقي في العاصمة أسمرا.
وأوضح بيان للجبهة المتحدة أن اللقاء ناقش بشكل معمق التحديات التي تواجه الشعب السوداني وهدف لتعزيز التواصل الشعبي والسياسي مع دول الجوار.
وأكد البيان، "جاهزية فصائل الشرق للمشاركة والتصدي لحماية البلاد والمنطقة، من كل الأطماع الأجنبية مجدداً ثقته بدولة إريتريا حكومة وشعباً، في وقفتهم الصادقة مع الشعب السوداني".
ترفيع الصراع
في أول رد فعل على إعلان نشر قوات "أورطة الشرق" أعلن المجلس الأعلى للبجا رفضه القاطع لهذه الخطوة، معتبراً في بيان له أنها تشكل تصعيداً خطيراً للوضع في الإقليم بوصفه ضمن المناطق الآمنة خلال الحرب الحالية.
وأوضح بيان مجلس البجا، أن التطورات الأخيرة تؤكد إصرار حكومة الأمر الواقع على المضي في ما وصفه بـ "مشروع الفتنة والدماء"، بترفيع الصراع من درجة التنافس السياسي إلى مستوى الاقتتال المسلح، متهماً السلطة الحالية بالتلاعب بقضية الشرق، واستخدامها في معارك مركزية لا تعني شعب الإقليم في شيء.
وشدد البيان، على رفض المجلس القاطع لما سماه بمخطط التفتيت وعمليات عسكرة القبائل في أرض البجا، مجدداً رفضه لتلك الميليشيات وكذلك لوجود أي ميليشيات عسكرية من الحركات المسلحة بدارفور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخطر الأعظم
وأعتبر الأمين السياسي للمجلس سيد علي أبو آمنة، أن تسليح قبائل الشرق هو أعظم خطر يخيم على أرض وسماء الإقليم على مدى تاريخه الطويل في التعايش والتساكن، متهماً نظام المؤتمر الوطني البائد بالتورط في تلك العمليات باستخدام واجهاته القبلية.
وتابع، "إننا وقادة مخلصين كثر من شعب الإقليم ندعو شعبنا المخلص في شرق السودان وبخاصة أهلنا في قبيلتي البجا والبني عامر، لعدم الانجرار وراء مخطط التسليح القبلي، وأن يعوا أن لا خلاف جوهرية بين قبائل ومكونات الإقليم ".
ودعا أبو آمنة، أبناء شرق السودان إلى ضرورة التفاف على منصة سياسية موحدة غير قبيلة تضم الجميع، للمطالبة بحقوقهم ورفض واجهات النظام السابق التي تختطف اسم الإقليم، لتفادى العودة إلى مربع الفتنة المفتعلة مرة أخرى.
يوضح أمين مجلس البجا، أن الوضع في شرق السودان محتقن بالأصل وما زالت الدماء التي سالت به قبل عامين أو ثلاثة ساخنة، محذراً، "لا شيء يمكن أن يكون أخطر على أمن الشرق والسودان والمنطقة بأثرها من هذه الميليشيات القبلية المسلحة والتجنيد والتعبئة على الأساس الاثني الذي تقوم به بعض الحركات".
وزاد، "أدعو قادة قوى الثورة والمؤسسات الأممية والدولية والإقليمية والمحلية، للانتباه بشكل أكبر لما يجري في إقليم شرق السودان بموقعه الجيوسياسي الهام والحساس، تحسباً للتأثيرات الخطيرة في الصعيد المحلي والإقليمي بمنطقة القرن الأفريقي وربما على الأمن والسلم الدوليين، حال انفجار الأوضاع بالإقليم".
مسرح الصراع
من جانبه اعتبر الناشط السياسي بدرالدين أونور، أن شرق السودان ظل ملعباً مفتوحاً ومسرحاً لأطراف الصراع المركزية، وبات الملاذ الذي تلجأ إليه الأيادي العابثة بالمشهد السياسي بتحريك أدواتها بالمنطقة، كلما أشتد أوار المعارك وارتفعت درجة حرارة الساحة السياسية.
وأشار أونور، إلى أن شرق السودان ليس مهيئاً لتحمل تداعيات وجود أي كيانات مسلحة، منوهاً إلى أن تكوين تشكيلات عسكرية جديدة من قبل مجموعات يقودها سياسيون وزعماء عشائر ورجال دين، سيهدد بانفجار الوضع الملتهب في الإقليم بصورة قد تحيل المنطقة إلى جحيم بالنسبة للجميع.
وكشف الناشط السياسي، أن المواجهات والمناكفات المتصاعدة بصورة علنية وسرية بين بعض قادة الجيش والحركات دارفور المسلحة بسبب مطالبات بعض قادة تلك الحركات بإعادة النظر في قسمة كيكة السلطة والموارد مقابل تحملهم أعباء الحرب الدائرة الآن، تضيف عنصراً جديداً وبعداً آخراً يبعث على المزيد من القلق بشأن مآلات التوتر العسكري والسياسي بشرق السودان.
التسييس والتسليح
في السياق حذر أستاذ العلوم السياسية أبو طالب مهدي، من العواقب الوخيمة للاستمرار في استخدام القبلية المسلحة كجزء من اللعبة السياسية بالبلاد، لأن ازدواجية تسليح وتسييس المكونات الإثنية من أخطر دواعي تفكك الدول والكيانات المجتمعية في النطاق الجغرافي الواحد.
يرى مهدي، ولايات شرق السودان أصبحت متخمة بالعديد من الميليشيات والحركات المسلحة مما خلق واقعاً مخيفاً في ظل بيئة صدامية يغذيها غبن ودعاوي التهميش والظلم، وقد يتحول السلاح القبلي إلى وسيلة لانتزاع الحقوق عبر عنف قوة السلاح.
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية، أن الحرب الراهنة وفرت أكبر المبررات لتأسيس ميليشيات قبلية مسلحة في شرق السودان بدعوى حماية القبائل لنفسها، سيما بعد الانتهاكات والتشريد الذي حدث في ولاية الجزيرة المجاورة للإقليم من الجهة الغربية.
يردف، "قد يبدو الاستنفار وحمل السلاح للدفاع عن النفس والحماية الذاتية ممكناً ضمن كتائب المستنفرين المنخرطة في صفوف الجيش، مثلما حدث في معظم ولايات البلاد الأخرى، لكن تشكيل حركات وميليشيات مسلحة تتبع لأجسام ومجموعات عرقية لها مطالبها وأجنداتها السياسية والعسكرية، يشكل تهديداً لأمن الإقليم الشرقي وينذر بعواقب خطيرة باحتمال وقوع مواجهات متعددة الأطراف تتوفر كل معطياتها".
يشير الأكاديمي، إلى أن تنامي ظاهرة الحركات والميليشيات المسلحة بشرق السودان سيسهم كذلك في تحويل الإقليم إلى بؤرة للميليشيات وتجارة وتهريب وانتشار السلاح، مما سيعجل أيضاً باندلاع نزاعات عنيفة في أي لحظة.
تصاعد التسلح
على الصعيد ذاته نوه تقرير للشبكة الشبابية للمراقبة المدنية، إلى ارتفاع حالة التحشيد ودعوات التسليح، وبروز المزيد من الحركات المسلحة الجديدة في ظل حالة الاستعداد الحربي المعلنة، خاصة بعد وصول بعض من طلائع قوات الدعم السريع إلى تخوم ولاية القضارف شرق البلاد.
وأشار التقرير إلى أن انتشار قوات كبيرة من الجيش وحركات سلام دارفور المتحالفة معه في ولايات شرق السودان، كان له دور واضح في رفع وتيرة التجنيد وسط الحركات المسلحة الموجودة أصلا بالإقليم، انطلاقاً من مواقف وهواجس بعض حركات الشرق الخاصة.
إلى جانب قوات الأورطة الشرقية الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة بقيادة الأمين داؤود، بلغ عدد الميليشيات والحركات المسلحة في شرق السودان حتى الآن سبعة حركات أبرزها، الحركة الوطنية للعدالة والتنمية بقيادة محمد سليمان بيتاي، وحركة تحرير شرق السودان التي يقودها إبراهيم دنيا، ومؤتمر البجا بقيادة موسى محمد أحمد، وقوات الأسود الحرة بقيادة مبروك مبارك سليم وقوات شرق السودان بقيادة شيبة ضرار، فضلاً عن الإعلان عن تكوين قوات درع شرق السودان بقيادة مبارك حميد بركي نجل ناظر قبيلة الرشايدة، في أغسطس (آب) الماضي.
تاريخ من المواجهات
يذكر أن شرق السودان شهد في 2019 بداية شرارة الصراع القبلي على مستوى مدينة بورتسودان عاصمة ولاية البحر الأحمر، بين قبيلتي البني عامر والأمرار على خلفية لقاء سياسي جرى تنظيمه بالمدينة، مما استدعى تدخل السلطة المركزية على مستوى مجلس السيادة ورئاسة الوزراء لاحتواء المواجهات إلا أنها سرعان ما تجددت مرة أخرى في المنطقة نفسها.
كما اندلعت بعاصمة الإقليم في العام نفسه مناوشات قبلية بين أبناء جبال النوبة من جهة ومنسوبي قبيلتي البني عامر والحباب من أخرى استمرت لأربعة أيام مخلفة زهاء 40 قتيلاً وعشرات الجرحى، ما حدا بالسلطات إعلان حظر التجول ونشر قوات من الجيش للفصل بين الأحياء السكنية بين القبيلتين.
ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف أبريل (نيسان) العام الماضي انتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان كعاصمة إدارية بديلة، مما أدى إلى تركز جل العمل النشاط السياسي والعمل الحكومي التنفيذي إلى هناك.
وأصبحت المدينة الساحلية على البحر الأحمر مقراً لمجلسي السيادة والوزراء وقادة الجيش، بجانب قادة حركات دارفور المسلحة وزعماء الإدارة الأهلية بمختلف أنحاء السودان، فضلاً عن البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية، مما عرض المدينة لضغط كبير في ظل استضافة مئات آلاف النازحين الفارين من الحرب.