ملخص
لم تكن جميع سياسات الرئيس الـ39 للولايات المتحدة فاشلة فقد نجح كارتر في تمرير معاهدات قناة بنما على رغم معارضة المحافظين، ما وضع الممر المائي الحساس اقتصادياً وإستراتيجياً تحت السيطرة البنمية، التي كانت خطوة كبيرة نحو تحسين العلاقات الأميركية مع جيرانها في أميركا اللاتينية، كما وقع كارتر على معاهدة الحد من الأسلحة النووية (سالت 2) مع السوفيات، لكنه سحبها قبل التصديق عليها في مجلس الشيوخ عندما غزت القوات السوفياتية أفغانستان.
أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن اليوم الاثنين أمراً تنفيذياً بإغلاق الوكالات الحكومية والإدارات التنفيذية في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل في بادرة لإبداء الاحترام وتكريم الرئيس السابق جيمي كارتر الذي توفي الأحد.
وبعد 100 عام عاشها كأطول الرؤساء عمراً في التاريخ الأميركي، ترك جيمي كارتر الحائز جائزة نوبل للسلام، إرثاً إنسانياً عالمياً يختلف عن بقية رؤساء أميركا، فقد أصبح معروفاً بدبلوماسيته وأعماله الخيرية وسعيه إلى إحلال السلام حول العالم بعدما طغت على فترة ولايته الرئاسية الوحيدة سمات الاضطراب السياسي والاقتصادي، لكن كارتر ترك بصمة مضيئة في منطقة الشرق الأوسط عندما لعب دوراً فعالاً لإرساء اتفاقية كامب ديفيد التي مهدت الطريق لأول اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، كما دعا عام 2016 إلى اعتراف الولايات المتحدة بدولة فلسطينية، فما الذي جعله واحداً من أعظم الرؤساء الأميركيين على رغم عثراته وسوء حظه؟
أعوام الاضطراب
عندما غادر جيمي كارتر العاصمة الأميركية واشنطن في يناير (كانون الثاني) عام 1981 بعد أربعة أعوام من الحكم في البيت الأبيض، كان يُنظر إليه باعتباره رئيساً فاشلاً بعدما أحاطت به سلسلة من الأخطاء التي حدثت أثناء رئاسته، ولم تكن جميعها خطأه، فقد انتقد خصومه سياساته الاقتصادية مع الركود التضخمي للولايات المتحدة أي انخفاض النمو وارتفاع التضخم، الذي ظهر جلياً في صيف عام 1979، حينما انتظر الأميركيون في طوابير طويلة بمحطات الوقود بسبب تناقص إمدادات البنزين وارتفاع الأسعار بعدما أدت الثورة في إيران إلى تعطيل إمدادات النفط العالمية.
وحينما أطلق كارتر مبادرة للاستعاضة بالطاقة النووية وحقق بعض النجاح، تداخلت أحداث خارجة عن سيطرته، إذ انهارت وحدة من محطة طاقة نووية في بنسلفانيا في مارس (آذار) 1979 في حادثة هي الأسوأ على الإطلاق في صناعة الطاقة النووية بالولايات المتحدة، وكانت بمثابة انتكاسة شديدة لآماله في أن توفر الطاقة النووية بديلاً آمناً للنفط.
ولم تكن حظوظ كارتر أفضل في الخارج، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 1979، استولت مجموعة من الطلبة الإيرانيين المدفوعين من النظام على السفارة الأميركية لدى طهران، واحتجزوا 52 أميركياً كرهائن، وكانت تلك بداية محنة استمرت 444 يوماً، ظلت تُبث يومياً على شاشات التلفزيون الأميركي ولم تنته إلا بعد آخر يوم له في البيت الأبيض ووصول رونالد ريغان إلى الحكم في الـ20 من يناير (كانون الثاني) 1981، مما أثار الشكوك في وجود مؤامرة خفية أدارها ريغان من خلف الستار مع الإيرانيين للقضاء على حظوظ كارتر مقابل منح طهران صفقة أفضل اتضحت في ما بعد مع فضيحة "إيران – كونترا" التي حصلت إيران بمقتضاها على السلاح من إسرائيل لمحاربة الرئيس العراقي صدام حسين، بينما ذهبت أموال الصفقة إلى متمردي الكونترا في نيكاراغوا لإسقاط حكومة ساندنيستا اليسارية المناوئة للولايات المتحدة في بداية الثمانينيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي خضم أزمة الرهائن، وافق كارتر على محاولة إنقاذ عسكرية في أبريل (نيسان) 1980، انتهت بصورة كارثية في الصحراء الإيرانية عندما اصطدمت طائرتان أميركيتان، مما أسفر عن مقتل ثمانية أميركيين، واستقال وزير الخارجية سايروس فانس، الذي عارض المهمة.
وفي عام 1979 غزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان لدعم الحكومة اليسارية هناك، وحينما أمر كارتر بحظر مبيعات الحبوب إلى الاتحاد السوفياتي، أثار غضب المزارعين الأميركيين، كما أدى قراره مقاطعة الولايات المتحدة للألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1980 في موسكو، إلى استياء شعبي لدى عدد من الأميركيين الذين اعتبروا استجابته ضعيفة وغير فعالة أمام السوفيات.
نقاط مضيئة
لم تكن جميع سياسات الرئيس الـ39 للولايات المتحدة فاشلة فقد نجح كارتر في تمرير معاهدات قناة بنما على رغم معارضة المحافظين، مما وضع الممر المائي الحساس اقتصادياً وإستراتيجياً تحت السيطرة البنمية، التي كانت خطوة كبيرة نحو تحسين العلاقات الأميركية مع جيرانها في أميركا اللاتينية، كما وقع كارتر على معاهدة الحد من الأسلحة النووية (سالت 2) مع السوفيات، لكنه سحبها قبل التصديق عليها في مجلس الشيوخ عندما غزت القوات السوفياتية أفغانستان.
واستغل كارتر الانفتاح الذي أحدثه الرئيس ريتشارد نيكسون، فمنح الصين الاعتراف الدبلوماسي الكامل، كما جعل حقوق الإنسان موضوعاً مركزياً للسياسة الخارجية الأميركية، مما يشكل انحرافاً حاداً عن نهج نيكسون ومستشاره للأمن القومي ووزير خارجيته الثاني هنري كيسنجر.
وفي عهد كارتر استحدثت وزارتان جديدتان هما الطاقة والتعليم فضلاً عن إنشاء صندوق لتنظيف مواقع النفايات السامة، وأقر قانوناً ضاعف من حجم الأراضي الخاضعة للمتنزهات الوطنية ومحميات الحياة البرية ومنها نحو 100 مليون فدان في ولاية ألاسكا.
أهم انتصاراته
غير أن أبرز انتصارات كارتر ظهرت في لحظة فاصلة من تاريخ الشرق الأوسط حين أثارت احتمالات التوصل إلى هدنة بين دولتين كانتا في حال حرب لعقود من الزمان شهية كارتر للتدخل الحاسم، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1977، طار الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل ودعا إلى السلام في خطاب ألقاه أمام الكنيست، لكن في غضون أسابيع، وصلت المحادثات إلى طريق مسدود، وبعد بضعة أشهر، وبسبب إحباطه من عدم إحراز تقدم، طرح السادات إمكانية قطع الاتصال المباشر مع الإسرائيليين، ليأتي طوق النجاة بعقد مفاوضات مباشرة من خلال مبادرة أطلقها الرئيس جيمي كارتر.
دعا كارتر السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين إلى قمة في منتجع كامب ديفيد الرئاسي بولاية ميريلاند، وعرض وساطته، وعندما اجتمع الزعماء الثلاثة في سبتمبر (أيلول) 1978، وصلت المفاوضات بسرعة إلى طريق مسدود، لكن إصرار كارتر هو الذي أبقى المحادثات مستمرة 13 يوماً، حيث ظل مع مساعديه يتنقلون بوثيقة مسودة واحدة بين الجانبين حتى تم التوصل في النهاية إلى إطار معاهدة عُرفت في ما بعد باسم اتفاقات كامب ديفيد التي حددت انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء وعودتها على ثلاث مراحل إلى مصر، كما حددت مسار الحكم الذاتي الفلسطيني في غزة والضفة الغربية.
ساعد الاتفاق بيغين والسادات في الفوز بجائزة نوبل للسلام عام 1978 بينما لم يُدرَج اسم كارتر في القائمة بسبب خطأ فني حيث لم يتم ترشيحه في الوقت المناسب، لكنه فاز بالجائزة عام 2002 لإنجازاته في كامب ديفيد وغيرها من الجهود السلمية التي أسهم بها بعد رئاسته.
وقبل التوصل إلى اتفاق نهائي للسلام، كان على كارتر أن يلعب دور الوسيط مرة أخرى، فسافر إلى القاهرة والقدس وفي مارس 1979، تم توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في البيت الأبيض، مما أكسب كارتر الاعتراف به كصانع سلام، ووضعه على المسار الصحيح لدور الدبلوماسي الدولي الذي تبناه بعد خسارته الفوز بولاية رئاسية ثانية وترك منصبه في عام 1981.
دعمه للاعتراف بدولة فلسطينية
وحتى بعدما ترك منصبه الرئاسي، ظل كارتر ضاغطاً من أجل اعتراف الولايات المتحدة بالدولة الفلسطينية، ففي الأيام الأخيرة من إدارة باراك أوباما، حث كارتر الرئيس على منح الاعتراف الدبلوماسي بالدولة الفلسطينية ومساعدتها على تحقيق العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وشرح كارتر وجهة نظره بأن إسرائيل تبني مزيداً من المستوطنات، وتشرد الفلسطينيين وتعزز احتلالها للأراضي الفلسطينية حيث يعيش أكثر من 4.5 مليون فلسطيني، لكنهم ليسوا مواطنين إسرائيليين ويعيش معظمهم إلى حد كبير تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، ولا يصوتون في الانتخابات الوطنية الإسرائيلية بينما يتمتع نحو 600 ألف مستوطن إسرائيلي في فلسطين بفوائد المواطنة والقوانين الإسرائيلية.
حينذاك، حذر كارتر من أن هذه العملية تعجل بواقع الدولة الواحدة الذي قد يدمر الديمقراطية الإسرائيلية، وسوف يؤدي إلى تكثيف الإدانة الدولية لإسرائيل، معرباً عن يقينه بأن اعتراف الولايات المتحدة بدولة فلسطينية من شأنه أن يسهل على الدول الأخرى التي لم تعترف بفلسطين أن تفعل ذلك، وأن يمهد الطريق أمام قرار من مجلس الأمن في شأن مستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
قوة النجومية
وعلى رغم اتهام كارتر بالفشل في كثير من النواحي السياسية والاقتصادية، فإنه يعد أيضاً واحداً من أعظم الرؤساء الأميركيين السابقين، وذلك لاستخدامه قوة النجومية المتبقية من منصبه لمساعدة خلفائه وبلاده كصانع سلام، ودبلوماسي من خلف الكواليس، ومدافع عن حقوق الإنسان، ومراقب للانتخابات، ومناصر للمشردين، وهو ما عكسته تصريحات الرئيس جو بايدن في كلمة وجهها للشعب الأميركي عقب الإعلان عن وفاته بأنه نموذج لما يعنيه أن تعيش حياة ذات معنى وهدف، حياة ذات مبدأ وإيمان وتواضع مما جعل الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، يشعرون أنهم فقدوا صديقاً أيضاً، على رغم أنهم لم يلتقوا به أبداً.
دامت فترة ما بعد رئاسة جيمي كارتر أكثر من 43 عاماً، وهي أطول فترة قضاها أي رئيس أميركي سابق، لكن ما حشده الرئيس الـ39 خلال تلك الأعوام، جعله مميزاً إلى الأبد، وسواء كان يبني مساكن للفقراء في الولايات المتحدة وخارجها، أو يراقب الانتخابات في أكثر بلدان العالم اضطراباً، أو يتصدى للقضاء على مرض استوائي كان يصيب الملايين من الناس، فقد عاش كارتر قناعاته كرجل لديه التزام أخلاقي بمنع المعاناة أينما كانت كما قال هو بنفسه أمام البرلمان البريطاني.
صانع سلام
نال كارتر إعجاباً دولياً، للدور الفريد الذي صاغه في نطاق عمله الإنساني في جوهره، كما اكتسب صفته كصانع سلام بالطريقة الصعبة، ففي عام 1994 تمكن من نزع فتيل أزمة تختمر في كوريا الشمالية في شأن برنامجها للأسلحة النووية على رغم أن تدخله تسبب في إثارة الذعر والجدل في الولايات المتحدة.
وفي هايتي، ساعد في إنهاء المواجهة مع القادة العسكريين للحكومة وتجنب الغزو الأميركي، وقبل أيام قليلة من عيد الميلاد، سافر إلى البلقان وتفاوض على وقف إطلاق النار لمدة أربعة أشهر في حرب البوسنة التي أدت بالفعل وسط الصراعات العرقية في يوغوسلافيا السابقة إلى مقتل عشرات الآلاف من الناس ونزوح مئات الآلاف.
إساءة فهم كارتر
مع مرور الأعوام، أفسح الحكم على رئاسة كارتر المجال تدرجاً لوجهة نظر أكثر إيجابية في شأنه، فقد عاش طويلاً بما يكفي ليرى سجله يبرره التاريخ إلى حد كبير مع الاعتراف الواسع بأن رئاسته كانت أكثر من مجرد طوابير طويلة في محطات الوقود وفشل تحرير الرهائن الأميركيين في إيران، فقد تحدث كتابان صدرا مع قرب نهاية حياة كارتر، عن سيرة حياته الذاتية باعتباره رئيساً أكثر أهمية مما أدركه معظم الناس، ووصفه المؤلف جوناثان ألتر في كتابه الصادر عام 2020 تحت عنوان "حياة جيمي كارتر – أفضل ما لديه" بأنه "ربما كان أكثر الرؤساء الذين أسيء فهمهم في التاريخ الأميركي"، بينما أشار كتاب آخر صدر عام 2021، تحت عنوان "رئاسة جيمي كارتر غير المكتملة" إلى أن كارتر كان غالباً متقدماً على عصره، وبخاصة مع تركيزه المبكر على الحد من استخدام الوقود الأحفوري وجهوده للتخفيف من الانقسام العنصري في الولايات المتحدة من خلال زيادة عدد الأشخاص الملونين الذين عينهم في مناصب القضاء الفيدرالية.
وخلصت هذه السير الذاتية إلى أن سمعة كارتر كرئيس محدود الإنجازات كانت غير عادلة، ونبعت إلى حد كبير من إصراره العنيد على القيام بما يعتقد أنه صحيح حتى عندما كلفه ذلك سياسياً، إذ أصر على إخبار الأميركيين بما هو خطأ وما قد يتطلبه الأمر لتحسين الأمور، لكن بالنسبة إلى معظم الأميركيين، كان من الأسهل وصفه بأنه "فشل" بدلاً من التعامل مع المشكلات الصعبة.