ملخص
خلال الـ 13 عاماً الماضية اكتسب السوريون عادات وتقاليد جديدة نتيجة التفاعل مع المجتمعات المضيفة، ففي لبنان قد تجد صعوبة في تمييز لهجة الطفل اللبناني من السوري، والأمر نفسه ينسحب على أسلوب الحياة واللباس.
بعد الإعلان عن هرب بشار الأسد انطلق مئات اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلادهم واجتازوا المعابر الشمالية المدمرة نحو حمص سيراً على الأقدام من دون انتظار مزيد من الوقت، يقول أحدهم وهو لاجئ في لبنان منذ 13 عاماً، إن "ما جرى أشبه بالحلم، فما كان يخطر على بالنا العودة القريبة ورؤية سوريا مجدداً".
لكن مشاهد الركام أعادت ترتيب الأولويات لدى كثيرين، فبعض الأحياء محيت ولم يتبق منها شيء حتى الأطلال، لذا يتمهل كثير من أرباب الأسر في قرار العودة لأسباب مختلفة، منها ما يتعلق بسوء البنى التحتية وغياب الخدمات والسلع الأساس، أو باستثمارات ومصالح أسسها اللاجئون في البلاد التي آوتهم زمن النزوح، إضافة إلى جيل كامل ممن ولد ونشأ وتعلم بعيداً من بلاده، ومن قطع شوطاً طويلاً في معاملات الهجرة إلى أوروبا وأميركا الشمالية.
موجات اللجوء
أسس تاريخ الـ 15 من مارس (آذار) 2011 لمشهد سوريا الجديدة، وجاء سقوط نظام البعث في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 تاريخاً للتاريخ وموعداً يأمل معه أكثر من 13 مليون سوري العودة لديارهم، وبحسب بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فقد تجاوز عدد النازحين السوريين الداخليين 7.2 مليون إنسان، إضافة إلى 6.2 مليون لاجيء مسجل لديها حول العالم.
وأشارت التقديرات الأممية إلى أن 12.9 مليون مواطن سوري يعانون انعدام الأمن الغذائي إثر الأزمة الاقتصادية، وأكثر من 90 في المئة من سكان سوريا دون خط الفقر، أما في ما يتعلق بتوزع اللاجئين السوريين على الدول فتستقبل تركيا 3.1 مليون لاجىء عاد منهم 25 ألفاً بعد سقوط النظام، وحل لبنان في المرتبة الثانية بقرابة 775 ألف لاجئ مسجل رسمياً، علماً أن لبنان يقدر وجود ضعف هؤلاء على أراضيه بفعل عدم تسجيل المقيمين منهم كافة، ناهيك عن رحيل أعداد كبيرة إثر الحرب الإسرائيلية على لبنان التي اندلعت في الـ 23 من سبتمبر (أيلول) 2024.
واحتضنت مخيمات الأردن ما يزيد على 628 ألف لاجئ سوري، ثم العراق بـ 286 ألفاً، تلته مصر بـ 157 ألفاً.
أما في أوروبا فتستقبل ألمانيا قرابة 717 ألف لاجئ سوري يسهمون في تحريك العجلة الاقتصادية ويشكلون شريحة نشطة وفاعلة من اليد العاملة، وهناك خشية من عودة جماعية لبلادهم.
وتستضيف النمسا 98 ألف لاجئ والسويد 87 ألفاً وهولندا 67 ألفاً واليونان 51 ألف سوري، علماً بأن فيينا أطلقت منحة بـ 10 آلاف يورو (10.414 دولار) للتشجيع على العودة الطوعية للاجئين.
موطن الجرح
"سعيدة بتحرير وطني سوريا، ولكن لا يمكن أن أفكر بالعودة للعيش فيها مجدداً"، وهذه العبارة هي خلاصة تجربة قاسية خاضتها الشابة السورية شهد سوادة (19 سنة) التي هربت من الموت المحقق بعد مهاجمة جيش النظام والشبيحة منزل العائلة في النزارية بريف حمص - القصير الواقعة على حدود الهرمل اللبنانية واعتقال شقيقيها اليافعين الذين اختفت آثارهما في سجون الأسد.
وتروي الشابة أنها "منذ 12 عاماً وثمانية شهور تحول منزلنا إلى ساحة حرب، وجاءت قوات النظام وأطلقت الرصاص بكثافة ووقتها كان عمري ستة أعوام، وما زلت أذكر المشهد بتفاصيله كافة وكأنه اليوم، ففي ذاك اليوم ولد في قلبي حقد لا ينتهي لهذا النظام المجرم، وحزن على فراق أشقائي محمد (17 سنة) وعلي (22 سنة)، فقد كنت أمسك بيد أخي وأختبئ خلفه، ولكنهم سحبوه وتركوني وحيدة"، مضيفة "هالني ما رأيت من تعذيب في سجون الأسد، وأدعو الله أن يكون قد جنب أشقائي كل هذا العذاب، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي يدفع فيه المجرم ثمن ما اقترفت يداه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستوطن الحزن قلب الشابة بعد اختفاء الأشقاء وكبتت داخلها القصة لأعوام، وتقول "كنت أخشى أن يسألني أحدهم عن وجود أشقاء لدي في سجون الأسد فأضعف وأنهار، كما أخشى أن يمر الزمن فأنسى تفاصيل وجوههم وصوتهم".
وانبعث الأمل بعودتهم لدى العائلة بعد هرب الأسد، ولكن مرت الأيام ولم تتلق العائلة أي خبر جديد عن شبانها مما زاد منسوب الألم لديهم، وتضيف شهد "كم تمنيت أن يستشهدوا على أن يذوقوا هول العذاب بهذه الطرق اللا إنسانية".
ومنذ أشهر هاجرت العائلة إلى إسبانيا من أجل بداية جديدة وتجزم أنها "لن تعود لسوريا لأنه لم يبق لدينا هناك لا مال ولا بنون ولا أثر لممتلكات، ووحده الجرح والذكريات المؤلمة باقية على رغم فرحة التحرير".
الدراسة أولاً
وجاء سقوط نظام البعث بعد مرور ثلاثة شهور على بدء العام الدراسي والجامعي في الدول المستضيفة، لذلك أصبحت الأولوية لدى شريحة كبيرة من الأهالي استكمال المسار التربوي للأبناء، وينطبق هذا الأمر على أسر الطلاب السوريين في لبنان الذين تطبعوا بالبيئة الحاضنة سواء على مستوى اللهجة أو نمط الحياة وطريقة التفكير والعلاقة مع النظام السياسي والاجتماعي في المهجر.
وتعتبر تجربة الشاب نضال الشيخ (18 سنة) واحدة من تلك التجارب، إذ يتطلع لزيارة مسقط رأسه في مدينة حمص للاطلاع على الأوضاع، لكنه في المقابل يريد إكمال مسيرته التعليمية في لبنان أو الخارج، إذ قدم أوراقه للحصول على منحة جامعية بسبب علاماته المرتفعة.
وجاء نضال إلى لبنان صغيراً وحمل في ذاكرته بقايا صور من مدينته وشوارعها، وفي داخله قصة جيل كامل من السوريين الذين نشأوا في لبنان ممن هربوا من الحرب تاركين منازلهم وأحلامهم وأجزاء من أرواحهم لبدء تجربة جديدة غنية بالتفاصيل.
ويسلط نضال الضوء على صراع الهوية لدى طفل يريد الحفاظ على جذوره السورية، ويتفاعل مع الثقافة اللبنانية التي تشكل امتداداً للمجتمع الأصيل، مشدداً على دور مقاعد الدراسة في فهم المجتمع والثقافة للبيئة الحاضنة واكتشاف القواسم المشتركة.
ويحدد نضال نظرته إلى لبنان "فهو لم يكن مجرد بلد استضافنا، بل أصبح جزءاً من هويتنا الجديدة، وهنا تعلمنا كيف نصمد ونبني علاقات عابرة للحدود، وأن نرى العالم بمنظور أكثر عمقاً، وبالنسبة إليّ فسيظل لبنان البلد الذي وقف إلى جانبي وأصبح جزءاً من قصتي حتى عند عودتي لسوريا، وسيبقى بيتاً لي ليس كلاجئ وإنما كابن".
وفي الموازاة يبقى هناك حنين يشد الشاب نضال إلى موطنه الأم سوريا، ويقول "نحن جيل الشتات حملنا الوطن في قلوبنا، ومهما ابتعدنا ستبقى سوريا جزءاً منا، فهي أرض بذلت فيها الدماء، واحتضنت أجيالاً كاملة من أهلينا، لذا فإن العودة للوطن ليست مجرد خطوة جغرافية بل هي رحلة نفسية وروحية لجيل يكبر بين ثقافتين".
نحن أبناء لبنان
خلال 13 عاماً من اللجوء احتضن لبنان كثيراً من المواهب السورية والأعمال الناشئة، إذ يُنظر إلى الشاب السوري على أنه عامل مجتهد وتاجر موهوب، ويعيش هؤلاء صراعاً حقيقياً بين العودة لمسقط رأسهم أو البقاء في البلاد التي أمّنت أمامهم بيئة للاستثمار.
ومع بدء موجة النزوح إلى لبنان جاء عبدالباسط عبدالغني طالباً جامعياً، واليوم بعد مرور كل تلك الفترة أصبح رائداً من رواد الأعمال، ويقول الشاب الثلاثيني "بعد سقوط النظام ذهبت إلى سوريا وعاينت حجم الدمار، وأعتقد أن هناك فرصاً جيدة للاستثمار بسبب الحركة التجارية النشطة، لكنني أعيش صراعاً حقيقياً بسبب العائلة التي فتحت أعينها على المجتمع هنا".
ويتحدث الشاب عن انتماء نفسي إلى لبنان، وقد أسهمت الدراسة في الاندماج أكثر فأكثر في المجتمع، مؤكداً "في البداية كان لدى الطلاب والأساتذة نظرة سلبية إلى الشباب السوري، لكن مع الوقت اكتشفوا أننا أصحاب قيم وأخلاق وغابت معايير التمييز".
ويضيف أنه "بعد التخرج وتأسيس الأسرة أصبح لبنان حاضناً للأعمال والتجارة، ومرتعاً لتربية وتعليم الأطفال وفق المناهج التربوية اللبنانية التي تعتمد النظام الأجنبي"، موضحاً أنه "مع سقوط النظام وتبدد النظرة الدونية للجواز السوري دخلنا في صراع، فأين نستقر، في لبنان أم سوريا؟ أصبح مجتمعي لبنانياً، فزوجتي لبنانية وعلاقاتنا كلها ضمن هذه البيئة، ناهيك عن أن الانتقال إلى سوريا الآن معناه تأسيس حياة جديدة على مستوى التجارة والتعليم، وبالتالي من غير المستبعد أن تتكرر زيارات سوريا من أجل الاطمئنان على الأهل، وحفظ الروابط مع أصدقائنا".
ويخلص إلى أنه "حتى في حال قررنا مغادرة لبنان فلن نتمكن من التكيف سريعاً من دون أصدقائنا وأهلنا وتلك التفاصيل اليومية"، معتبراً أن "العودة للوطن ستعني ترك وطن آخر عشت وأسست فيه عائلة وأخشى أن نشعر مجدداً بالغربة".
صراع متعدد الأبعاد
وستحفر حقبة اللجوء عميقاً في الهوية الثقافية والاجتماعية للأجيال السورية المقبلة ومستقبل البلاد، وتقول أستاذة الأنثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية مهى كيال إن "تغيير الهوية يستغرق ثلاثة أجيال، وهذا لم يحدث بعد داخل المجتمع السوري اللاجئ لأن جيل الآباء لا يزال حاضراً ومؤثراً، لكن بالتأكيد هناك تبدل كبير سيطرأ"، مشيرة إلى "تأثير مباشر للمدارس ذات الثقافة المختلفة عن تلك التي في سوريا، كما أنهم تعلموا لغات مختلفة ومنظومة قيم متحررة".
وتعتقد كيال أن "المجتمع السوري سيتغير بالفعل، وسيشهد تحولات هائلة على مستوى التنوع الثقافي، كما سنلاحظ الاختلافات داخل العائلة الواحدة على ضوء بلاد اللجوء"، مضيفة "لن نجد اختلافاً بين أولئك الموجودين في لبنان وسوريا، وإنما فارقاً عميقاً سيظهر بين من لجأ إلى بلاد عربية أو بقي في سوريا، ومن قضى تلك الفترة ضمن دولة أوروبية مثل فرنسا أو ألمانيا أو السويد، واكتسبوا عادات وسمات مختلفة جذرياً عن تلك القائمة في البلد الأم، كما أن التأثير يكون ملحوظاً لدى الأطفال والمراهقين، وأقل وضوحاً لدى كبار السن الذين يظهرون تمسكاً شديداً بالعادات والتقاليد".
وتتحدث كيال عن حصول تثاقف مع اتجاه المجتمع السوري نحو مزيد من الانفتاح نتيجة اكتساب عادات وتقاليد جديدة من الدول التي لجأ لها هؤلاء لمدة تزيد على العقد خارج النطاق السوري الضيّق، مما يجعل المجتمع السوري أكثر غنى، موضحة أن "من يعيش في مناطق جديدة لمدة محددة من الزمن يحتفظ بهويته الأصلية، لكن في الوقت نفسه يكتسب عناصر ثقافية جديدة من البلد الجديد لأن عملية التثاقف مستمرة طوال الحياة في عصر الهويات السائلة".
وتتوقع كيال "تحولات كبيرة لدى المجتمع السوري وتغيرات سريعة وتبدلات ديمغرافية حتى على مستوى العلاقات الأسرية، مع إمكان نشوء صراعات داخل الجماعات ذات الضبط العائلي المرتفع أو تلك القرى التي لجأ أبناؤها إلى مدن حديثة، حيث سيسعى هؤلاء في حال العودة إلى العيش في المدن والابتعاد من القرى، ناهيك عن احتمال عدم العودة لدى كثيرين على غرار ما جرى في التجربة اللبنانية بعد الحرب الأهلية لأنهم أسسوا حياة جديدة هناك، وأثبتوا وجودهم في بلاد اللجوء واندمجوا داخلها، ومن هذا المنطلق يفترض من الحكم الجديد التعاطي بمرونة مع المجتمع على خلاف النظام القديم الذي فرض أنماطاً محددة ومتوافقة مع مصالحه الخاصة، لأنه في حال عدم اتباع مسلك منفتح مع الشباب فقد نشهد موجات هجرة جديدة".