Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أخلاقيات المهن "تهبط" أمام شهوة الترند في مصر

"هذه الظواهر تنتشر في المجتمعات التي يقل فيها الوعي وتنخفض فيها نسبة التعليم وتتحكم فيها أفكار جامدة"

توجد مهن بعينها يجب أن تتم بسرية تامة لمعلومات الناس ومن بينها الطب والمحاماة (صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي)

ملخص

مع انتشار مصطلحات مثل "صحافة المواطن" و"صناعة المحتوى"، بات معظم ما يقدّم على الـ"سوشيال ميديا" لا يخضع لأي ضوابط للعمل الإعلامي، ولا لأخلاقيات المهن التي يمتهنها مقدموه، فكل مهنة لها ضوابط وأخلاقيات يُقسم الخريجون على مراعاتها باعتبار أنها جزء لا يتجزأ من الخدمة التي يقدمونها إلى المجتمع

أصبح تحقيق أعلى نسب المشاهدة وتصدر "الترند" هوساً لدى قطاعات كبيرة من المجتمع المصري، فلم يعُد الأمر مقصوراً على من لا مهنة له ويسعى إلى استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق الشهرة والربح عن طريق تقديم محتوى تافه أو عرض حياته الشخصية أو الأسرية على الملأ، إنما امتد أخيراً لأصحاب مهن حقيقية لها قيمة ومكانة في المجتمع.

قطاع كبير من المصريين من كل المهن أصبح يرغب في أن يكون صانع محتوى، وأن تحقق صفحاته مشاهدات كبيرة، ولم يعُد أحد يرغب في العمل بصمت أو في الأقل تقديم محتوى متفق مع تخصصه، الطبيب يتحدث عن العلاقات الاجتماعية، والرياضي يفتي في الدين، والطاهي يقدم وصفات طبية، وحال من الفوضى العارمة تشهدها مواقع التواصل الاجتماعي كافة.

وخلال الأيام الأخيرة في مصر، أثارت واقعة طبيبة مصرية من منطقة كفر الدوار بمحافظة البحيرة (شمال القاهرة) سجالاً كبيراً بعد ظهورها في فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث ضمنه عن حالات من الانحراف الأخلاقي وعن استقبالها فتيات صغيرات حملن سفاحاً مع سرد لتفاصيل بعض الوقائع مستخدمة ألفاظاً غير مقبولة، وتنبري في صب سخطها على المجتمع المنحرف، وتدعو رجال مصر إلى إجراء تحليل الحمض النووي (DNA) لأبنائهم.

وانتشر الفيديو انتشار النار في الهشيم، وأثار سجالاً كبيراً، فبعضهم رأى أن الطبيبة تقوم بتوعية المجتمع، وإن خانتها الألفاظ وطريقة التعبير، والبعض الآخر رأى أنها ارتكبت أخطاء عدة، على رأسها مخالفة آداب مهنتها، وهي إفشاء أسرار المرضى، إضافة إلى قذفها سيدات منطقتها واتهامهن بشرفهن بصورة فجة، والحكم عليهن باعتبار أن الطبيب ليس أهل لذلك، بخاصة مع ما ذكرته من تعمدها لترك سيدة في حال تحتاج إلى إنقاذ، لأنها لا تتفق معها أخلاقياً وترى أنها لم تقُم بتربية ابنتها.

بعد انتشار الفيديو بساعات، قبضت السلطات المصرية الطبيبة وسُجنت على ذمة التحقيقات بتهم تتعلق بتكدير السلم العام، والتعدي على المبادئ والقيم الأسرية، ونشر أخبار كاذبة، وأحالتها نقابة الأطباء إلى لجنة آداب المهنة للتحقيق معها بتهمة إفشاء أسرار المرضى وذكر تفاصيل تمكن من الاستدلال على المريض واستخدام ألفاظ غير مناسبة.

وصرحت النقابة بأن عقوبتها قد تمتد من الإيقاف عن العمل إلى الشطب من نقابة الأطباء.
وفي السياق ذاته، أصدر المجلس القومي للمرأة بياناً دان فيه فعل الطبيبة، وأكد أن ما فعلته تحت شعار "التوعية المجتمعية" يمثل "إساءة واضحة إلى نساء مصر والمجتمع بصورة عامة"، وأنه "انتهاك صارخ لحقوق المريضات ومخالفة لأخلاقيات مهنة الطب ولائحة آداب ممارسة المهنة ويمثل إثارة للرأي العام".

المهنة: صانع محتوى

أخلاقيات المهن هي السبيل الذي يُفترض أن يحصل الناس من خلاله على الخدمات التي يقدمها أصحاب المهن المختلفة بصورة تضمن حقوقهم وتحفظ كرامتهم وتجعلهم آمنين ومطمئنين عند توجههم للحصول عليها، وهي تمثل مجموعة معايير وأسس يجب أن يلتزم بها أصحاب المهنة عند تقديمهم خدماتهم للناس ومن المفترض أن تقع عقوبات على من ينتهك هذه الأخلاقيات.

يقول المحامي بالنقض عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان عصام شيحة إن "أخلاقيات المهن والالتزام بها ضمانات حقوق الإنسان، وكل مهنة لها أخلاقياتها التي تضمن حق المستفيد منها، وهناك مهن بعينها يجب أن تتم بسرية تامة لمعلومات الناس، ومن بينها الطب والمحاماة. والقوانين واللوائح التي تحكم هذا الأمر ليست كافية، ودفع ذلك نقابات عدة إلى طرح أفكار لمنظومة قيم تهدف إلى احترام حقوق الإنسان، وتعمل على تنفيذ القوانين واللوائح".

لكن برأي شيحة فإن الأهم من كل ذلك هو أن "يكون الشخص ذاته لديه قناعة باحترام الأخلاقيات والقيم وهذا من البداية دور الأسرة والمؤسسات التعليمية والدينية، فهناك حاجة ماسة إلى إعادة بناء الإنسان واحترام الأخلاقيات". مشدداً على ضرورة "تطبيق القوانين وتفعيل العقوبات على كل من يخالف أخلاقيات مهنته". محذراً من أنه "ما دام أنه لا يوجد عقاب حاسم أو هناك وسيلة للإفلات من العقاب، فسيتم التغول على القيم والأخلاقيات وستُرتكب مخالفات كبيرة على المستويات كافة، قد تكون لبعضها تأثيرات خطرة جداً في المجتمع".

 

فيديو الطبيبة يمثل جزءاً من سياق عام أصبح ملحوظاً على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر، لا يرتبط فقط بالأطباء، لكن بالمهن كافة التي يرغب أصحابها في تصدر "الترند"، وإضافة لقب "صانع محتوى" إلى صفحاتهم من دون أي مراعاة لأخلاقيات مهنتهم.

وفي عصر الـ"سوشيال ميديا" والهواتف الذكية، أصبح كل شخص يمتلك اتصالاً بالإنترنت وكاميرا وميكروفون قادراً على الخروج على الناس لنشر آرائه وإطلاق أحكامه وتقديم محتوى قد يكون مفيداً ومؤثراً في الناس بصورة إيجابية، وقد يؤدي إلى كوارث مثل الواقعة الأخيرة، فنجد المحامي الذي يخرج على الناس، ليروي حكايات وتفاصيل عن قضايا يقوم بمتابعتها، والإعلامي الذي يسرد وقائع شخصية لمشاهير أحياء أو راحلين ليثير الجدل من دون مراعاة لخصوصية الأحياء وحرمة الأموات، والأكثر خطورة من نصبوا أنفسهم حكماء وأخذوا على عاتقهم تحليل الظواهر الاجتماعية، وتقديم النصائح في ما يتعلق بالزواج والطلاق وتربية الأبناء، بل إن بعضهم أصبح يتخذ من صفحته منبراً للإفتاء في الدين من دون علم.

ومع انتشار مصطلحات مثل "صحافة المواطن" و"صناعة المحتوى"، بات معظم ما يقدّم على الـ"سوشيال ميديا" لا يخضع لأي ضوابط للعمل الإعلامي، ولا لأخلاقيات المهن التي يمتهنها مقدموه، فكل مهنة لها ضوابط وأخلاقيات يُقسم الخريجون على مراعاتها باعتبار أنها جزء لا يتجزأ من الخدمة التي يقدمونها إلى المجتمع.

يقول أستاذ الإعلام في جامعة "القاهرة" حسن عماد مكاوي إن "الأكواد المهنية والمعايير الأخلاقية للإعلام يملكها المتخصصون بفعل الدراسة والخبرة وينتج منها محتوى مهني متناسب مع قيم وأخلاقيات المجتمع، لكن ما يحدث حالياً هو أن الـ(سوشيال ميديا) فتحت المجال لأي شخص يمتلك هاتفاً محمولاً أن يكون صانع محتوى، ويكون بمثابة رئيس التحرير، فهو المتحكم الوحيد في ما يقدمه لا يراجعه أحد ومن دون مراعاة لأي شيء ومن دون علم بالأسس التي يجب مراعاتها. وفي غالبية الأحوال يكون هذا الشخص غير مؤهل تماماً لهذا الأمر، ومن هنا تنتج حال الفوضى والتخبط التي نشاهدها حالياً والتي لها انعكاسات في منتهى الخطورة على المجتمع".

ويضيف مكاوي "السوشيال ميديا موجودة في العالم كله وهذه الظواهر لها وجود، لكن تأثيرها يكون أكبر بكثير في المجتمعات التي يقل فيها الوعي وتنخفض فيها نسبة التعليم وتتحكم أفكار جامدة بعقول قطاعات كبيرة من الناس، فهنا يكون لها تأثير مضاعف، ومن العوامل المهمة التي أدت إلى هذا الوضع انخفاض مستوى الممارسات الإعلامية المهنية في وسائل الإعلام كافة، فلا يجد الناس ما يشاهدونه، فيتجهون إلى السوشيال ميديا ويأخذ هؤلاء الأشخاص غير المؤهلين أهمية ومكانة ويستحوذون على مشاهدات الجماهير، نظراً إلى عدم وجود البديل وإن وجِد فهو غير متنوع، ولا يشبع حاجاتهم، وهذا من العوامل الأساسية التي أدت إلى انتشار صناع المحتوى سواء الجيد منه أو الرديء على مواقع التواصل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هوس الشهرة

في بعض المهن مثل الطب، تصبح الأخلاقيات ضرورة ملحة، فبموازاة فيديو الطبيبة تداول الناس مقطع فيديو لطبيب القلب المصري الشهير مجدي يعقوب يحكي فيه عن إجرائه جراحة في القلب لمريض كان متهماً بالانضمام إلى منظمة إرهابية، وأنه كطبيب لا شأن له بتاريخ المريض ولا بأفعاله وأنه لا يحق له الحكم عليه باعتبار أن الطبيب ليس قاضياً. ويشير يعقوب إلى أن المتهم الذي أجرى له الجراحة حصل على البراءة من التهم التي كانت موجهة إليه.

فكرة أن ينصّب الطبيب نفسه حكماً على الناس، ويقرر من يحصل على الخدمة الطبية، ومن لا يحصل، تخالف كل أعراف الطب، وعندما يترافق معها خروج الطبيب للحديث عن قصص المرضى، فهنا الوضع يكون أصعب. لكن الملاحظ أخيراً أن كثيراً من الأطباء في تخصصات مختلفة اهتموا بأن يكونوا نجوماً على الـ"سوشيال ميديا" بتقديم محتوى طبي أو اجتماعي لتحقيق أعلى نسب المشاهدة، وتصدر "الترند" من دون مراعاة لأخلاقيات المهن، وعلى رأسها الطب الذي يعتبر مهنة ورسالة لا بد من أن يتحلى صاحبها بالرحمة إلى جانب العلم، إلا أن بعضهم أصبح لا يراعي أي ضوابط ولا يفكر في تأثير المحتوى الذي يقدمه في الناس ربما بدوافع نفسية معينة.

 

يقول استشاري الصحة النفسية وليد هندي إن "الطب مهنة لها أخلاقيات صارمة يجب أن يلتزمها الأطباء، وما حدث أخيراً في واقعة الطبيبة مخالف لكل الأعراف ولأخلاقيات مهنة الطب التي تُعدّ رسالة سامية، ومن أهم شروطها الحفاظ على سرية الحالات وعدم الحكم على الأشخاص، وتقديم الخدمة الطبية لكل من يحتاج إليها من دون أي شروط. وحالياً أصبح كل شخص صانع محتوى من دون أي ضوابط مع ضحالة الموهبة وسطحية المضمون، وهذا له تأثير كبير في المجتمع. وللأسف أن هناك مؤيدين لهم ومن بينهم من يحظون بدعم مجتمعي يعزز ما يقولونه، فيما تتم استضافة آخرين على وسائل الإعلام وبعضهم تتم استضافته على وسائل الإعلام، مما يشكل دافعاً لغيرهم للقيام بالفعل نفسه بغية تحقيق الشهرة".

يضيف هندي "بعضهم للأسف أصبح لديه حالياً الهوس بـ(الترند واللايك والشير) حتى لو على حساب مصداقيته أو تزييف الحقيقة، وهذا له أسباب نفسية كثيرة من بينها نمط الشخصية، فهناك شخصيات هستيرية تهتم بجذب الانتباه وحب الظهور بأي ثمن وتكون شخصية استعراضية وانفعالاتها مبالغة وهذا ما يحدث بالفعل على السوشيال ميديا في المحتوى المقدم الذي يتصدر (الترند). لدى بعض الناس أيضاً جنون العظمة، فترغب في أن تكون محط أنظار الآخرين بأي ثمن، أضف إليهم الشخصية المتمردة التي تسير عكس الاتجاه للفت الأنظار، والسوشيال ميديا هي الصيغة المثالية لهذا حالياً". ويلفت استشاري الصحة النفسية إلى التأثير الكبير لـ"السوشيال ميديا" في الناس، "فمليار ونصف المليار شخص حول العالم يستخدمون تيك توك على سبيل المثال، وهذا رقم كبير جداً، ويدل على التأثير، وبعض الأفراد يعانون النبذ الاجتماعي أو عدم القدرة على التواصل بصورة طبيعية، فتكون لديهم رغبة في لفت الأنظار، ويقدمون محتوى مخالفاً للتقاليد والأعراف وأخلاقيات المهن كما نشاهد حالياً وبكثافة".

ومع ازدياد المحتوى الذي لا يراعي قيم المجتمع أو أخلاقيات المهن ومع الانتشار الكبير للمعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي تحديداً، طالب متخصصون بتوعية الأجيال الجديدة الأكثر تعرضاً وتأثراً بمثل هذه المحتويات من خلال تدريس مادة تُعنى بتوجيههم نحو التعامل الصحيح مع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.يقول أستاذ الإعلام حسن عماد، "منذ أعوام طالبت "يونيسكو" بإدراج مقرر للتربية الإعلامية لطلاب الجامعات في التخصصات غير الإعلامية يتيح لهم التعرف إلى كيفية التعامل مع وسائل الإعلام، وكيفية اختيار المحتوى المناسب والتحقق من جودته وصدقيته، وهذا يحدث بالفعل في بعض الدول. وحالياً أصبح ضرورة ملحة في ظل هذا الانفلات الذي نشهده على مواقع التواصل الاجتماعي كافة، الذي لا يراعي أخلاقيات أي مهنة ويمكن أن يؤدي إلى تداعيات بالغة الخطورة على المجتمع".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير