ملخص
تبنت الحكومة الجزائرية منذ فترة خطاباً يدعو إلى "ضرورة تكييف خصوصية كل محافظة في البلاد ضمن تنفيذ مخططات التنمية، على اعتبار أن لكل منطقة في الجزائر إمكاناتها".
المدن ليست أماكن للعيش نسكنها وتسكننا فحسب، إنما شكلت على مدى التاريخ ذكريات أجيال وكانت فضاءً للمعرفة والإلهام والإبداع، لكن السؤال هو هل ما زالت تؤدي هذه الوظائف في خضم حياتنا المتسارعة؟
فعلى غرار حكومات عربية كثيرة، تواجه الحكومة الجزائرية تحدي إعادة النظر في فلسفة بناء المدن وفقاً لاعتبارين، الأول مرتبط بالهوية العمرانية التي فقدت كثيراً من بريقها الجمالي وقيمتها المعنوية، والثاني يتعلق باستيعاب التمدد السكاني مع تزايد النمو الديموغرافي، من دون إغفال مؤشر ثالث وهو الإبقاء على شعور الفرد بالانتماء لهذه المدن وعدم بحثه عن هجرتها باعتبارها جزءاً منه.
ولعل التساؤل الآخر المطروح اليوم هو: هل نعود لعبق الماضي في تشييد مدننا الجديدة حتى لا نفقد هويتنا أم نبني مدناً ذكية تحتكم للتوجه المستقبلي للبشرية الذي رفع قيمة الاستهلاك مقابل الإنتاجية؟
لكل منطقة خصوصيتها
وجرت في الجزائر نقاشات حول الهوية العمرانية للمدن، ويظل استعداد البلاد لإنجاز برنامج سكني جديد يستهدف بناء مليوني وحدة سكنية بصيغ مختلفة، ضمن برنامج رئاسي يمتد لخمس سنوات (2025-2029)، من دون احتساب البنايات التي يعكف القطاع الخاص على إنجازها سنوياً.
ومستجد هذه النقاشات توجه عقل "المقاول" الجزائري إلى نمط عمراني يستهدف إنجاز عمارات شاهقة مكونة من 30 طابقاً، كما ورد على لسان المدير العام للتعمير والهندسة المعمارية بوزارة السكن الجزائرية، حكيم باي، الذي قال إن إنجاز تلك المباني سيكون بنمط معماري يختلف من منطقة إلى أخرى حسب خصوصياتها.
كذلك أشار وزير السكن الجزائري، طارق بلعريبي، إلى "ضرورة تطوير المخططات الهندسية بما يعزز جودة مشاريع السكن ويضمن تلبية الحاجات المستقبلية للسكان". وقال بلعريبي إن "الدراسات العلمية والاجتماعية لتصميم المنازل يجب أن تلائم عادات وتقاليد المجتمع الجزائري".
وتبنت الحكومة الجزائرية منذ فترة خطاباً يدعو إلى "ضرورة تكييف خصوصية كل محافظة في البلاد ضمن تنفيذ مخططات التنمية، على اعتبار أن لكل منطقة في الجزائر إمكاناتها"، وفق ما ورد على لسان مسؤولين حكوميين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الهوية العمرانية
وتأتي هذه النقاشات حول "الهوية العمرانية" في وقت تشهد فيه المدن الجزائرية توسعاً لا سيما في المدن الكبرى التي أصبحت "مضغوطة"، إضافة إلى ترامي البنايات غير المكتملة على الأطراف وعدم خضوع كثير منها لمعايير بناء واضحة أو تنظيم محدد، إضافة إلى انعدام العلاقة بين الأساليب المعمارية ونمط الحياة وبعدها البيئي.
ويقول مهندسون إن المهمة قد تبدو صعبة لكنها ليست مستحيلة وتحتاج إلى غرس "ثقافة عمرانية" و"تخطيط عمراني" مدروس يشارك فيه متخصصون لإبراز الهوية الجزائرية.
ويتأتى ذلك عبر صياغة نصوص قانونية من شأنها المحافظة على النسق العمراني وخصائص كل منطقة مع عدم الإخلال بمهن الفلاحة والصناعة والتراث الثقافي والتاريخي والبيئة، مع الحرص على تطبيقها لوقف التشوهات العمرانية، كما يقول خبراء.
ولا يبدو الريف الجزائري بمعزل عن المدينة، إذ يشهد أيضاً توسعاً عمرانياً يحتاج إلى تخطيط، لا سيما مع تخصيص الحكومة الجزائرية أرصدة مالية لسكان الأرياف والمناطق المعزولة عبر كل ربوع البلاد، للحد من ظاهرة النزوح من القرى إلى المدن، وتثبيت السكان في مكان إقامتهم وتسهيل أعمالهم بمختلف الأنشطة الريفية كالفلاحة وتربية الحيوانات.
السكن اللائق
يعتقد المتخصص الاقتصادي سعد سلامي أن الجزائر تحتاج إلى استراتيجية خاصة بالمدينة والمنظر العام للشوارع والأحياء، مشيراً إلى أن كثيراً من البنايات تحولت مع مرور الوقت إلى مراقد مما شوه المظهر الجمالي للمدن والأحياء.
ولا يبدو سلامي متحمساً لفكرة بناء عمارات بأكثر من 30 طابقاً، وبخاصة في ظل مساحات شاسعة صالحة للبناء، وعلى اعتبار أن كثيراً من الدول بدأت تتخلى عن بناء ناطحات السحاب والمباني المرتفعة وبدأت تعتمد بنايات لا تتعدى الطوابق الأربعة وبنوعية جيدة بصورة تسمح بتوفير سبل الراحة للمواطن.
وعدد سلامي في حديثه إلى "اندبندنت عربية" جملة من المشكلات التي تؤرق الحكومة لبناء مساكن ذات جودة عالية، من بينها الطلب الكبير والمتزايد على المباني بمختلف الصيغ، مما دفع الوزارة المكلفة العمران بالتركيز على الكمية وليس النوعية وذلك لتلبية الطلبات خلال الأعوام الأخيرة.
واعتبر المتخصص الجزائري أن للعمران تأثيراً بالغاً على الاقتصاد، إذ عندما يتوافر للمواطن متطلبات الحياة الضرورية فإنه سيشعر براحة نفسية تنعكس إيجاباً على قدراته الإنتاجية.
تحفيزات
أما عن الدعم الذي تقدمه الحكومة للسكن الريفي، أكد سلامي أن الهبة التي تراوح ما بين 700 ألف و900 ألف دينار جزائري (بين 3 إلى 4 آلاف دولار) محفزة جداً غير أنها ليست كافية لتحسين صورة السكن، وفي اعتقاده أن الحديث عن عمران ذي مستوى عصري يحتاج أيضاً إلى تصليح شبكة الطرق وتهيئة البيئة، مما يتطلب استراتيجية أخرى لمتابعة بناء المباني وتطبيق القانون.
مدن ساحرة
إلى ذلك يرى كثير من الجزائريين في مدن بعيدة جغرافياً عن العاصمة مثالاً حياً عن الهندسة المعمارية الفريدة من نوعها بعيداً من ضوضاء المدينة.
وعلى سبيل المثال تجذب مدينة الوادي الواقعة جنوب شرقي الجزائر، كثيراً من الزوار، لهندستها المعمارية الساحرة، إذ تغنت بها الكاتبة والمستكشفة السويسرية إيزابيل إيبرهارت (1877-1904) عندما قالت عنها إنها "البلدة الوحيدة التي أقبل العيش فيها للأبد".
وزارت إيبرهارت المدينة في عام 1899 وهي أول من أطلق عليها اسم "ألف قبة وقبة"، وكانت الصحيفة التي تعمل فيها أوفدتها إلى الجزائر لتكتب عن حياة الجزائريين في ظل الحقبة الاستعمارية الفرنسية (1830-1962)، وحين صعدت إلى أعلى صومعة "زاوية سيدي سالم" انبهرت بمشهد القباب المتجانسة وهندستها المعمارية الفريدة وبدأت تكتب عنها القصص والحكايات.
كذلك الحال بالنسبة إلى منطقة وادي ميزاب في ولاية غرداية (600 كيلومتر جنوب الجزائر) التي يمتد نسقها المعماري لأكثر من 1000 عام، ويعد مصدر إلهام لعدد من المهندسين والمعماريين من جميع أنحاء العالم وصنفت تراثاً إنسانياً عالمياً من قبل منظمة "يونيسكو" عام 1982.
وضمن المساعي الحكومية إلى تشجيع السياحة في الجزائر، يدعو خبراء إلى ضرورة إيلاء أهمية كبرى للنمط العمراني الذي يعد أحد أهم العوامل لاستقطاب السياح، وفي هذا الصدد، يعتقد المتخصص الاقتصادي محمد سعيود أن "تشجيع السياحة في البلد يقتضي من الحفاظ على الهوية العمرانية، ودعم السكن الريفي، مما من شأنه أن يسهم في التقليل من ظاهرة النزوح نحو المدينة".