ملخص
يبقى السؤال الأهم في منصات التواصل الاجتماعي وهو "كيف تطلّب تعديل مناهج مكونة من آلاف الصفحات بضعة أيام فقط، بينما كتابة دستور تحتاج إلى ثلاثة أعوام بكاملها؟".
أثارت تعديلات أجرتها وزارة التربية في الإدارة السورية الجديدة على بعض المواد التعليمية جدلاً بالبلاد، في حين أعلن وزير التربية اليوم الخميس أن تلك التغييرات تهدف فقط إلى حذف "ما يمجد النظام السابق، ومعلومات مغلوطة في شرح آيات قرآنية".
ونشرت صفحة الوزارة على موقع "فيسبوك" أمس الأربعاء تعديلات على عدد من المواد الدراسية تضمنت عبارات طلبت إلغاءها وأخرى استبدالها.
لا غزل ولا موسيقى
ومن التعديلات إلغاء قصائد مرتبطة بالنساء والعشق والغزل، ونص عن دار الأوبرا، وكلمات "إله" في دروس التاريخ القديم.
وفي تعديلات على مادة التربية الإسلامية جرى استبدال عبارة "أن يبذل الإنسان روحه في الدفاع عن وطنه" بـ "أن يبذل الإنسان روحه في سبيل الله"، وتغيير تفسير جزء من آية "المغضوب عليهم ولا الضالين" في سورة الفاتحة في القرآن الكريم من الذين "ابتعدوا عن طريق الخير" إلى "اليهود والنصارى".
كما ألغيت عبارات أو مقاطع مرتبطة بالدعاية للحكم السابق ومنها على سبيل المثال "حذف نشيد النظام" من أحد كتب اللغة العربية، في إشارة إلى النشيد الوطني.
وانتقد الصحافي والناشط شيار خليل التعديلات عبر منشور على "فيسبوك"، معتبراً أن "التعليم المبني على أيديولوجيات متطرفة قد يؤدي إلى إنتاج أفراد يحملون أفكاراً تهدد الأمن الإقليمي والدولي".
وأضاف أن "تغيير المناهج تحت إشراف هيئة تحرير الشام ليس مجرد خطر تعليمي، بل هو تهديد طويل الأمد للنسيج الاجتماعي ومستقبل سوريا".
إعدامات تعليمية
ووصف الصحافي زياد حيدر في منشور عبر "فيسبوك" تلك التعديلات بأنها "إعدامات تعليمية"، معتبراً أن "دولاً كثيرة ستعيد التفكير في تعاملها مع الهيئة على خلفيتها، ولا سيما أن هناك استهدافاً لفئات دينية بعينها".
وفي رد على الانتقادات أعلن وزير التربية في الإدارة الجديدة نذير القادري في بيان نشر عبر تطبيق "تيليغرام" أن "المناهج الدراسية في جميع مدارس سوريا لا تزال على وضعها حتى تُشكل لجان اختصاصية لمراجعتها وتدقيقها"، مضيفاً "وجهنا فقط بحذف ما يتعلق بما يمجد نظام الأسد البائد، واعتمدنا صور علم الثورة السورية بدل علم النظام البائد في جميع الكتب المدرسية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح الوزير أن "ما أُعلن هو تعديل لبعض المعلومات المغلوطة التي اعتمدها نظام الأسد البائد في منهاج مادة التربية الإسلامية، مثل شرح بعض الآيات القرآنية بطريقة مغلوطة"، مضيفاً "اعتمدنا شرحها الصحيح كما ورد في كتب التفسير للمراحل الدراسية كافة".
وكان الوزير أعلن، بحسب بيان نشر على صفحة وزارته بموقع "فيسبوك"، "إلغاء مادة التربية الوطنية الحالية من المناهج الدراسية والامتحانات لهذا العام، نظراً إلى ما تحويه من معلومات مغلوطة تهدف إلى تعزيز الدعاية لنظام الأسد المخلوع وترسيخ قواعد حزبه".
لكن المعترضين ركزوا على أهمية التعليم كسلاح يواجه به الطلاب مستقبلهم وترتكز عليه أسس بنائهم القويم، ورأوا في الأمر مفترق طرق بين تعليم جيل يقبل التسامح والتشارك والعيش، وبين جيل آخر يجهل ماضيه وأسسه وتاريخه.
"حمورابي" المحذوف
وتضمنت التعديلات الجديدة حذف ذكر "زنوبيا" و"خولة بنت الأزور" باعتبارهما شخصيتين خياليتين لا تمتان إلى الحقيقة أو الواقع بصلة، مع استبدال كلمة العدل أينما وردت بكلمة "شرع الله"، وحذف عبارة "كرم الله وجهه" المصحوبة بذكر علي بن أبي طالب في المناهج إلى "رضي الله عنه".
وأيضاً حُذفت الفصول والدروس المتعلقة بنظرية التطور من مادة علم الأحياء، وحُذف ذكر ما يشير إلى أن الوجود العثماني في سوريا كان احتلالاً، وتالياً إلغاء ذكر "شهداء" السادس من أيار في دمشق وبيروت الذين أعدمتهم السلطات العثمانية عام 1916 إبان نهاية الحرب العالمية الأولى، وكذا استبدال ذكر حرب أكتوبر (تشرين الأول) التحريرية لتصبح حرب عام 1973، وحذف صور الإله "مردوك" وكل صور الآلهة القديمة من الكتب الدراسية، واستبدال كلمة الآلهة نفسها مع الاستغناء عن ذكر "مدونة حمورابي".
ويقول المعلم المدرسي صافي الذهبي لـ "اندبندنت عربية"، "نحن مع إلغاء مادة القومية وكل ما يتعلق أو يرتبط بالنظام السابق من رموز وشعارات، سواء كانت مرتبط ببشار أو حافظ أو حزب البعث أو معاونيهم ومستشاريهم وغير ذلك، لكن كان يجب التريث قبل استبدالها بمادة التربية الدينية لتدخل عوضاً عنها في المجموع العام بعد حذف رموز النظام الزائل".
ويكمل أن "هذه التعديلات تتنافى مع تصريحات القيادة الجديدة بأن سوريا ذاهبة نحو عقد اجتماعي جامع ومؤتمر حوار وطني شامل ينبثق عنه دستور ديمقراطي وانتخابات حرة، لكنهم عادوا ليقولوا إن كتابة الدستور تتطلب نحو ثلاثة أعوام والانتخابات أربعة أعوام، علماً أن الدستور الفرنسي نفسه جرت كتابته خلال أقل من شهر، وكذلك الدستور الأميركي لم يتطلب هذه المدة على رغم خروج الولايات المتحدة وقتها من حرب أهلية طاحنة، فلماذا سنحتاج إلى ثلاثة أعوام لنكتب دستوراً يراعي عدم تكرار شمولية الماضي واستفراد الأسد بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية؟".
أن يموت الشعب
بدورها أبدت المعلمة مهى صبان اعتراضها على ما ورد في بعض تعديلات المناهج، مستشهدة بمقولة أحد زعماء سوريا التاريخيين وهو فخر الدين البارودي الذي قال، "الشعب السوري عظيم لا يمكن أن يموت، ولن نسمح له بأن يموت".
وتضيف، "في سوريا تعلمنا منذ الأزل التعايش والمحبة والوئام بمعزل عن النعرات التي أثارها النظام السابق، لكن لا يمكن اليوم اعتبار المسيحيين أهل ذمة أو من المغضوب عليهم والضالين، فهذا لا يستوي مع تكويناتنا الفكرية في العيش المشترك، ولا يستوي مع المقاصد الإلهية في القرآن الكريم بكل تأكيد، وعلينا أن نتذكر أن الزعيم التاريخي لسوريا في مرحلة الاستقلال ورئيس الحكومة آنذاك فارس الخوري كان مسيحياً واحتفظ لنفسه بوزارة الأوقاف، وحين همس بعضهم في مجلس الشعب متسائلاً كيف يكون وزير الأوقاف مسيحياً، تصدى لهم واحد من أبرز علماء الشام ليقول إنهم يأتمنونه كما يأتمنون أنفسهم على أوقافهم".
وتبدو آراء كثيرة متطابقة مع ما جاء به المعلمان في حديثهما، فالمهندس صائب رشيد يتساءل عبر "اندبندنت عربية" كيف سيعلم أطفاله أن العثمانيين لم يكونوا قوة احتلال لبلده على مدى 400 عام، ارتكبوا خلالها طيفاً واسعاً من المجازر، وكيف سينكر لأولاده أن شهداء السادس من مايو (أيار) من الحركة الوطنية الذين أعدمهم الحاكم العسكري العثماني جمال باشا الملقب بـ "السفاح" في وسط دمشق عام 1916 ليسوا إلا مجرد قتلى ولا دور لهم في صناعة تاريخ سوريا الحديثة.
ويقول رشيد، "في ما يتعلق بالتعديلات الدينية فإن الدستور السوري بروحه وجوهره مستمد من التشريع الإسلامي السمح الذي يراعي جميع المكونات، ولم تكن هذه القوانين المتبعة منذ كتابة الدستور مجحفة بحق أحد أو مكون أو نواة لزرع الكراهية، لكن التعديلات الأخيرة مسّت جوهر التسامح والبناء المشترك، وستعمل على محو جزء كبير من الانسجام المجتمعي الشامل على قاعدة العيش لا التعايش، في وطن يتسع لجميع أبنائه بعيداً من الفرقة والبغضاء".
ويتابع، "كيف سأعلّم أولادي أن الشهادة في سبيل الوطن لا قيمة لها، بل يجب أن تكون الشهادة في سبيل الله، وبأن حرب أكتوبر مع إسرائيل لم تختلط فيها دماء السوريين والمصريين والعرب لأجل الوطن، وشارك فيها جنود من ديانات مختلفة".
إنكار التاريخ
وأكثر ما يلفت نظر رشيد هو محو الميثولوجيا التاريخية السورية في بلد عمره قارب 10 آلاف عام، وخلاله لعبت المرأة دوراً بنيوياً فكرياً مذهلاً لا يمكن تجاوزه، بدءاً من "عشتار" وليس انتهاء بشخصيات حقيقية مثل "زنوبيا" و"جوليا دومنا"، فلماذا تطمس أسماء هؤلاء السيدات اللاتي حكمن أجزاء لا يستهان بها من العالم القديم؟
ويضيف رشيد إلى هؤلاء أيضاً أورنينا وربة المعبد ومقارت وإيل وفوررينا وشامغان، والشخصيات الحقيقة مثل أبولودورس مهندس روما الكبير وبابنيان السوري أبو الشرائع والدساتير والقوانين في روما التي حكمت العالم، ومسلة حمورابي التي جاءت بأول قوانين وضعية في العالم، ليختم باستهجان، "كيف تكون زنوبيا ملكة تدمر وخولة بنت الأزور شخصيات وهمية لا وجود لها في التاريخ؟".
وحول تلك النقطة من اعتبار بعض الشخصيات غير موجودة في التاريخ القديم، يعقب الباحث أحمد سامح بأن معارك تدمر الضارية ضد تنظيم "داعش" عامي 2014 و2015 كان يراعى فيها أكثر من غيره حفظ المدينة الأثرية المدرجة على لائحة التراث العالمي، وكانت "يونيسكو" مهتمة لحظة بلحظة بسلامة تلك المدينة التي لم تكن إلا مملكة زنوبيا الحاكمة الجسورة، وإلا فمن بنى تلك المدينة بأوابدها ومسرحها وتركها لنا ذكرى من التاريخ الذي لا يمكن ولا يجوز محوه؟
ويتساءل الباحث أيضاً، "أين هي المشكلة في نظرية التطور التي تراعي ألا تناصر انتخاب الأنواع لداروين بقدر ما تعتمد على أسلوب شرح تطور الدماغ والآلية العصبية؟ إن من اتخذ قرار حذف هذه الدروس ولا شك هو ذاته من رأى أبيات سليمان العيسى وصفي الدين الحلي وعدنان مردم بك أقوالاً شنيعة يجب حذفها".
وفي المقابل أيدت شريحة من السوريين هذا التعديل في المناهج، ولكن بإخضاع الأمر للمنطق العملي، والمحاججة المطلوبة تبقى البينة على من ادعى في مرحلة لا تحتمل انتظار الدخان الأبيض من الأسود، ولا تحتمل إثارة ختلافات من أي نوع ولأجل أي شيء، قبل أن يستوي الحكم في سوريا بعيد مؤتمر وطني جامع وحكومة راسخة من حقها اتخاذ قرارات تبدو مصيرية، ومعها انتخابات حرّة ونزيهة مدعومة بدستور متين يراعي 18 طائفة وقومية منتشرة على أراضي الجمهورية.
ويبقى السؤال الأهم في منصات التواصل الاجتماعي هو "كيف تطلّب تعديل مناهج مكونة من آلاف الصفحات بضعة أيام فقط، بينما كتابة دستور تحتاج إلى ثلاثة أعوام بكاملها؟".