Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

دول بلا جيوش... بين السلام المدروس والتاريخ المثير

دول مثل سويسرا وليختنشتاين وسان ريمو وكوستاريكا وأيسلندا وموناكو وغيرها أختارت في الدفاع عن نفسها اعتماد الحياد العسكري أو التخلي عن الجيش نهائيا أو نسج تحالف مع قوة كبرى

إنشاء القوات المسلحة رافق تكون الجماعات والكيانات السياسية (المتحف العسكري الوطني البريطاني)

ملخص

ليست الدول التي لا تمتلك جيوشاً نمطاً واحداً، بل تمثل تنوعاً جغرافياً وسياسياً واقتصادياً، مع تباين في أسباب اتخاذ هذا القرار

مع تزايد مشاهد العنف والدمار في مناطق مثل الشرق الأوسط وأوكرانيا، إذ تتصاعد الحروب إلى مستويات غير مسبوقة من الوحشية والمعاناة الإنسانية، يبدو العالم غارقاً في سباق محموم نحو التسلح. معروف أن القوة العسكرية هي وسيلة أولى للدفاع والسيطرة، لكنها تستخدم أحياناً للتعبير عن الهيمنة على المسرح الدولي. وفي هذا السياق، نجد أن الدول تتنافس على تعزيز موازناتها الدفاعية وابتكار أسلحة أكثر فتكاً. ومع ذلك، وسط هذا المشهد العالمي المضطرب، هناك دول اختارت أن تسير في اتجاه معاكس تماماً. دول تخلت بالكامل عن امتلاك جيوش دائمة، واتخذت من السلام مساراً جوهرياً لاستراتيجياتها الوطنية.

يشير مصطلح "الدول المعدومة القوات المسلحة" إلى تلك البلدان التي لا تمتلك جيشاً نظامياً دائماً. هذا لا يعني بالضرورة أنها خالية تماماً من وسائل الدفاع، ولكنها تعتمد على استراتيجيات بديلة مثل تحالفات الدفاع المشترك أو قوات أمن داخلية محدودة. تخلى بعض هذه الدول عن الجيوش بصورة طوعية نتيجة اعتبارات سياسية أو تاريخية، فيما أجبرت أخرى على ذلك بفعل معاهدات دولية.

إلغاء القوات المسلحة في هذه الدول ليس مجرد خيار سياسي، بل يعكس في كثير من الأحيان فلسفة ثقافية تدعو إلى الحد من التوترات العسكرية وإعلاء قيم السلام، فجعلتها هذه الفلسفة نماذج لسياسات تستحق الدراسة، بخاصة في عالم يعاني اضطرابات متواصلة.

لماذا اختيار السلام؟

غالباً ما يكون هذا الخيار نتاجاً لتاريخ الدول وتجاربها الخاصة، إضافة إلى رؤى حكوماتها لمستقبل أكثر سلماً واستدامة.

في كثير من الحالات، ارتبط غياب الجيوش بالتقاليد الحيادية للدول. سويسرا هي النموذج الأكثر شهرة للحياد العسكري، لكن دولاً مثل ليختنشتاين وسان مارينو اختارت الحياد منذ قرون لتجنب النزاعات التي اجتاحت أوروبا.

بعض الدول الأخرى، مثل أيسلندا، تبنت هذا النهج بعد الحرب العالمية الثانية، إذ رأت أن الانضمام إلى تحالفات الدفاع المشترك مثل حلف الناتو يغنيها عن كلف الجيوش النظامية. كما أن دولاً أخرى مثل كوستاريكا ألغت قواتها المسلحة بعد الحروب الأهلية كوسيلة لتحقيق الاستقرار السياسي ومنع العودة إلى الحكم العسكري. على سبيل المثال، بعد الحرب الأهلية عام 1948 اختارت كوستاريكا إلغاء الجيش وأصبحت تعرف بـ"دولة بلا جيش" مكرسة مواردها للتعليم والرعاية الصحية.

من ناحية أخرى تجد الدول الصغيرة أو ذات الموارد المحدودة أن بناء جيش وصيانته يمثل عبئاً اقتصادياً غير مبرر. فعلى سبيل المثال، ألغت ليختنشتاين جيشها في عام 1868 لتوفير الكلف، بخاصة مع عدم حاجتها إليه في ظل تحالفها مع سويسرا للدفاع عنها عند الضرورة.

أما أيسلندا، وعلى رغم كونها عضواً في حلف الناتو، فلا ترى مبرراً لإنفاق مواردها المحدودة على الجيش، بخاصة أنها تتمتع بحماية الحلف وشراكات دفاعية مع دول كبرى. بالنسبة إلى هذه الدول، فإن الأولوية غالباً ما تمنح لمجالات أكثر أهمية للمواطنين، مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.

كما أن الثقافة المجتمعية تلعب دوراً مهماً في تشكيل هذه القرارات. في بعض البلدان، مثل كوستاريكا، هناك ثقافة مجتمعية قوية تعارض العسكرة وتدعم السلام. كما أن هناك رؤية مشتركة بين هذه الدول بأن تعزيز الحوار الدبلوماسي والعلاقات السلمية مع الجيران أكثر أهمية من بناء جيوش.

علاوة على ذلك، فإن نمط الحكم في بعض هذه الدول، الذي يركز على الديمقراطية والحقوق المدنية، غالباً ما يدفعها إلى الابتعاد عن إنشاء جيوش قد تستخدم لتقويض هذه القيم. في حالات أخرى قد تكون الحكومات غير راغبة في زيادة التوترات الإقليمية من خلال عسكرة الدولة.

بين الجغرافيا والتحالفات: أنواع التخلي عن السلاح

ليست الدول التي لا تمتلك جيوشاً نمطاً واحداً، بل تمثل تنوعاً جغرافياً وسياسياً واقتصادياً، مع تباين في أسباب اتخاذ هذا القرار.

الدول الصغيرة مثل ليختنشتاين وسان مارينو وموناكو والفاتيكان غالباً ما تكون محصورة في مناطق آمنة جغرافياً أو تقع ضمن نطاق حماية دول أكبر. يجعل حجم هذه الدول من الصعب تصور تعرضها لتهديدات عسكرية حقيقية.

على رغم أن سويسرا تمتلك جيشاً، فإنها اختارت البقاء خارج النزاعات الدولية، مما يجعلها رمزاً للسلام. ومع ذلك، هناك دول لا تمتلك جيشاً على الإطلاق ولكنها تتبنى مبدأ الحياد كوسيلة للدفاع، مثل كوستاريكا، التي كرست مواردها للتعليم والتنمية الاجتماعية.

تختار بعض الدول الاعتماد على حلفاء أقوياء من خلال معاهدات دفاع مشترك. مثل أيسلندا التي تعتمد على حماية الولايات المتحدة بموجب اتفاق مع حلف شمال الأطلسي. مثال آخر هو بالاو، وهي دولة جزرية في المحيط الهادئ، تعتمد على اتفاقات دفاعية مع الولايات المتحدة لضمان أمنها.

كيف تحمي هذه الدول نفسها؟

تستعين هذه الدول بتحالفات واتفاقات مع قوى عالمية أو منظمات دولية لتأمين نفسها، وفي بعض الأحيان تتبع أساليب دفاع غير تقليدية مثل الدفاع المدني الذي يركز على تدريب المواطنين على الاستجابة للطوارئ، كما في تجربة كوستاريكا التي تعتمد على قوة الشرطة المحلية وفرق الطوارئ. وقد تلجأ هذه الدول إلى التكنولوجيا والمراقبة حيث تستخدم الأنظمة المتقدمة مثل الأقمار الاصطناعية لمراقبة الحدود، كما هي الحال في بعض الدول الجزرية. كذلك أصبحت الأنظمة الأمنية السيبرانية خط الدفاع الأول أمام التهديدات الرقمية.

تلعب المنظمات الدولية دوراً حيوياً في ضمان أمن الدول التي لا تمتلك جيوشاً من خلال توفير الحماية والتعاون الأمني. تعمل منظمة الأمم المتحدة كحارس دولي للسلام والأمن، إذ تقدم حماية دبلوماسية وقانونية لهذه الدول عبر معاهدات منع النزاعات ونشر قوات حفظ السلام في الحالات الطارئة. وتعزز الأمم المتحدة الأمن في الدول الصغيرة من خلال دعم سياسات الحياد وتقديم المساعدة في بناء قدرات الدفاع المدني.

بدوره يوفر حلف شمال الأطلسي الحماية المباشرة لبعض الدول المعدومة الجيوش عبر اتفاقات دفاعية. مثل اعتماد أيسلندا على الحلف الذي يتولى مسؤولية مراقبة أجوائها ومياهها الإقليمية.

كذلك يتعاون المجتمع الدولي لضمان أمن هذه الدول من خلال التزام قواعد القانون الدولي التي تحظر الاعتداء على الدول غير المسلحة، كما يدعم اقتصاداتها ويعزز التنمية بدلاً من الإنفاق العسكري.

انعدام التسليح بين إيجابية وسلبية

في الجانب المشرق لعدم امتلاك جيوش، نجد أن الدول التي اختارت هذا المسار تمكنت من توجيه مواردها المالية نحو مجالات أساسية مثل التعليم والرعاية الصحية. وفقاً لتقرير صادر عن "مركز ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام"، فإن هذا النهج الذي اتبعته كوستاريكا يعزز من مؤشرات التنمية البشرية بصورة عامة، ويؤكد نجاح البلد في احتلال مراكز متقدمة عالمياً في التعليم والبيئة.

من ناحية ثانية، فإن التخلي عن الجيوش يحد من احتمال التورط في صراعات دولية أو إقليمية، مما يساعد هذه الدول على الحفاظ على علاقات سلمية. على سبيل المثال، ذكر تقرير للأمم المتحدة أن الدول المحايدة مثل ليختنشتاين وسان مارينو ظلت بمنأى عن الحروب العالمية بفضل عدم عسكرة سياساتها.

كذلك تبني الدول المعدومة الجيوش صورة إيجابية دولياً كداعمة للسلام، مما يعزز من قوتها الناعمة، كما هي الحال مع أيسلندا، التي تعتمد على الدبلوماسية في بناء نفوذها الدولي.

أما على الجانب السلبي فإن غياب الجيوش يجعل هذه الدول عرضة للتهديدات العسكرية. مثلاً، يعتمد أمن أيسلندا على اتفاقات دفاعية مع الناتو، مما يعرضها لخطر الاعتماد المفرط على أطراف خارجية. كما أن اعتماد الدول الصغيرة مثل موناكو وليختنشتاين على دول الجوار للحماية قد يضعف استقلالية سياساتها الدفاعية ويعرضها لضغوط دولية في حال تغير الأوضاع الإقليمية.

هل يعزز توازن القوة الأمن؟

تمتلك الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، والصين جيوشاً هائلة تهدف إلى تأمين حدودها وتعزيز نفوذها العالمي. مع ذلك، فإن هذا الإنفاق يأتي بكلف اقتصادية واجتماعية ضخمة. وفقاً لتقرير للبنك الدولي، فإن الولايات المتحدة تنفق نحو 3.5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، في حين أن دولاً مثل كوستاريكا توجه مواردها لتعزيز جودة الحياة لمواطنيها.

 ومع أن الجيوش القوية قد تضمن الردع العسكري، فإنها في بعض الحالات تزيد من احتمالية النزاعات بسبب سباقات التسلح، كما هي الحال بين الولايات المتحدة والصين في منطقة المحيط الهادئ. في المقابل تنعم الدول الصغيرة غير المسلحة باستقرار سياسي أطول بفضل الحياد والتعاون الدولي.

وفي حين أن التوازن العسكري قد يحد من الحروب الكبرى (كما حدث خلال الحرب الباردة)، فإنه قد يزيد من التوترات أحياناً، بينما تقدم الدول الصغيرة المحايدة نموذجاً مختلفاً، إذ تحقق الأمن من خلال الابتعاد عن سباق التسلح.

بين التحديات الراهنة والتوجهات المستقبلية

تتعرض الدول التي لا تمتلك جيوشاً لتهديدات عسكرية متنوعة، تراوح ما بين الهجمات المحتملة من دول جارة إلى تدخلات عسكرية قد تنشأ بسبب توترات إقليمية. مثلاً قد تجد دولة صغيرة مثل سان مارينو نفسها في وضع صعب إذا نشبت حرب في المنطقة، لأن غياب الجيش يعني عدم قدرة الدولة على الدفاع عن نفسها بصورة مباشرة. ومن هذا المنطلق يصبح الردع الدفاعي غير المباشر عبر القوة الدولية والتعاون الأمني أكثر أهمية لهذه الدول، إذ تقوم بالتنسيق مع حلفاء أقوياء للحفاظ على أمنها.

قد تواجه هذه الدول أيضاً ضغوطاً سياسية واقتصادية شديدة في حال حدوث صراعات إقليمية. قد تتأثر دول مثل موناكو بصورة مباشرة بأي توترات تحدث في جيرانها مثل فرنسا أو إيطاليا. قد تتعرض لضغوط دبلوماسية بسبب حيادها ورفضها الانخراط في الحروب، وهو ما قد يؤدي إلى تقليص حريتها في اتخاذ قرارات سياسية. اقتصادياً، قد تجد نفسها في موقف صعب إذ يقتصر دخلها على نشاطات أخرى، مثل السياحة أو الصناعات المالية، ومن ثم يصبح الاقتصاد عرضة للتقلبات السياسية الخارجية. مثلاً، في حال فرض حصار اقتصادي أو عقوبات من دول أخرى، قد تجد هذه الدول نفسها في حال ضعف اقتصادي بسبب عدم امتلاكها القدرة على توفير دفاعات اقتصادية مستقلة.

مع مرور الوقت، قد تبدأ بعض الدول في إعادة النظر في سياستها العسكرية، إذ قد تجد بعض الدول التي كانت محايدة في الماضي نفسها مضطرة إلى تغيير سياساتها الدفاعية بسبب الأزمات العالمية المتزايدة، مثل التصعيد بين القوى الكبرى.

على سبيل المثال، باناما، التي كانت قد حلت جيشها عام 1994 بعد تدخل الجيش الأميركي في البلاد عام 1989، ثم تبنت سياسة دفاعية تعتمد على التعاون مع الولايات المتحدة في الأمور الأمنية. كذلك، دولة ميكرونيزيا، التي اعتمدت على الولايات المتحدة لحمايتها بموجب اتفاق "ميثاق الشراكة الحرة" الموقع في 1986. وعلى رغم أن ميكرونيزيا لا تمتلك جيشاً دائماً، فإن الدفاع عن أراضيها أصبح من مسؤولية الولايات المتحدة.

من جهة أخرى، هناك دول مثل موريشيوس التي لم تطور جيشاً منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1968، وركزت على بناء قوات الشرطة وأسطول خفر السواحل، وهي تستفيد من علاقاتها مع حلفاء دوليين مثل الهند والولايات المتحدة لتأمين دفاعها.

في المستقبل، قد تؤثر التكنولوجيا الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذكية، في صورة الدفاع الوطني لهذه الدول. قد تعتمد الدول التي لا تمتلك جيوشاً بصورة أكبر على التكنولوجيا المتقدمة مثل أنظمة الدفاع السيبراني أو حتى الأسلحة غير التقليدية التي لا تتطلب وجود جيش تقليدي. وفقاً لدراسة صادرة عن "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا"، يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الدفاع السيبراني لمراقبة التهديدات والحفاظ على استقرار الأمن القومي حتى في غياب الجيش التقليدي. ومع تطور هذه التقنيات، قد تتحول سياسة الدفاع للدول غير العسكرية إلى نموذج يعتمد على الحماية الرقمية والتكنولوجية المتطورة بدلاً من التسلح العسكري التقليدي.

هل يمكن أن نرى دولاً جديدة تختار إلغاء جيوشها في المستقبل؟ ربما، ولكن ذلك يتطلب بيئة سياسية واقتصادية مستقرة للغاية، إضافة إلى اتفاقات دولية قوية تضمن لها الحماية. فالتاريخ يظهر أن غياب الجيش ليس دائماً علامة ضعف، بل هو اختيار مدروس يهدف إلى توجيه الموارد والطاقة نحو بناء مستقبل قائم على الحوار والسلام بدلاً من النزاعات المسلحة. تظهر هذه الدول أن عدم امتلاك جيش لا يعني التخلي عن الأمن، بل هو إعادة صياغة مفاهيم الحماية عبر الابتكار والشراكات الدولية، مما يعكس توجهاً نحو التكيف مع التحديات العالمية المتغيرة بأساليب غير تقليدية.

المزيد من تقارير