ملخص
يخضع ساركوزي للمحاكمة حتى الـ10 من أبريل المقبل، بتهمة الفساد واختلاس أموال عامة وتمويل غير مشروع لحملته والانتماء إلى عصابة إجرامية، يواجه عقوبة بالسجن 10 أعوام وغرامة 386 ألف دولار، فضلاً عن الحرمان من الحقوق المدنية (ومن ثم عدم الأهلية) لمدة خمسة أعوام.
يعود الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي إلى المحكمة اعتباراً من الإثنين المقبل برفقة ثلاثة وزراء سابقين، على خلفية شبهات تتعلق بتلقيه تمويلاً من الزعيم الليبي السابق معمر القذافي لحملته الانتخابية التي أوصلته إلى السلطة عام 2007.
في هذه القضية المثيرة، يشتبه في أن الرئيس الفرنسي السابق أبرم عبر مقربين منه "اتفاق فساد" مع القذافي، يمول بموجبه الأخير حملته الانتخابية، مقابل تلميع صورته على الساحة الدولية.
ونفى ساركوزي كثيراً تلقيه دعماً مالياً من ليبيا وطعن بهذه التهم مرات عدة. كما وصفها بـ"الكذبة"، بينما أكد محاميه أن الرئيس السابق "ينتظر بفارغ الصبر جلسات الاستماع التي تستمر أربعة أشهر"، مضيفاً أنه "سيقاوم الإطار المفتعل الذي رسمه الادعاء، ولا يوجد أي تمويل ليبي لحملته".
وفيما يخضع ساركوزي للمحاكمة حتى الـ10 من أبريل (نيسان) المقبل، بتهمة الفساد واختلاس أموال عامة وتمويل غير مشروع لحملته والانتماء إلى عصابة إجرامية، يواجه عقوبة بالسجن 10 أعوام وغرامة مقدارها 375 ألف يورو (386 ألف دولار)، فضلاً عن الحرمان من الحقوق المدنية (ومن ثم عدم الأهلية) لمدة خمسة أعوام.
ويظهر أمام المحكمة بسجل جنائي، بعد ثلاثة أسابيع من الحكم النهائي عليه بتهمة الفساد في قضية أخرى، بخضوعه للرقابة عبر سوار إلكتروني مدة عام.
متهمون آخرون
بعد 10 أعوام من التحقيقات، قضى قاضيان في أغسطس (آب) 2023 بأن التهم كافية لتقديم 12 رجلاً أمام العدالة، بمن فيهم الوزراء السابقون كلود غيان وبريس هورتيفو وإريك وورث.
وستتعمق المحكمة في ملف يعتبر متشعباً ويرتبط بحقبة سابقة، عندما كانت ليبيا تحت حكم معمر القذافي لمدة 40 عاماً تقريباً.
بدأ الأمر عبر لقاء في العاصمة الليبية طرابلس عام 2005 خصص رسمياً لموضوع الهجرة غير النظامية بين العقيد معمر القذافي ونيكولا ساركوزي الذي كان وزيراً للداخلية في ذلك الوقت، والذي كان يستعد للترشح للانتخابات الرئاسية عام 2007.
وقتها جرى التوصل إلى "اتفاق"، بحسب الاتهام الذي استند إلى تصريحات سبعة من كبار الشخصيات الليبية السابقين في شأن رحلات سرية أجراها مدير حملة ساركوزي الرئاسية كلود غيان، ومقرب من الرئيس السابق هو بريس هورتيفو، وأيضاً إلى ملاحظات لوزير النفط الليبي السابق شكري غانم، الذي عثر على جثته في نهر الدانوب عام 2012.
وتمظهر هذا الاتفاق في البداية على شكل "إعادة تأهيل" للقذافي على الساحة الدولية، إذ استقبله ساركوزي بعد انتخابه رئيساً بحفاوة بالغة، في إطار زيارة مثيرة للجدل لباريس، كانت الأولى له منذ ثلاثة عقود.
كما انعكس في عقود كبرى ومساعدة قضائية لمدير الاستخبارات الليبية عبدالله السنوسي المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة غيابياً في فرنسا لدوره في هجوم على طائرة فرنسية عام 1989 أودى بحياة 170 شخصاً بمن فيهم 54 فرنسياً.
ويبلغ عدد الأطراف المدنية في المحاكمة نحو 20 فرداً. ومن بين المتهمين رجلان يملكان خبرة في المفاوضات الدولية الموازية، هما رجل الأعمال الفرنسي الجزائري ألكسندر جوهري والفرنسي اللبناني زياد تقي الدين الذي فر إلى لبنان حيث لا يزال موجوداً.
وفي أحد حسابات هذا الأخير عثر على ثلاثة تحويلات مالية من السلطات الليبية بقيمة إجمالية بلغت 6 ملايين يورو (6.18 مليون دولار). كما تحدث عن "حقائب" أعطيت إلى كلود غيان، كانت تحوي "فواتير كبيرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك أظهرت التحقيقات أن أموالاً نقدية مجهولة المصدر كانت متداولة في مقر حملة ساركوزي الانتخابية. وقال إريك وورث الذي كان وزيراً للمال في ذلك الوقت، إنها كانت "تبرعات مجهولة المصدر" بقيمة بضعة آلاف من اليوروهات فقط.
وقال محامي غلود غيان، فيليب بوشيز الغوزي، إن هذا الأخير "سيظهر أنه بعد أكثر من 10 أعوام من التحقيق، لم يُثبت أي من الجرائم المتهم بها"، مندداً بـ"مجموعة من الادعاءات والفرضيات وغيرها من التقديرات".
محاولة للانتقام
أما نيكولا ساركوزي، فينفي كل شيء. وبالنسبة إليه فإن التهم ليست سوى "انتقام" من قبل الليبيين بسبب دعمه الثورة في زمن الربيع العربي، التي أطاحت القذافي الذي قتل في أكتوبر (تشرين الأول) 2011. وينفي محاموه التمويل غير الشرعي، ويؤكدون أنه لم يعثر على "أي أثر" له في حسابات حملته الانتخابية.
ويلفت مدير مركز دراسات العالم العربي والمتوسطي في جنيف، حسني عبيدي، إلى أنه عند وصول ساركوزي إلى الإليزيه عام 2007 كانت ليبيا "عبارة عن دولة يغيب فيها القانون".
ويتحدث عبيدي عن "رجال الخيمة"، في إشارة إلى مسؤولي الاستخبارات المحلية الذين شكلوا حلقة ضيقة حول القذافي أحيطت بـ"تعتيم كامل"، وتواصلوا مع حلقة ضيقة مماثلة أحاطت بساركوزي.
ويشير إلى أنه "لم تكن لمؤتمر الشعب العام (الليبي)، الموازي للبرلمان، أي صلاحية تذكر أو تأثير في القرارات التي يتخذها المحيطون بالقذافي".
الدبلوماسي الفرنسي باتريك حايم زادة كان أحد المقربين من النظام الليبي آنذاك، إذ خدم في طرابلس بين عامي 2001 و2004، وألف كتاب "في قلب ليبيا القذافي"، يقول إنه "كان من المتعارف عليه لنظام القذافي تمويل زعماء دول أجانب أو شخصيات سياسية في الحكم أو المعارضة، وغالباً عبر حقائب من النقود"، مشدداً على أنه يعود إلى القضاء الفرنسي "القول ما إذا كان ساركوزي أحد المستفيدين" من ذلك.
ويلفت إلى أن إعادة إطلاق الحوار بين فرنسا وليبيا سبق وصول ساركوزي إلى الإليزيه عام 2007. فقد بدأ ذلك عام 2001 في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك، بعدما دان القذافي بشدة هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة.
اعتبر موقفه حينها تبدلاً جذرياً من قبل نظام متهم بتفجير طائرة ركاب أميركية تحطمت في لوكربي الاسكتلندية في ديسمبر (كانون الأول) 1988، وأخرى فرنسية تحطمت في النيجر خلال سبتمبر 1989، مما أسفر عن مقتل المئات ووضع ليبيا تحت الحظر الدولي.
وعلى رغم تبدل الموقف الليبي بقيت بعض التحفظات قائمة "من الجانب الفرنسي... على خلفية النزاعات المعلقة والعقوبات الأممية والأوروبية والوطنية المفروضة"، بحسب حايم زادة الذي يشير إلى أن باريس استكشفت "محاور تعاون" تقتصر على مجالات غير استراتيجية مثل الثقافة والسياحة.
ويضيف أنه "خلال عام 2005، انضم ملحق أمني مرتبط بوزارة الداخلية خلال العام نفسه إلى السفارة الفرنسية لدى طرابلس، مما أتاح إنشاء قناة مباشرة بين وزارة الداخلية والمسؤولين الأمنيين الليبيين". ويتابع "مع وصول نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه في 2007، اتخذت العلاقة منحى جديداً مع إقامة محاور جديدة للتعاون وإمكانات لإبرام عقود مهمة خصوصاً في المجال العسكري".
كان من المتوقع أن تشكل زيارة الدولة التي أجراها القذافي لفرنسا في ديسمبر 2007 فرصة لتوقيع عقود بمليارات من اليوروهات. لكن ذلك لم يحصل، مما أثار توتراً في العلاقة بين الطرفين، بحسب عبيدي، الذي يوضح أن هذا التشنج يعود من المنظار الفرنسي إلى أن "ليبيا بلد بكر يحتاج إلى بناء كل شيء، حقول النفط بالغة الأهمية. تملك البلاد أيضاً احتياطات من الذهب والفضة تسيل لعاب كل الحكومات الغربية".
"هوس" القذافي
كان القذافي الذي حكم ليبيا منذ عام 1969 "مهووساً" بأمر وحيد وهو اكتساب شرعية لدى الدول الغربية. وهنا يشير عبيدي إلى أن نصب خيمة الزعيم الليبي في حديقة مقر الإقامة الرسمي أواخر عام 2007 كان المؤشر إلى "إعادة تأهيل من الباب العريض".
وفي حين كان من المقرر أن يمضي القذافي ثلاثة أيام في باريس، مدد إقامته، واستضاف المثقفين والفنانين والسياسيين على التوالي، لكن الصناعيين الفرنسيين لم يجنوا ثمار زيارة الدولة هذه.
وعلى رغم ذلك، أثار تجدد العلاقة بين فرنسا وليبيا حالاً من "النشوة" لدى باريس في بدايته، بحسب الباحث المساعد في المعهد البريطاني "رويال يونايتد سرفيسز" جلال حرشاوي.
ففي صيف 2007، تمكن ساركوزي من تأمين الإفراج عن خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني أمضوا ثمانية أعوام من التوقيف والتعذيب، على خلفية اتهامهم بحقن مئات الأطفال الليبيين بفيروس السيدا بصورة متعمدة. بعد ذلك اكتشف ساركوزي أن القذافي ليس سهل المعشر على الدوام.
ويؤكد حرشاوي أن النظام الليبي بنفسه بدأ يختبر في تلك الحقبة "شكلاً من صور التدهور"، موضحاً "بدأ الفساد يبلغ مستويات غير مسبوقة، والقذافي الذي كان يدعي أنه قادر على ضبطه، فقد السيطرة... حصل نوع من التآكل البطيء للوضع، مع ترك عدد من المقربين من القذافي السفينة، ولجأ بعضهم إلى فرنسا".
وفي مارس (آذار) 2011 ألقى سيف الإسلام نجل القذافي قنبلة سياسية في اتجاه الرئيس الفرنسي بقوله "يجب على ساركوزي أن يعيد المال الذي قبله من ليبيا لتمويل حملته الانتخابية".
يرى حرشاوي أن تمويل ليبيا حملة ساركوزي "أمر معقول تماماً... نظراً إلى تقليد شراء طغاة أفارقة لسياسيين في فرنسا"، في إشارة على وجه الخصوص إلى مساهمة الرئيس الغابوني السابق علي بونغو بتمويل حملات انتخابية لساسة أبرزهم شيراك عام 1981. ونفى الرئيس الفرنسي الراحل هذه التهم.
لكنه يشدد على أنه "من السخافة بمكان الاعتقاد أن الولايات المتحدة قادت التدخل العسكري ضد القذافي عام 2011 لمجرد إرضاء الرئيس ساركوزي الراغب في طمس قضية التمويل" الليبي لحملته.
وفي مارس 2011 أجاز مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة استخدام القوة في ليبيا لحماية المدنيين في مواجهة القوات الموالية للقذافي. ثم في أغسطس من العام ذاته تمكن المتمردون من السيطرة على طرابلس. بقي القذافي متوارياً حتى أواخر أكتوبر 2011 حين عثر عليه وأردي على أيدي مسلحين قرب سرت.
ومنذ سقوط القذافي لا تزال ليبيا منقسمة بين حكومة معترف بها دولياً مقرها في طرابلس، وأخرى منافسة في الشرق تحظى بدعم المشير خليفة حفتر.