ملخص
أعادت وفاة شاب في عقده الثالث قبل أيام مضت داخل أحد آبار التنقيب عن الفحم الحجري في مدينة جرادة المغربية بسبب انهيار صخري لواجهة الجدل ملف عمال الفحم وما يكابدونه من معاناة اجتماعية وإنسانية معقدة.
تواصل مناجم الفحم العشوائية في المغرب والمتمركزة خصوصاً في مدينة جرادة شرق البلاد، والمعروفة محلياً بـ "الساندريات"، في خطف أرواح العمال إما اختناقاً أو تحت انهيار الصخور السوداء، أو حتى بسبب الأمراض التنفسية نتيجة تأثيرات الفحم الصحية، خصوصاً داء السحار الرملي (سيليكوز).
وعلى رغم محاولة السلطات المغربية تقنين عمل مناجم الذهب الأسود في عاصمة الفحم بالبلاد، مدينة جرادة، من خلال العمل في إطار تعاونيات مرخصة، لا تزال أخطار عدة تحدق بحياة وسلامة العمال داخل المناجم وخارجها أيضاً.
وباتت مناجم الفحم هذه تطرح أكثر من سؤال في شأن مدى توفير شروط السلامة والصحة للعمال، وهم شباب غالبيتهم عاطلون ينحدرون من مدينة جرادة بحثاً عن لقمة عيش مبللة بخطر الموت، في خضم ندرة فرص العمل التي تضمن الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
"خطر الموت"
وأعادت وفاة شاب في عقده الثالث قبل أيام مضت داخل أحد آبار التنقيب عن الفحم الحجري بسبب انهيار صخري داخل المنجم العشوائي، لواجهة الجدل ملف عمال الفحم وما يكابدونه من معاناة اجتماعية وإنسانية معقدة، فقبل عامين لقي ثلاثة عمال من أبناء مدينة جرادة حتفهم داخل منجم عشوائي لاستخراج الفحم الحجري جراء الاختناق بغاز ثاني أكسيد الكربون، وهي القضية التي أثارت في حينها جدلاً سياسياً وحقوقياً عارماً داخل البلاد.
وصار استخراج الفحم من الآبار أو المناجم المنتشرة في جرادة المشتهرة بثرواتها الباطنية مرادفاً للموت أو للخطر الذي يدهم سلامة العمال الشباب العاطلين من العمل، والذين يجدون في استخراج الذهب الأسود فرصة لانتشالهم من براثين الفقر والعوز، على رغم عدم توافر كل شروط السلامة الضرورية.
ويقول الناشط المحلي أحمد السراق إن "مدينة جرادة تتميز بتوافرها على مناجم عدة لفحم حجري صلب يتسم بالجودة والصلابة واللمعان، وهو فحم الأنثراسيت، إذ إنه قليل الدخان عند الاحتراق وقد اكتشفتها السلطات الفرنسية إبان مرحلة استعمار المغرب".
ووفق الناشط المحلي نفسه فإن "شباب المنطقة والمناطق المجاورة أيضاً والذين لم يحصلوا على تعليم كاف، أو حتى الشباب المتعلمون من دون شواهد تتيح لهم ولوج سوق العمل ويجدون أنفسهم مضطرين إلى خطف لقمة العيش من أنياب الموت عبر المغامرة بأنفسهم في آبار تقليدية للفحم، تكون غير مرخصة أو حتى المرخصة منها أيضاً"، موضحاً أن "كل أسرة في مدينة جرادة يمكنها أن تسرد قصة أو ذكرى سيئة لأحد أبنائها أو معارفها من ضحايا هذه المناجم العشوائية للفحم الحجري، فإما أنهم سقطوا قتلى بسبب انهيارات أو اختناقات تنفسية، أو معطوبون بعاهات جسدية أو أصيبوا بأمراض تنفسية مزمنة".
وتفيد معطيات رسمية من وزارة الصحة المغربية أن زهاء 40 في المئة من العمال السابقين بمدينة جرادة تعرضوا للإصابة بأمراض تنفسية مزمنة، على رأسها السحار الرملي (سيليكوز) الذي ينجم وفق أطباء متخصصين عن استنشاق الرئة لجزيئات السيليكا البلورية خلال فترات زمنية ممتدة.
مناجم مغلقة
وعزا الناشط المحلي السراق المهتم بملف مناجم الفحم ما يقع من حوادث وأوضاع مزرية للعمال الذين يعملون في السر معظم الأحيان إلى الهشاشة التنموية لعاصمة الفحم، إذ تتركز مقدراتها المعدنية على الفحم فقط من دون القدرة على تنويع موارد اقتصاد المنطقة، لافتاً إلى أن مناجم الفحم الرئيسة أغلقتها السلطات خلال تسعينيات القرن الـ 21 لدوافع اقتصادية واجتماعية على رأسها انخفاض الطلب على هذه المادة، وأيضاً لعدم الجدوى الاقتصادية حينها، مبرزاً أنه "بعد الإغلاق ظلت مناجم وآبار عشوائية وتقليدية للفحم تجذب الشباب العاطلين من العمل الذين يستخرجون الفحم بشكل عشوائي لبيعه في الأسواق المحلية والجهوية، في تجاهل كامل للأخطار التي يلاقونها وتعرضهم لحوادث قاتلة أحياناً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودفعت الحوادث التي صارت تقع تباعاً للعمال الشباب عدداً من الهيئات الحقوقية والأحزاب السياسية إلى تسليط الضوء على معاناتهم بمساءلة الحكومة تحت قبة البرلمان، فوجّه حزب التقدم والاشتراكية سؤالاً كتابياً قبل أيام إلى وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة ليلى بنعلي حول الموضوع ذاته، وانتقد ما سماه غياب أية إستراتيجية رسمية واضحة لوضع حد لهذا النزف الذي يطاول شباب عاصمة الفحم.
وفق الحزب ذاته فإن "هذه المناجم العشوائية للفحم الحجري لا تزال تخلف ضحايا، مما يطرح علامة استفهام حول مدى القدرة على توفير شروط الصحة والسلامة"، مطالبة باتخاذ إجراءات وتدابير لتحسين وضعية الاشتغال والاستغلال في هذه الآبار، وتوفير شروط الصحة والسلامة للعاملين بها.
من جهتها اعتبرت البرلمانية المغربية نبيلة منيب أن ما تتعرض له عاصمة الفحم مأساة تكرس ما تعانيه المناطق المهمشة، لافتة إلى خطورة تفاقم البطالة في أوساط الشباب مع عدم إطلاق مشاريع بديلة بعد إغلاق المنجم الذي كان يشكل النشاط الاقتصادي الرئيس للمنطقة.
حقوق عمال الـ "ساندريات"
ويعلق مدير المركز المغربي لحقوق الإنسان عبدالإله الخضري على أوضاع عمال الـ "ساندريات" في جرادة قائلاً "إنها أوضاع تثير تساؤلات حقيقية من حيث الحقوق الاقتصادية والإنسانية"، ويشرح بأنه على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإن ظروف عمال الـ "ساندريات" تبدو شاقة وغير آمنة، حيث يواجهون أخطاراً جسيمة تتعلق بالسلامة، مثل الانهيارات ونقص التهوية وانتشار الأمراض المرتبطة بالغبار والرطوبة، كما أنهم غالباً ما يتقاضون أجوراً منخفضة لا تتناسب مع الأخطار العالية التي يواجهونها.
وزاد الناشط الحقوقي أن "العمال يعانون غياب التغطية الصحية والتقاعدية بسبب الطابع غير الرسمي لهذه المناجم، كما أن العمل في الـ 'ساندريات' يجري بشكل غير مهيكل، مما يحرم العمال الحقوق التي يوافرها القانون المغربي للعمل"، مردفاً أنه "على المستوى الإنساني لا ترقى ظروف العمل والمعيشة لعائلاتهم إلى المستوى اللائق، مما يعكس غياب الحماية الاجتماعية الأساس، فأخطار العمل في المناجم تؤدي إلى فقدان كثير من العمال حياتهم مما يترك عائلاتهم في مواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة".
ونوه الخضري إلى أن هناك نقصاً حاداً على مستوى السياسات التنموية البديلة في إقليم جرادة التي يمكن أن توافر فرص عمل مستدامة وآمنة لسكان المناطق المتضررة، مما يجعل الاعتماد على العمل في الـ "ساندريات" شبه إجباري، وخلص إلى أنه يتعين على الدولة أن تتدخل لتنظيم هذه الأنشطة وضمان حقوق العمال، بما في ذلك التأمين ضد الحوادث والتغطية الصحية وإشراك العمال ومنظمات المجتمع المدني في نقاش مفتوح حول مستقبل النشاط المنجمي في جرادة، كون الوضع الحالي لعمال الـ "ساندريات" يشكل أزمة إنسانية وحقوقية، كما ينبغي التركيز على تطوير بدائل اقتصادية مستدامة مثل السياحة البيئية والصناعات الخفيفة والتدويرية والزراعة الحديثة، حيث إن الإقليم غني بمقدرات وثروات طبيعية وفلاحية هائلة لم تحظ بفرص التثمين اللازمة.