ملخص
يمكن تصنيف الموارد المعدنية على نطاق واسع باعتبارها عناصر أو مركبات غير عضوية في قشرة الأرض أو عليها تستخرج لإمكاناتها الاقتصادية، وباعتبارها مجموعة فرعية من المواد الاستراتيجية كانت حكومات العالم مهتمة منذ فترة طويلة بالموارد المعدنية المختلفة، سواء كمدخلات للتنمية الاقتصادية، أو كأدوات للسياسة الخارجية أو للدفاع الوطني، وفي الوقت نفسه لعب التوزيع الجغرافي غير المتكافئ للموارد المعدنية دوراً مهماً في تشكيل العلاقات الدولية وتحكم في ظروف الحرب والسلم على مر القرون.
في خضم ما يسمى الثورة الصناعية الرابعة والتحديات البيئية غير المسبوقة لا يزال المشهد الجيوسياسي مشوهاً بديناميكيات تذكرنا بمنتصف القرن الـ20، وهذا ما اتضح أكثر هذا العام في قطاع المعادن الحيوية الذي يوفر المدخلات الأساس لكل من التقدم التكنولوجي والتحول الأخضر.
وبينما تحظى المعادن باهتمام سياسي متزايد أصبحت مندمجة في منافسة صفرية أوسع نطاقاً، مع تركيز البلدان بصورة متزايدة على التخفيف من نقاط الاختناق والضعف وتعزيز الاكتفاء الذاتي وحتى تجارة الموارد.
والواقع أن سلاسل توريد المعادن من الاستكشاف الجيولوجي والاستخراج في المنبع إلى التصنيع في المصب لا تتشكل من قبل الأسواق، بل من الأطر السياسية التي صيغت في العواصم الوطنية، وبدأت هذه الأطر بالفعل في تشكيل أنشطة الصناعة وتدفقات التجارة وحتى الابتكارات التكنولوجية بصورة ملموسة.
من ثم فإن فهم المسار المستقبلي لقطاع المعادن يتطلب تحليلاً متناسباً للمشاهد المؤسسية والسياسية المتطورة، وهذا يشمل كيفية تحديد الدول والسياسات أي المعادن الحاسمة أو الاستراتيجية، وكيف يتم تقييم ومطاردة أمن المعادن فضلاً عن التهديدات التي تواجهها، وكيف تتفاعل الأهداف السياسية المتنوعة والمتناقضة في بعض الأحيان في ما يتصل بسلاسل توريد المعادن وتؤثر في التوترات السياسية والنزاعات المسلحة.
الأمن المعدني
يمكن تصنيف الموارد المعدنية على نطاق واسع باعتبارها عناصر أو مركبات غير عضوية في قشرة الأرض أو عليها تستخرج لإمكاناتها الاقتصادية، وباعتبارها مجموعة فرعية من المواد الاستراتيجية كانت حكومات العالم مهتمة منذ فترة طويلة بالموارد المعدنية المختلفة، سواء كمدخلات للتنمية الاقتصادية أو كأدوات للسياسة الخارجية أو للدفاع الوطني، وفي الوقت نفسه لعب التوزيع الجغرافي غير المتكافئ للموارد المعدنية دوراً مهماً في تشكيل العلاقات الدولية وتحكم بظروف الحرب والسلم على مر القرون.
وعلى رغم أن الظروف الجيولوجية قد تكون بطيئة التغير، فإن المشهد الاقتصادي للمنافسة على الموارد المعدنية خضع لتحول مهم خلال العقود الثلاثة الماضية، خصوصاً أن عمليات الخصخصة في تسعينيات القرن الـ20 وأوائل العقد الأول من القرن الـ21 أدت إلى تقليص دور الدول بصورة كبيرة وزيادة سيطرة الشركات العابرة للحدود الوطنية على سلاسل توريد المعادن، وتهيمن الصين التي بالكاد سجلت في التقييمات الغربية للأمن المعدني في أوائل تسعينيات القرن الماضي الآن على عديد من أسواق المعادن الرئيسة، لا سيما في المعالجة المتوسطة.
وتظل المعادن المستخدمة في الوقود مثل النفط والغاز والفحم من المدخلات الرئيسة لأنظمة الطاقة المعاصرة وتستمر في تمثيل الحصة الأكبر من قيمة الإنتاج العالمي، ومع ذلك فإن أهميتها آخذة في الانحدار نسبياً إذ تحول الحكومات والصناعات اهتمامها بصورة متزايدة إلى المعادن الأساس لتقنيات الطاقة النظيفة، بما في ذلك الليثيوم والكوبالت والنيكل والنحاس والعناصر الأرضية النادرة.
وتتنوع أيضاً هياكل السوق للمعادن الفردية فبعضها يتم تداوله عالمياً، وتخضع هذه التجارة لأطر تنظيمية راسخة وتتميز بسيولة عالية وخطط تسعير أكثر عالمية، أما التجارة في المعادن الأخرى كتلك التي تشكل ضرورة أساس للتكنولوجيات الناشئة، فهي جديدة تماماً وأقل شفافية وقد يتم تداولها بكميات صغيرة نسبياً في معاملات بين موردين ومشترين محددين لا يكشف عنها علناً.
الصين والمعادن الحيوية
تعد الصين أكبر منتج ومستهلك ومصدر في العالم لعديد من المعادن الحيوية والاستراتيجية ويشمل ذلك المعادن المستخدمة في التكنولوجيا المتقدمة وتطبيقات الطاقة النظيفة، وشكلت أكثر من ثلثي الإنتاج العالمي من العناصر الأرضية النادرة عام 2023. وهي مهيمنة عالمياً في تكرير ومعالجة المعادن حتى تلك التي لا تمتلك احتياطات محلية كبيرة منها، مثل الكوبالت والخامات والمركزات التي تستوردها في المقام الأول من جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وتطورت قدرة الصين على الإنتاج والمعالجة على مدى العقود الماضية، سواء من خلال دعم السياسات المتكاملة عبر سلاسل توريد المعادن أو من خلال المشاركة الكبيرة للمستثمرين الأجانب، ومنذ أن وضعت الصين استراتيجيتها للاستثمار الخارجي وبدأت في تنفيذها منذ أكثر من عقدين، نمى التعدين كنسبة من الاستثمار المباشر الخارجي لها، وبحلول عام 2020 بلغت حصة التعدين ما يقارب سبعة في المئة من مخزون الاستثمار المباشر الخارجي.
وتعمل استراتيجية الموارد المعدنية الصينية اليوم كأداة أساس ضد استراتيجيات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وإلى حد ما روسيا، وترتبط إلى حد كبير بمخاوفها في شأن العرض، ويستخدم صناع السياسات الصينيون مصطلح "استراتيجي" بدلاً من "حاسم" لوصف المعادن ذات الأولوية. وخلال عام 2016 نشرت قائمة مخصصة للمعادن الاستراتيجية في الخطة الوطنية للموارد المعدنية للفترة 2016-2020، وهي أحدث وثيقة تخطيطية على المستوى الوطني متاحة للجمهور لتنسيق استكشاف المعادن وتطويرها واستخدامها وحمايتها، وتشير إلى أهمية هذه المعادن للاقتصاد والدفاع والنهوض بالصناعات الاستراتيجية.
وكانت المخاوف في شأن استنزاف وتدهور الموارد المعدنية والضرر البيئي سمة مميزة لوثائق السياسات، وكذلك للخطابات التي دارت بين الخبراء على مدى العقد الماضي، ودفعت هذه المخاوف الصين إلى تشديد وإنفاذ اللوائح البيئية بصورة تدريجية، وإغلاق المناجم وبذل جهود لتعزيز الصناعة.
وخلال عام 2024 أصبحت القيود المفروضة على تصدير المعادن، والتي كانت في السابق مؤطرة من حيث المخاوف البيئية مرتبطة صراحة بالأمن الوطني الصيني. ويشمل الأمر ضوابط جديدة على الصادرات من الغاليوم والجرمانيوم والجرافيت وتعد هذه إلى حد كبير جزءاً من التوترات التجارية المتصاعدة مع الولايات المتحدة، واستجابة غير مباشرة للقيود الأميركية على صادرات معدات وتكنولوجيا أشباه الموصلات إلى الصين.
روسيا
تعد روسيا موطناً لموارد هائلة من المواد الخام والرواسب الجيولوجية لجميع العناصر المعروفة تقريباً، ووفقاً لتقديرات الحكومة الروسية لعام 2019 بلغت قيمة الاحتياطات المعدنية 1.44 تريليون دولار، وكان الجزء الأكبر من هذه القيمة في النفط والغاز والفحم.
وتشير استراتيجية تنمية الموارد المعدنية الروسية لعام 2024 إلى أن قاعدة الموارد المعدنية تعمل بمثابة "أساس للأمن القومي للدولة" و"أداة لتحقيق المصالح الاستراتيجية للبلاد" وهي جزء من "الميزة التنافسية الطبيعية طويلة الأجل" لروسيا، والواقع أنه على رغم أن روسيا تعد الأكثر بروزاً كقوة في مجال الوقود الأحفوري والطاقة، فإنها أيضاً مورد عالمي رئيس لعدد من المعادن والسلع المعدنية مثل البلاديوم والبلاتين والإسكنديوم والتيتانيوم والألمنيوم والنيكل والأنتيمون والنيون واليورانيوم المخصب، إلى جانب المعادن الثمينة مثل الذهب والألماس والأسمدة الصناعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتسترشد استراتيجية الأمن المعدني في روسيا جزئياً باستراتيجية تنمية الموارد المعدنية التي نشرت للمرة الأولى عام 2018 وتم تحديثها وتمديدها عام 2024، وتصنف كلتا النسختين المعادن على أساس مقاييس الندرة، وتحديداً ما إذا كانت الاحتياطات المحلية تعد كافية لتلبية الأهداف.
وتولي النسخة الجديدة اهتماماً أكبر لتأثير العقوبات الدولية وتصوغ أهدافاً جديدة تتعلق بتطوير رواسب كبيرة في المناطق التي يصعب الوصول إليها في روسيا، بما في ذلك القطب الشمالي والشرق الأقصى، واستخراج قاع البحر. وترتبط بهذه الاستراتيجية أيضاً استراتيجية لتطوير الصناعة المعدنية حتى عام 2030، ودعم مشاريع الليثيوم وتأكيد الحاجة إلى "ضمان الاستقلال" في مسائل سلاسل توريد المواد الخام.
الولايات المتحدة
كانت الولايات المتحدة قوة معدنية كبرى ومصدراً عالمياً خلال النصف الأول من القرن الـ20، وجاء الاهتمام السياسي المبكر بالمعادن كمسألة استراتيجية من قطاع الدفاع في ما يتعلق بالأحداث الخارجية، وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الـ21 نقلت الولايات المتحدة كثيراً من إنتاجها من المعادن، بما في ذلك العناصر الأرضية النادرة إلى أماكن حيث كانت المعايير البيئية والكلف الاقتصادية أقل بكثير.
وبحسب تقييم حديث، اعتمدت الولايات المتحدة عام 2023 بالكامل على استيراد 12 من المعادن الـ50 المدرجة في قائمتها الحالية للمعادن الحرجة، وكانت تعتمد على الواردات الصافية بنسبة تزيد على 50 في المئة في 29 من تلك المعادن الإضافية.
ووفقاً لما نص عليه قانون الطاقة لعام 2020، يعد المعدن "حاسماً" على أساس أنه ضروري للأمن الاقتصادي والوطني للولايات المتحدة، وله سلسلة إمداد ضعيفة ويؤدي وظيفة أساساً في تصنيع منتج قد يسفر غيابه عن "عواقب وخيمة على الأمن الاقتصادي أو الوطني للولايات المتحدة".
واعتباراً من مارس (آذار) الماضي، قدم الكونغرس الأميركي مشروع قانون وتعديل متعلق بالمعادن الحرجة، وفي ظل إدارة الرئيس جو بايدن تم ربط التعدين المحلي بصورة صريحة بالتحول إلى الطاقة النظيفة لمعالجة "التهديد الوجودي" لتغير المناخ، وخصصت إدارته تمويلاً كبيراً لتعزيز الأمن المعدني من خلال مبادرات واسعة النطاق.
التحول إلى الطاقة النظيفة
أصبحت تطبيقات الطاقة النظيفة والتكنولوجيات الداعمة لها المحرك الرئيس لنمو الطلب على عديد من المعادن، وشهدنا هذا العام كيف دارت استراتيجيات الأمن المعدني في الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بصورة متزايدة حول التحول الأخضر، مما يحفز الأسواق المتنامية لتقنيات الطاقة النظيفة.
وتحدد الدول الكبرى تواريخ مستهدفة للتحول إلى انبعاثات كربونية صافية صفرية، وبذلك وضع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عام 2050 كهدف للتحول الكامل إلى الطاقة النظيفة، و2060 في حالة الصين وروسيا.
إلى ذلك قدرت وكالة الطاقة الدولية في تقرير صدر لها هذا العام أن الطلب العالمي على المعادن المرتبطة بالتحول في مجال الطاقة سيتضاعف بحلول عام 2040 بناء على سياسات الطاقة المعلنة، مرجحة أن الوصول إلى صافي الصفر العالمي يتطلب زيادة الطلب بمقدار ستة أضعاف.
وتشير بعض التقييمات الأولية إلى أن خطة الاتحاد الأوروبي للصفقة الخضراء الصناعية ستتطلب ما يصل إلى 35 ضعفاً من الليثيوم وسبعة أضعاف من العناصر الأرضية النادرة بحلول عام 2050، فيما قد ينمو الطلب الأميركي على الليثيوم والكوبالت والنيكل بما يصل إلى 23 ضعفاً بحلول عام 2035 مع تضاعف الطلب على النحاس. وبالنسبة إلى الصين فإن تلبية أهداف الحياد الكربوني ستستلزم نقصاً خطراً في إمدادات المعادن.
التصعيد الجيواقتصادي
لا شك أن التدابير الرامية إلى تنويع الإمدادات المعدنية تهدف إلى تعزيز الأمن الاقتصادي والمرونة في النظام السياسي، ومع ذلك فإن هذه الجهود مصحوبة أيضاً ببيئة تجارية أكثر تقييداً لتجارة المعادن، وبين عامي 2009 و2020 كانت هناك زيادة بمقدار خمسة أضعاف في القيود المفروضة على الصادرات المتعلقة بالمعادن الحيوية والاستراتيجية حتى بين الحلفاء، ورأينا كيف فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية على منتجات الألمنيوم والصلب في الاتحاد الأوروبي عام 2018، ودفعته إلى اتخاذ تدابير انتقامية.
كما أن الجهود الرامية إلى معاقبة روسيا من خلال فرض قيود على تجارة المعادن يتمخض عنها نتائج معقدة، خصوصاً أن للعقوبات الغربية الجديدة الهادفة إلى فصل المعادن الروسية عن الأسواق الغربية تأثيراً في رفع أسعار الألمنيوم والنحاس والنيكل، مع زيادة قدرة الصين على الوصول إلى المعادن الرخيصة.
خطر الصراع العنيف والمواجهة العسكرية
الأدلة التجريبية حول العلاقة بين الترابط التجاري والصراع بين الدول مختلطة منذ فترة طويلة، ومن المرجح أن يؤدي التنافس على المعادن الحيوية والاستراتيجية إلى تعجيل بعض الصراعات العالمية.
هذه الديناميكيات واضحة بالفعل في حرب روسيا وأوكرانيا، إذ سلط استنفاد مخزونات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من المواد والذخائر عبر دعم الجيش الأوكراني الضوء على أهمية المعادن للقاعدة الصناعية العسكرية. وخلال عام 2022 أشار المسؤول عن السياسة العسكرية الصناعية في وزارة الدفاع الأميركية صراحة إلى نقاط ضعف سلسلة التوريد واختناقات المواد الخام، في ما يتصل بالحرب في أوكرانيا. وغني عن القول إن هذه العوامل تؤثر أيضاً في القاعدة العسكرية الصناعية الروسية مع استمرار الحرب.
وفي السياق ذاته من المعروف أن المناطق التي تحتلها روسيا تحوي رواسب معدنية قيمة بما في ذلك التيتانيوم والحديد والليثيوم والفحم، وبدأت روسيا بالفعل في الاستيلاء على إنتاج المعادن من الأراضي الأوكرانية ودمجها في سلاسل التوريد الوطنية، مع خطط أخرى لإحياء والاستثمار في مرافق التعدين هناك.
وارتباطاً بالتوترات الجيوسياسية الأوسع نطاقاً حذر الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ هذا العام من الاعتماد على "المواد الخام" الصينية، بالتوازي مع نقاط الضعف التي يواجهها الغرب بسبب واردات النفط والغاز الروسيين، وقدرت وزارة الدفاع الأميركية أنه حال حدوث صراع تقليدي واسع النطاق بين الصين والولايات المتحدة ستعاني الولايات المتحدة من نقص في 69 معدناً، وأن المخزون الحالي لن يغطي سوى نحو 40 في المئة من العجز العسكري المتوقع في صراع لمدة عام واحد.