ملخص
صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية كشفت أخيراً أن واحداً من كل ثلاثة رجال مطلوبين للخدمة العسكرية لم يدخل مكتب التجنيد على الإطلاق، وأن 15 في المئة من الجنود تسربوا خلال الخدمة العسكرية ولم يخدموا في الاحتياط على الإطلاق.
في ضوء ارتفاع عدد الجنود القتلى والجرحى في المعارك البرية على جبهتي لبنان وغزة، تقر القيادة العسكرية في الجيش الإسرائيلي منذ مدة بمدى الحاجة الملحة إلى مزيد من القدرات البشرية الميدانية، لتدعيم الوحدات القتالية من أجل حسم الحرب التي دخلت عامها الثاني دون أي أفق لنهايتها.
وبحسب التقديرات العسكرية يحتاج الجيش على وجه السرعة إلى 7 آلاف جندي، لكنه يجد صعوبة كبيرة في الوصول إلى هذا العدد، مما أثار مخاوف حقيقية لدى المنظومة الأمنية بأن النقص في القوات البرية والقدرات البشرية بالجيش من شأنه أن يؤثر في سير العمليات العسكرية واستمرارها، وقد يدخل إسرائيل في حرب استنزاف طويلة الأمد، تتسبب بتآكل القدرات القتالية لمختلف الفرق والوحدات العسكرية وإنهاك الجنود وقوات الاحتياط.
إلا أن رياح الحرب الإسرائيلية لم تجر كما تشتهي سفنها، فصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية كشفت أخيراً، أن واحداً من كل ثلاثة رجال مطلوبين للخدمة العسكرية لم يدخل مكتب التجنيد على الإطلاق، وأن 15 في المئة من الجنود تسربوا خلال الخدمة العسكرية ولم يخدموا في الاحتياط على الإطلاق، في حين قفز عدد الحاصلين على إعفاءات من التجنيد لأسباب طبية ونفسية من أربعة إلى ثمانية في المئة قبل الخدمة، ويعد هذا العذر هو الأكثر شيوعاً في حالات التسريح من الخدمة، ويشمل التجنيد الإلزامي في إسرائيل الرجال والنساء ابتداء من سن الـ18 سنة مع استثناءات لبعض الفئات.
وفقاً لدراسة نشرتها مجلة "ذي لانسيت" الطبية البريطانية، فإن كل سكان إسرائيل تعرضوا بطريقة أو بأخرى لتداعيات هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 غير المسبوق من حيث النطاق وهول الصدمة النفسية.
وتطرقت الدراسة إلى "صدمة نفسية وطنية جسيمة" نظراً إلى عدد الأعراض التالية للصدمة وحالات الاكتئاب والكرب، مما يؤشر إلى "أثر ملحوظ" في الصحة النفسية للإسرائيليين، وبحسب منظمة الصحة العالمية كان 30 في المئة من المراهقين الإسرائيليين عام 2022، يعانون اضطرابات نفسية وجسدية، ارتبطت بآثار جائحة كوفيد-19.
أمراض عقلية
الصحيفة قالت إن هناك طرقاً للاحتيال والفساد يلجأ إليها المتهربون من الخدمة العسكرية في الجيش، بذريعة الأمراض النفسية والعقلية بمعونة أطباء نفسيين ومحامين لتسهيل أمورهم في مقابل المال، وأكدت أنه بعد سلسلة من التحقيقات، ثبت وجود مجموعة من الشباب الأصحاء الذين يبلغون من العمر 18 سنة يكذبون في التقارير التي يعدها أطباء نفسيون حول الحالة العقلية لآلاف من المكلفين بالخدمة العسكرية أو الاحتياط، إضافة إلى المحامين المتورطين، في مقابل كسب المال حتى خلال فترة الحرب.
وبحسب هيئة مكافحة الفساد الإسرائيلية، فإن المستفيدين من الإعفاء من هذه الخدمة لأسباب طبية وعقلية حوالى 10 في المئة، مشيرة في الوقت نفسه إلى صعوبة الحصول على الأدلة التي تكشف حقيقة تلك التقارير الطبية التي تعطى للمجندين.
ويعترف مسؤولون عسكريون إسرائيليون، أنه ليس لدى الجيش ما يكفي من المفتشين للتحقق من كل تقرير صادر لإعفاء المكلف، وهددوا بإلغاء تراخيص المحامين والأطباء المتواطئين من خلال لجان الأخلاقيات.
وبحسب بيانات وزارة الصحة الإسرائيلية، فإن 100 ألف شخص من أصل السكان الإسرائيليين المقدر عددهم بـ 9.7 مليون، تعرضوا لحوادث قد تسبب صدمة نفسية منذ السابع من أكتوبر 2023، في حين أكد وزير الصحة الإسرائيلي أوريئيل بوسو، أن إسرائيل تواجه "أكبر أزمة صحة نفسية في تاريخها".
وكشفت المسؤولة عن منصة خط الطوارئ "عران" الهاتفية والإلكترونية للإسعافات النفسية، شيري دانييلز، أنه منذ اليوم الذي نفذت فيه "حماس" هجومها في شوارع جنوب إسرائيل ومنازله، تضاعفت تقريباً الاتصالات التي يتلقاها الخط، ولفتت إلى وضع الأولاد الذين لا يتركون أهلهم عند حلول الليل أو البالغين الذين يستولي عليهم القلق وينهشهم الندم لعدم قدرتهم على إنقاذ أقربائهم حتى باتوا يعجزون عن التركيز، مما دفع الحكومة الإسرائيلية في منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي إلى منح موارد إضافية لقطاع الصحة النفسية بقيمة 1.4 مليار شيكل (أكثر من 378 مليون دولار) تستخدم فيها خوذات للواقع الافتراضي لأغراض علاجية.
تقليص الخدمة
بالتزامن مع استمرار التوترات والضغوط النفسية المتزايدة التي يعبر عنها عدد من جنود الاحتياط لاستيائهم من طول فترة الخدمة، وقعت حوالى 2000 من زوجات الجنود الاحتياط من الحركة الصهيونية الدينية في إطار الضغط الشعبي، على رسالة مفتوحة تطالب بتخفيف الأعباء على الجنود، وبينت الأرقام أن نحو 18 في المئة من الجنود الاحتياط الـ 300 ألف الذين استدعاهم الجيش مطلع الحرب تجاوزوا سن الـ40، وهي فئة كانت معفية سابقاً من الخدمة.
وبحسب موقع "واينت" الإلكتروني أنه في الأشهر الأولى من الحرب كان معدل التزام جنود الاحتياط بالتجنيد يفوق 100 في المئة، إلا أن البيانات الأخيرة أظهرت تراجعاً إلى مستويات تراوح ما بين 75 و85 في المئة، إذ يعرب بعض الجنود عن استيائهم من التغير الكبير في حياتهم بعدما أُجبروا على البقاء بعيدين عن حياتهم الطبيعية لمدة تصل إلى ستة أشهر متواصلة.
وفي خضم الحرب الدائرة على جبهتين رئيستين، قتل أكثر من 367 جندياً في غزة منذ بدء الهجوم البري على القطاع في الـ27 من أكتوبر 2023، بينما قتل أكثر من 37 جندياً عند الجبهة الشمالية مع لبنان منذ بداية العمليات العسكرية هناك في الـ30 من سبتمبر (أيلول) الماضي.
وفي ظل تراجع أعداد المتجندين في خدمة الاحتياط، قرر الجيش الإسرائيلي في الـ11 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري تقليص مدة الخدمة لجنود الاحتياط من 20 أسبوعاً في المتوسط إلى تسعة أسابيع لكل جندي، كما تقرر أن تتم الخدمة الاحتياطية في فترة واحدة بدلاً من تقسيمها لتخفيف الأعباء على جنود احتياطيين، وذلك في إطار إعادة هيكلة جدول الخدمة العسكرية للعام 2025، إثر استنزاف الوحدات القتالية في الحرب المتواصلة منذ أكثر من 400 يوم، التي تترافق مع تعنت الحريديين (اليهود المتدينين) من أداء الخدمة العسكرية بالصورة المطلوبة.
وبحسب المحلل العسكري يوسي يهوشع فإن تهرب جنود الاحتياط الذين يشكلون القوة الرادفة للجيش من الخدمة "يشكل أزمة حقيقية تعوق حسم الحرب"، كيف لا وهناك إحصاءات تقول إن 18 ألفاً من جنود الاحتياط القتاليين لا يحضرون عند استدعائهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤكد المحلل السياسي الإسرائيلي يوآب شتيرن، أن هناك دلائل من واقع الأبحاث التي أجريت أن المشاركة في الحرب لها أثر نفسي في المقاتلين بالحروب كافة، وليس حرب غزة وحدها.
وأقر الجيش الإسرائيلي في منتصف مارس (آذار) الماضي، بمواجهة "أكبر مشكلة للصحة النفسية" منذ عام 1973، إذ أوضح حينها أن نحو 1700 جندي خضعوا للعلاج النفسي، وأن 85 في المئة منهم عادوا إلى الخدمة، فيما قالت صحيفة "جيروزالم بوست" أن أكثر من 10 آلاف جندي احتياط طلبوا تلقي خدمات الصحة العقلية.
ووفقاً لما نقلته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، سرح الجيش الإسرائيلي في مطلع العام الحالي، 90 جندياً من الخدمة بسبب "مشكلات نفسية"، وأظهر تحليل أجراه متخصصون، أن حوالى 40 في المئة من الجرحى الذين سيتم إدخالهم إلى المستشفى بحلول نهاية العام قد يواجهون أمراضاً نفسية متباينة، بما في ذلك القلق والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة وصعوبات التكيف والتواصل.
من جهته، أوصى مدير الموارد البشرية في الجيش الإسرائيلي، اللواء يانيف أسور خلال حديث إلى صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، بضرورة إحداث تغيير جذري في برامج الأجور والتقدير لأولئك الذين يخدمون، وفوائد كبيرة لأولئك الذين يخدمون أكثر، وفقدان الحقوق لأولئك الذين لا يخدمون على الإطلاق"، مؤكداً أن "النظام القتالي الإسرائيلي عانى بسبب الانخفاض الكبير في مؤهلات الرجال الذين تم تجنيدهم، من مزيد من التآكل"، مشيراً إلى أنه "كل عام خلال الأعوام الأخيرة كان هناك انخفاض في المتوسط بنسبة واحد في المئة من جميع الذين يتم تجنيدهم".
تراجع المعنويات
وبحسب ما جاء في تقرير حركة "يوجد حد"، ارتفع في الحرب الحالية على غزة أخيراً، عدد رافضي الخدمة بصورة "غير مسبوقة"، وبينما كانت تتلقى الحركة من 10 إلى 15 طلباً فقط كهذا في العام وحوالى 40 طلباً في أعوام الحرب على لبنان والانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية، تتلقى اليوم قرابة 100 طلب بالمساعدة من رافضي الخدمة العسكرية خلال الحرب الحالية.
وصرح ناشطون آخرون في الحركة التي تساعد رافضي الخدمة في الجيش بدوافع ضميرية، وتأسست في أعقاب اجتياح لبنان عام 1982، بأنهم ساعدوا عشرات الجنود الآخرين في رفض الخدمة، وأكد المتحدث باسم الحركة يشاي مينوحين لموقع "زمان يسرائيل" الإخباري أنه ساعد قرابة 40 جندياً ومجندة رفضوا الأمر العسكري باستدعائهم لقوات الاحتياط.
وأشار مينوحين إلى أن توجهات رافضي الخدمة إليه بدأت بعد أسبوع واحد فقط من شن الحرب على غزة، ولا تزال تصله إلى الآن، موضحاً أن "رفض الخدمة جراء تراجع المعنويات مع طول أمد الحرب بدأ في الأسابيع الأخيرة، بينما كانت طلبات رفض الخدمة في بداية الحرب مباشرة لأسباب أيديولوجية"، منوهاً إلى أن "الجنود الذين قرروا رفض المشاركة مطلع الحرب أدركوا إلى أين تتجه".
وبينت مجموعة أخرى تحمل اسم "رافضات" تساعد فتية وفتيات يرفضون التجنيد في الجيش الإسرائيلي قبل استدعائهم للخدمة الإلزامية، بارتفاع عدد رافضي الخدمة الذين توجهوا للانضمام إلى المجموعة، ويدعي ناشطو "رافضات" بارتفاع ملموس في عدد جنود الاحتياط رافضي الخدمة، الذين لم يكن يتجاوز عددهم قبل الحرب 10 في العام.
وأفاد مؤسس حركة "الشجاعة بالرفض" دافيد زونشاين، بأنه تلقى خلال الحرب الحالية طلبات مساعدة من عشرات رافضي الخدمة، أكثر بكثير مما تلقى في الأعوام الأخيرة كلها، وأشار الموقع، إلى أن جزءاً من رافضي الخدمة كان "لأسباب ضميرية" وأن المعطيات لدى المنظمات جزئية.
ووفقاً للتقرير، فإن تقليص تجنيد قوات الاحتياط في الأشهر الأخيرة، لم يحل دون استمرار عدد رافضي الخدمة بسبب "تعقد الحرب والاحتجاجات المتصاعدة ضد أداء الحكومة".
وفي نهاية أبريل (نيسان) الماضي أعلن حوالى 30 جندياً احتياطياً في لواء المظليين، تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية في رفح، رفضهم المثول فيها، بادعاء تضرر دراستهم وعملهم وعائلاتهم جراء المدة الطويلة للحرب، وما سببه ذلك من ضائقة نفسية وجسدية.