ملخص
اختار آلاف الفارين من ويلات الصراع بولاية الجزيرة مدن القضارف وكسلا وبورتسودان، وكذلك عطبرة والدامر بحثاً عن الأمان، في وقت تعاني فيه المدن الآمنة الاكتظاظ السكاني والضغط على الخدمات.
بعد مضي نحو 20 شهراً على بدء الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع"، تجاوزت أرقام النزوح واللجوء كل توقعات المنظمات ووكالات الأمم المتحدة، إذ شردت أكثر من 11 مليون شخص بينهم 3.1 مليون نزحوا خارج البلاد، بحسب المنظمة الدولية للهجرة.
ويواجه نحو 26 مليون شخص، أي قريب من نصف سكان السودان، خطر المجاعة، مع توقعات بأن يتجاوز عدد المحتاجين إلى المساعدات عتبة 30 مليون مواطن نتيجة الوضع المأسوي الذي يعيشه السودانيون، العالقون منهم في مناطق القتال والنازحون داخلياً أو حتى أولئك اللاجئين الذين تمكنوا من الفرار إلى دول الجوار.
وأسهم تصاعد الأحداث في ولاية الجزيرة جنوب الخرطوم واستمرار انتهاكات قوات "الدعم السريع" في نزوح آلاف المواطنين إلى المدن الآمنة، ويعاني الفارون ويلات الصراع أوضاعاً إنسانية غاية في الصعوبة، إذ تفترش أعداد منهم الأرض وتلتحف السماء بسبب اكتظاظ مراكز الإيواء، وتتعالى صرخات الأطفال وأنين المسنين تضوراً من الجوع، في وقت تتعرض فيه المدن التي لم تطاولها المعارك لضغط كبير نتيجة استضافة مئات آلاف النازحين بغرض الإقامة والعمل أو مواصلة الدراسة وتخليص إجراءات السفر إلى دول أخرى، وإثر ذلك تفاقمت أزمة انعدام السكن في ظل نفاد المدخرات المالية للنازحين الذين يحاصرهم من جانب آخر تزايد كلف إيجارات المنازل والشقق التي سجلت أرقاماً غير مسبوقة.
مأساة كارثية
إلى ذلك يقدر منبر "مؤتمر الجزيرة" أعداد النازحين الذين رصدوا بما يفوق 400 ألف نازح، مع توقعات أن يكون عددهم وصل إلى 600 ألف، في ظل استمرار حركة النزوح اليومية، وتعذر تحديث البيانات بسبب انقطاع الاتصالات بالمنطقة.
وفق بيان للمنبر هجر سكان أكثر من 400 قرية من شرق الجزيرة بالكامل من جملة 515 قرية، بينما هجرت 115 قرية المتبقية بصورة جزئية، ويعيش السكان الباقون فيها تحت حصار محكم وانتهاكات متكررة من قوات "الدعم السريع".
ووصف البيان أوضاع النازحين بأنها غاية في الصعوبة والخطورة، إذ تفترش أعداد منهم الأرض وتلتحف السماء في سهول البطانة وطرقها الطويلة القاسية التي يقطعها النازحون سيراً على الأقدام، وتوفي بعضهم في الطريق نتيجة الإعياء الشديد.
ظروف قاسية
في غضون ذلك اختار آلاف الفارين ويلات الصراع بولاية الجزيرة، مدن القضارف وكسلا وبورتسودان، وكذلك عطبرة والدامر بحثاً عن الأمان، في وقت تعاني فيه المدن الآمنة الاكتظاظ السكاني والضغط على الخدمات، فضلاً عن عدم وجود مأوى وملاجئ بسبب افتتاح المدارس، إذ يعيش نازحون كثر أوضاعاً صعبة وقاسية في مساكن طارئة مثل الخيام الموقتة، إلى جانب الحاجة إلى مطالب يومية من الغذاء والدواء ووسائل التدفئة.
وقال خالد جمعة الذي اختار مدينة القضارف وجهة للنزوح إن "ما حدث في مناطق شرق الجزيرة فاق حد التصور، وتحمل المواطن لوحده حجم الانتهاكات ودفع كلفتها قتلاً وسلباً ونهباً وتشريداً، فضلاً عن زيادة تدهور الوضع المعيشي وتفاقم معاناة العالقين الذين لم يتمكنوا من النزوح".
وأشار إلى أن "آلافاً من سكان المناطق والقرى فروا نحو المجهول بعد نهب سياراتهم ومنازلهم ومدخراتهم المالية، لذا فإن أوضاعهم ستسوء أكثر من كل النواحي المادية والصحية".
وأوضح جمعة أن "الغالبية لا تملك مدخرات مالية لاستئجار منازل، لذلك لجأ عدد كبير من النازحين إلى المساجد، ولا يزال مئات ينتظرون في الساحات وتحت ظلال الأشجار وفي الأسواق، إضافة إلى استقبال بعض من الأسر النازحين في منازلهم".
خيارات صعبة
على الصعيد نفسه يقول النازح مهدي عبدالله الذي اتجه إلى مدينة حلفا شرق الخرطوم إن "غالبية الأسر التي نزحت من ولاية الجزيرة في المناطق التي تحتدم فيها الاشتباكات تعيش أوضاعاً صعبة، إذ تفترش الأرض في العراء، وعلى الطرقات وتحت الأشجار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف أن "آلاف الهاربين من ويلات الحرب نفدت مدخراتهم المالية، بالتالي تقل القدرة على توفير المبالغ المطلوبة لإيجارات المنازل والشقق التي سجلت أرقاماً غير مسبوقة، فضلاً عن عجز مئات عن الحصول على الغذاء والدواء للأطفال وكبار السن".
وأوضح عبدالله أن "نزوحهم إلى شرق البلاد كان غير مدروس، وأن الخوف كان يسيطر عليهم، بخاصة أنه ليس لديهم أقرباء أو معارف في مدينة حلفا، فمكثوا يومين بأحد المساجد، ونسبة إلى اكتظاظ المكان بالنازحين، فضلاً عن سوء الخدمات وتدهور الوضع الإنساني، غادروا إلى منطقة خشم القربة، حيث يوجد أقارب لهم يمكنهم الإقامة معهم".
أرقام الجوع صادمة
على صعيد متصل دعا منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة إلى تحرك دولي عاجل لمعالجة الأزمة المتفاقمة في السودان، مسلطاً الضوء على معاناة ملايين النازحين بسبب الحرب.
وتحدث وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فليتشر مع لاجئين خلال زيارة مدتها تسعة أيام إلى السودان وتشاد، ووعد بنقل محنتهم وحض العالم على تقديم دعم أكبر لهم، وقال مردداً رسالة أحد اللاجئين "نحن لسنا غير مرئيين".
وخلال زيارة إلى الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، التقى فليتشر حاكم المنطقة واستمع إلى "قصص تفطر القلب" من لاجئين فارين من الصراع. ونقل بيان صدر عن وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية قوله "إن الوضع صعب هناك، وأكبر أزمة إنسانية في العالم، إذ تحدثت مع سكان محليين ومجتمعات مضيفة".
تفاقم الأوضاع
في السياق رأى المحلل الاقتصادي محمد المريود أن "المجاعة في السودان باتت أمراً واقعاً ومنتشرة في مدن عدة بالبلاد، خصوصاً المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع نظراً إلى انعدام الأمن، مما يصعب على أي شخص فيها ممارسة الأنشطة التي تضمن له الحياة من ناحية إنتاج الغذاء أو العمل في أي نشاط يوفر له دخلاً في ظل ارتفاع جنوني للأسعار، إضافة إلى انعدام عدد من السلع الاستهلاكية الضرورية سواء الخبز أو الحبوب أو زيوت الطعام أو السكر".
وأضاف "من الجوانب التي تزيد من مفاقمة المجاعة سوء التغذية المتفشي بصورة كبيرة بالبلاد سواء في مناطق سيطرة الجيش أو الدعم السريع، لأن سوء التغذية الحاد هو درجة من درجات المجاعة بغض النظر عن السبب، الذي قد يكون انعدام الغذاء أو عدم المقدرة في الحصول عليه".
وتابع المريود "بحسب المنظمات الدولية فإن عدد النازحين في مناطق سيطرة الجيش يقدر بـ10 ملايين شخص وغالبيتهم تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، إضافة إلى ذلك هناك نحو 15 مليون طفل سوداني يعانون سوء التغذية الحاد ويحتاجون إلى دعم غذائي، فضلاً عن وجود 150 ألف امرأة من الحوامل في الولايات الآمنة يفتقرن إلى الرعاية الصحية والغذاء اللازمين سواء بالنسبة إليهن أو المواليد".
وقال "إضافة إلى التقارير التي تتحدث عن تفشي المجاعة بصورة حادة في إقليم دارفور، إذ أشارت المنظمات العاملة في هذا الإقليم إلى وفاة طفلين كل أربع ساعات في معسكر زمزم للاجئين".
ولفت إلى أن "هذا الوضع تفاقم بسبب خروج مساحات واسعة من عملية الإنتاج الزراعي، وبخاصة بالنسبة إلى محاصيل الأمن الغذائي في ولايات كردفان ودارفور والجزيرة، إضافة إلى مناطق واسعة في ولايات سنار والنيل الأزرق والقضارف بسبب الحرب وعدم توفر مدخلات الإنتاج للمزارعين، إلى جانب أعمال النهب الواسعة للسلع سواء من المواطنين أو المخازن التابعة لمؤسسات الدولة والمنظمات والتجار".
ملاذ اللجوء للجوار
بخلاف مأساة النزوح الداخلي يتوزع معظم اللاجئين السودانيين في الخارج بدول الجوار الحدودية الخمس، إذ شكلت الملاذ الأقرب عبر طرق الفرار البري، على رأسها مصر شمالاً، وجنوب السودان جنوباً، ومن الشرق إثيوبيا وإريتريا، وغرباً تشاد، وهو الوضع الذي وصفه رئيس بعثة منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة بيتر كيوي، بالقول "كان اللاجئون السودانيون خلال فرارهم ينتقلون في جميع الاتجاهات، اعتماداً على أقرب حدود يمكنهم الوصول إليها".
ويتوزع معظم اللاجئين السودانيين في الخارج بدول الجوار، منهم العدد الأكبر 564686 لاجئاً في دولة تشاد، و643254 في جنوب السودان، و500 ألف في مصر، و51666 في إثيوبيا و29444 في أفريقيا الوسطى، وفق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، بجانب مجموعات أخرى صغيرة توجهت صوب إريتريا وليبيا، وكذلك كينيا وأوغندا.
أزمات وأخطار
في هذا الصدد توقع الباحث في مجال الهجرة واللجوء سفيان الريح أن "تتواصل عمليات تدفق الفارين نحو دول الجوار بحثاً عن الأمان وسبل الحياة بخاصة مع تمدد رقعة الحرب، على رغم تعرض أرواحهم للخطر من خلال عمليات التهريب والدخول إلى دول مثل مصر وليبيا بطرق غير شرعية بواسطة شبكات تهريب البشر التي نشطت بصورة ملاحظة في الفترة الأخيرة".
واعتبر الريح أن "حجم الأعداد المتدفقة من اللاجئين السودانيين في معسكرات دول الجوار الأفريقي شل قدرات المنظمات الأممية وخلق أزمات إنسانية، بالتالي فإن الأوضاع باتت معقدة وفاقت الإمكانات المتاحة".
ولفت الباحث في مجال الهجرة واللجوء إلى أن "كثافة الضغوط على المعسكرات وتزايد أعداد الآتين من السودان جعل بعض دول الجوار تنظر إلى الوضع بأنه يمثل مهددات أمنية، مما دفعها لوضع بعض القيود والتضييق في إجراءات الدخول إلى أراضيها".