ملخص
بُني المسجد الأموي منذ عام 1200 قبل الميلاد، وكان كاتدرائية، ثم وسَّعه الأمويون وحوَّلوه إلى مسجد بعد تقديم تعويضات للمسيحيين، واهتم به العباسيون والسلاجقة والعثمانيون والفرنسيون، ونقش حافظ الأسد اسمه عليه، ثم مارست فيه إيران طقوساً طائفية، قبل أن يؤدي فيه رئيس الاستخبارات التركية صلاة الجمعة بعد سقوط بشار الأسد
لا تنفك دمشق عن مسجدها العريق الذي يتوسطها ويعد بمثابة جوهرة تاريخية تحمل في جدرانها أنفاس الزمن وروح الحضارات المتعاقبة، المسجد الأموي أو مسجد بني أمية الكبير، أو الجامع، أو مسجد دمشق، بتسمياته المختلفة، هو أكثر من مجرد بناء، وإنما قصيدة شعرية حفرت في الحجر، وسيمفونية من الرخام والزخرف للعزف، كلما سرت أمتاراً في باحته ستشعر أنك سافرت عبر القرون، فتحدثك فسيفساء الجنة فيه عن أمم مرت من هنا، ثم ترى الأعمدة الرخامية الشامخة كأجنحة الملائكة، تتوسطها قبة النسر في حرم المسجد، والتي تعطى تحتها الدروس وحلقات العلم للطلبة.
مسجد دمشق لا يقتصر نشاطه على العبادة، فتحدثك أروقته عن مصلين وعلماء وفلاسفة، وتجار وطلاب، وحتى رهبان وقادة، فيمكن القول إنه "عابر للأديان" بداية من تاريخ المسجد الأموي منذ التأسيس وحتى اليوم.
تاريخ يمتد إلى 32 قرناً
على غرار عجائب الدنيا السبع هناك ما يسمى "عجائب الإسلام السبع"، إحداها المسجد الأموي، الذي لم يكن بناؤه وليد الدولة الأموية في دمشق، وإنما يعود تاريخه إلى نحو عام 1200 قبل الميلاد عندما كانت مدينة دمشق (أقدم عاصمة في التاريخ)، عاصمة لدولة "آرام دمشق" خلال فترة العصر الحديدي، كان الآراميون في غرب سوريا يعبدون ما يسمى "إله الرعد والمطر"، فأقاموا معبداً لهم في الموقع الحالي للمسجد الأموي، وكان البناء يتبع النموذج المعماري الكنعاني التقليدي، ويتألف هذا المعبد من غرفة للعبادة يحيط بها فناء له سور.
وإلى يومنا هذا يوجد في متحف دمشق الوطني حجر من المعبد الآرامي المذكور، وبقي هذا البناء معبداً للآراميين لما يقارب 1300 سنة، حتى استولى الرومان على مدينة دمشق سنة 64 للميلاد، فقام المهندس الروماني ذو الأصول العربية "أبولودوروس الدمشقي"، بتوسعة المعبد الآرامي مع الحفاظ على هندسته الأصلية، وأصبح يعرف لاحقاً باسم "معبد جوبيتر"، وهناك معبد آخر في لبنان يحمل الاسم نفسه.
بقي وضع المعبد كما هو عليه حتى سنة 391 ميلادية، عندما أصدر الإمبراطور ثيودوسيوس الأول قراراً بتحويله إلى كاتدرائية القديس يوحنا، وبحسب بعض روايات الكتب الدينية المسيحية فإن القديس يوحنا هو نفسه النبي يحيى المدفون في المسجد الأموي، وإلى اليوم هناك قبر كبير داخل المسجد الأموي يزوره الناس على أنه "قبر النبي يحيى عليه السلام".
الأمويون في دمشق
بعد ظهور الإسلام وتوسُّعه من الجزيرة العربية تجاه بلاد الشام، فرض القائد الإسلامي خالد بن الوليد حصاراً على مدينة دمشق عام 634 ونجح في الدخول إليها بعد الاتفاق مع سكانها على تجنب الحرب، ثم تغير تاريخ دمشق كلياً بعد بدء فترة حكم الأمويين الذين نقلوا العاصمة الإسلامية من المدينة المنورة إلى دمشق، وعلى رغم ذلك بقي المسيحيون يمارسون شعائرهم في الكاتدرائية البيزنطية حتى عام 706 للميلاد، عندما أمر الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، ببناء مسجد في موقع الكاتدرائية.
بناء مسجد في موقع الكاتدرائية أثار سخط الرعايا المسيحيين في دمشق، فقرر الوليد حل القضية بالطرق الودية، لذلك أمر بإعادة جميع الكنائس الموجودة في دمشق، والتي كانت مصادرة، للمسيحيين لتعويضهم عن هدم جزء كبير من الكاتدرائية وتحويلها إلى مسجد، لكن الوليد مات قبل أن يتم الانتهاء من بناء المسجد الجديد، وفي سنة 715 اكتمل التشييد في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك، وسمي مسجد دمشق الجديد "مسجد بني أمية الكبير"، وبحسب كتاب "مختصر كتاب البلدان" للمؤرخ الإسلامي ابن الفقيه الهمداني، فقد شارك في بناء المسجد أكثر من 12 ألف عامل، جزء كبير منهم من الهند واليونان وبلاد فارس، إضافة إلى مهندسين أقباط، وخلال البناء الجديد تم الحفاظ على "قبر النبي يحيى" كما هو.
تدمير المسجد في عهد الفاطميين
مع إعلان قيام الدولة العباسية على أنقاض الأمويين نقل العباسيون العاصمة من دمشق إلى بغداد، وكان هناك توجه لدى الدولة العباسية بمحو كل ما له صلة بأسلافهم الأمويين، لكن مسجد دمشق نجا من التغيير، وحافظ العباسيون عليه وعلى اسمه، بل وبنوا فيه قبة جديدة في القسم الشرقي، كما بنوا "مئذنة العروس" في المسجد، لكنهم أزالوا منه النقوش الأموية.
وفي عام 970 استولى الفاطميون القادمون من مصر على مدينة دمشق، لكنهم سمحوا للمسلمين السنة بمواصلة ممارسة شعائرهم في المسجد الأموي، لكن لاحقاً قامت ثورة شعبية ضد الفاطميين تسببت في حرق وتدمير أجزاء كبيرة من المسجد، وفي عام 1078 تمكن السلاجقة الأتراك من طرد الفاطميين من دمشق، وأمر الملك السلجوقي تتش بن ألب أرسلان بإصلاح الأضرار التي أصابت المسجد في عهد الفاطميين، وتم أيضاً في عهده تجديد الفسيفساء الأموية الأصلية الموجودة في المسجد.
المغول والعثمانيون
في عام 1260 استولى المغول على دمشق ومسجدها، وأمر أمير أنطاكيا بوهيموند السادس بإقامة القداس الكاثوليكي في المسجد الأموي، وفي العام نفسه تمكن المماليك بقيادة الظاهر بيبرس وسيف الدين قطز من استعادتها.
بقي المسجد الأموي تحت سيطرة المماليك حتى عام 1516 عندما حصلت معركة مرج دابق بين المماليك والعثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول، الذين انتصروا على المماليك، وبعد الانتصار مباشرة حضر السلطان سليم أول صلاة جمعة في دمشق بالمسجد الأموي.
أولى العثمانيون للمسجد الأموي أهمية خاصة، فخصصوا 596 شخصاً للعمل في "الوقف" التابع للمسجد، ونفذوا عمليات إصلاح وتزيين عدة للمسجد.
وفي عام 1893 نفذ العثمانيون عملية إعادة ترميم كاملة للمسجد، وأثناء عملية الترميم كان أحد العمال يقوم بتدخين "النرجيلة"، فتسبب ذلك باندلاع حريق كبير في المسجد، أدى إلى تدمير معظم الفسيفساء والألواح الرخامية، كما دمر النسيج الداخلي لقاعة الصلاة وتسبب في انهيار القبة الوسطى للمسجد، وبقي المسجد تحت إشراف العثمانيين شأنه في ذلك شأن دمشق حتى عام 1918.
العهد الفرنسي
بعد فرض الانتداب الفرنسي على سوريا كان المسجد الأموي ساحة للتظاهر في كل يوم جمعة ضد السلطات الفرنسية، وكان الفرنسيون يواجهون التظاهرات في الأماكن الأخرى، لكن طوال فترة وجودهم في سوريا لم يقتحموا المسجد الأموي، نظراً إلى مكانته ولما قد يسببه الأمر من انتفاضة كبرى، كما خضع المسجد الأموي لترميمات كبرى خلال فترة الانتداب الفرنسي، استمرت هذه الترميمات حتى عام 1963، وتوقفت بعد انقلاب حزب البعث في الثامن من مارس (آذار) 1963.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في تسعينيات القرن الماضي أجرى رئيس النظام السوري السابق حافظ الأسد بعض عمليات الترميم في المسجد الأموي، ونقش اسمه على جدار المسجد الخارجي قبل أن يتم تحطيم هذه النقوش منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2024، بعد أيام من سقوط حكم حزب البعث.
وفي عام 2001 أجرى البابا يوحنا بولس الثاني زيارة للمسجد الأموي، لرؤية آثار مقام يوحنا المعمدان (النبي يحيى)، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها البابا بزيارة إلى مسجد.
المواصفات المعمارية
أرضية المسجد الأموي مستطيلة الشكل، عرضها 97 متراً بطول 156 متراً، محاط بأربعة جدران ضخمة لها أروقة مدعومة بأعمدة حجرية، وتتكون المساحة الداخلية من الحرم من ثلاثة أروقة موازية لاتجاه القبلة نحو مكة المكرمة، فيما ينقسم الجناح المركزي في الأروقة إلى نصفين، ويتكون من 11 قوساً، أما حرم المسجد فهو أيضاً مستطيل الشكل بعرض 37 متراً وطول 136 متراً، ويوجد في فناء المسجد ثلاث قبب، هي قبة الخزنة التي أنشأها العباسيون بهدف خزن أموال المسجد، وقبة الوضوء التي أنشأها أيضاً العباسيون وانهارت في زلزال 1759، ثم أعاد العثمانيون بناءها، والقبة الثالثة هي قبة الساعات أنشأها العثمانيون وجعلوا منها مركزاً للتوقيت.
يوجد في مسجد بني أمية الكبير أربعة محاريب، هي الخطيب والحنفية والحنابلة وواجهة الحرم، ويتوسط المسجد قبة النسر الشهيرة التي بناها الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، وهي أكبر قبب المسجد، تقع فوق مركز قاعة الصلاة، قطرها 16 متراً بارتفاع 45 متراً، وتسمى أيضاً قبة الرصاص.
ويحيط بالمسجد ثلاث مآذن هي مئذنة العروس، وهي أول مئذنة بُنيت، ولا يعرف بصورة دقيقة متى بُنيت وسط ترجيحات بأنها بُنيت في العهد الأموي وجددها العباسيون، ومئذنة عيسى التي تقع في الزاوية الجنوبية الشرقية للمسجد الأموي، ويبلغ ارتفاعها نحو 77 متراً، وهي أطول المآذن الثلاث، بناها العباسيون في القرن التاسع، وحتى القرن الـ12 كانت واحدة من أطول خمسة أبنية حول العالم، وسميت باسم "مئذنة عيسى" بسبب اعتقاد شعبي بأن النبي عيسى سينزل في آخر الزمن، أما المئذنة الثالثة فهي مئذنة قايتباي، بناها السلطان المملوكي قايتباي عام 1488، بنيت على النموذج المعماري المصري.
المشاهد والبئر
وسط المسجد الأموي يوجد 4 صالات واسعة، تسمى "المشاهد"، تستعمل لأغراض إدارية وأمور أخرى تتعلق بالمسجد، المشهد الأولى يسمى "مشهد أبي بكر الصديق"، ويستعمل حالياً كمتحف خاص بالمسجد، والثاني هو "مشهد عمر بن الخطاب"، وهو المقر الرئيس لإدارة المسجد، أما المشهد الثالث فهو "مشهد عثمان بن عفان"، ويستعمل قاعة شرف لاستقبال كبار الضيوف، ورابع المشاهد هو "مشهد علي والحسين"، ويحوي مزار ومقام رأس الإمام الحسين بن علي، وقد غلبت عليه تسمية مشهد الحسين، ويزوره سنوياً عشرات الآلاف من الطائفة الشيعية، كما يحوي المسجد الأموي على بئر، وهو من أقدم منشآت الجامع، أمر بحفره الوليد بن عبدالملك بهدف تزويد المصلين بمياه الوضوء والشرب.
الأبواب الأربعة
لمسجد دمشق أربعة أبواب كبيرة، على الحائط الشرقي يقع باب جيرون، ويقابله حي النوفرة الشهير وسط دمشق القديمة، والثاني هو باب العمارة، يقع على الحائط الشمالي تحت مئذنة العروس، ويسمى أيضاً "باب الكلاسة" لأنه يقابل حي الكلاسة، أما الباب الثالث فهو "باب بريد" يقع على الحائط الغربي مقابل ساحة المسكية، والباب الرابع هو "باب الزيادة"، يقع على الحائط الجنوبي مقابل سوق الصاغة.
المسجد الأموي في عهد "البعث"
يعد المسجد الأموي رمزاً إسلامياً مهماً ومؤثراً، لذلك اهتم النظام السوري السابق بالمسجد وعين فيه الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي خطيباً، وهو أحد أهم علماء العالم الإسلامي، ومعروف بقربه من حافظ الأسد، وبعد اندلاع الثورة السورية، اتخذ الشيخ البوطي موقفاً ضد الثورة لمصلحة النظام، وأثنى من على منبر الأموي على دور روسيا والصين في "دعم سوريا" سياسياً، كما اتهم المتظاهرين بأن "جباههم لا تعرف السجود"، وفي الـ21 من مارس (آذار) 2013 قتل البوطي في تفجير بدمشق، دون معرفة من يقف وراء هذا الهجوم حتى لحظة إعداد هذا التقرير.
بعد مقتل البوطي تناوب على خطابة المسجد الأموي عدد من الخطباء غالبيتهم من مؤيدي النظام السوري، منهم توفيق البوطي، نجل الشيخ سعيد البوطي، لكن لاحقاً تم تعيين مأمون رحمة خطيباً للمسجد حتى عام 2019، وكان رحمة من أكثر الناس غلواً في تمجيد النظام السابق، إذ كان يحمل علم النظام على المنبر الأموي، وقال في إحدى خطبه إنه "يجب نقل الحج من مكة المكرمة إلى جبل قاسيون كي لا تستفيد السعودية من أموال المسلمين كونها لا تدعم النظام السوري". ودعا في خطبة أخرى إلى "تقبيل أحذية عناصر الميليشيات الإيرانية "لأنهم يدافعون عن سوريا".
وفي آخر خطبة له في المسجد الأموي قال مأمون رحمة، إن "الوقوف في طوابير على محطات الوقود بمثابة رحلة ترفيهية، ويجب على الشعب السوري الصمود أكثر"، مما أثار سخرية واسعة وغضباً وسخطاً لدى الشارع السوري بعد تحويل منبر المسجد الأموي إلى أشبه بمحطة دعائية ساخرة لحزب البعث لتقوم وزارة أوقاف النظام بعزله من الخطابة، وفي 2023 توفي مأمون رحمة تاركاً أثراً سيئاً في أعين السوريين بمن فيهم المؤيدون للنظام السوري، كونه كان يدعم النظام بطرق ساخرة وفي خطب المسجد الأموي.
المنافسة الإيرانية - التركية
كثيراً ما اعتادت إيران على استحضار التاريخ، وإحياء ما يسمى "الجبهة الحسينية"، وبسبب تحالفها الوثيق مع النظام السابق في سوريا، فقد فُتح المسجد الأموي أمام الإيرانيين من أوسع أبوابه، فكانوا يمارسون طوال السنوات الماضية طقوس اللطم والتطبير في ساحات المسجد من دون إمكانية منعهم من ذلك، كما وصف ناشطون سوريون ما فعلته إيران بالمسجد الأموي بأنها حولته إلى "حسينية كبرى"، نظراً إلى العداء الذي تكنه إيران للدولة الأموية التي اختفت منذ سنة 749 للميلاد.
وبعد سقوط النظام اختفت المناظر الطائفية من المسجد الأموي على الفور، وبعد أيام قليلة زار رئيس جهاز الاستخبارات التركية إبراهيم كالن المسجد الأموي، وصلى فيه صلاة الجمعة الأولى بعد سقوط الأسد، في إشارة يقول مراقبون إنها رسالة من تركيا بأنها "انتصرت على إيران".