ملخص
لم تعد مواقع التقييمات مجرد صفحات إلكترونية تجمع التعليقات، بل أصبحت قوة ضخمة تؤثر في القرارات الاقتصادية والاجتماعية، وتدرك الفنادق والمطاعم وشركات الإنتاج الفني تماماً أن تقييماتها على هذه المنصات يمكن أن تصنع نجاحها أو تطيح سمعتها.
قبل مدة قصيرة وخلال موسم الأعياد المزدحم، كنت راغبة في حجز طاولة لعشاء يلم شمل الأصدقاء الذين أخذتهم مشاغل الحياة ولم يدركوا أن آخر مرة التقينا فيها كانت نهاية السنة السابقة. وقع اختيار الجميع على إحدى المناطق المركزية في لندن لسهولة الوصول إليها. أمضيت ساعات طويلة في البحث، وفي النهاية استقر اختياري بناء على تقييمات رائعة على موقع "تريب أدفايزر" (TripAdvisor) وصور جذابة لمائدة مطلة على نهر التيمز.
بعد حرارة اللقاء وانتهاء فيض الأسئلة الجارف، صدمنا الواقع، إذ كان الطعام بارداً وغير مستساغ، والخدمة متواضعة، والإطلالة التي حصلنا عليها لم تكن سوى نافذة صغيرة تطل على موقف سيارات، منذ ذلك اليوم، ويشغلني سؤال عن كيف نثق بتلك المواقع التي أصبحت بوصلتنا في كل شيء من اختيار فيلم لمشاهدته إلى حجز فندق لقضاء عطلة العمر؟
مواقع التقييمات والمراجعة، مثل "تريب أدفايزر" و"غوغل ريفيوز" (Google Reviews) و"روتن توماتوز" (Rotten Tomatoes) وغيرها، هي منصات رقمية تجمع آراء المستخدمين حول المنتجات والخدمات، وتقدم إرشادات مبنية على متوسط التقييمات أو المراجعات المكتوبة.
من ميزة بسيطة إلى شركات عالمية
بدأت مواقع التقييمات والمراجعات في الظهور في تسعينيات القرن الماضي كجزء من ثورة الإنترنت، إذ سعى الناس لمشاركة تجاربهم وآرائهم مع جمهور واسع.
كانت البداية مع موقع "أمازون" الذي أطلق سنة 1995، وهو من أوائل المواقع التي أتاحت للمستخدمين ميزة مراجعة المنتجات وتقييمها، وتميز بربطه بين آراء المستخدمين وتجاربهم المباشرة مع المنتجات، مما جعل التقييم جزءاً لا يتجزأ من تجربة التسوق عبر الإنترنت.
بينما تطورت منصة "بوكينغ دوت كوم" (Booking.com) منذ عام 1996 لتكون واحدة من أكبر المنصات العالمية لحجز الفنادق والرحلات، فإن أهم ما يميزها هو قسم التقييمات الذي يتيح للمسافرين إضافة آرائهم حول الخدمات الفندقية، مما يسهل على الآخرين اتخاذ قرارات مستنيرة في شأن حجوزاتهم المستقبلية.
في عام 1998، ظهر موقع "روتن توماتوز"، ليضع معياراً جديداً في تقييم الأفلام والمسلسلات، وكان يعتمد على جمع آراء النقاد المحترفين والجماهير في الوقت نفسه مما جعله مصدراً موثوقاً للمشاهدين لتحديد جودة الإنتاجات الفنية.
وفي عام 2000 شهد العالم انطلاقة موقع "هوت أور نت" (Hot or Not)، وهو منصة من نوع مختلف تماماً، إذ كان يتيح للمستخدمين تحميل صورهم الشخصية ليقوم الآخرون، بمن فيهم مجهولو الهوية، بتقييم مظهرهم بناء على مقياس من 1 إلى 10.
حقق الموقع شهرة واسعة وسرعان ما أثار الجدل بسبب قسوة التعليقات وعدم مراعاتها المشاعر، ومع أن حضور الموقع تراجع تدريجاً، فإنه وضع حجر الأساس لفكرة التفاعل الجماعي عبر الإنترنت لتقييم الأشخاص والأشياء.
في العام نفسه العام، ظهر "تريب أدفايزر"، ليكون أول موقع معتمد بالكامل لتقييم الوجهات السياحية وخدمات السفر، وقدم منصة تفاعلية تتيح للمسافرين مشاركة تجاربهم، وسرعان ما أصبح أداة رئيسة يعتمد عليها المسافرون حول العالم للتخطيط لرحلاتهم.
مع مرور الوقت، تطورت هذه المواقع من منصات بسيطة للتقييمات الفردية إلى مؤسسات مؤثرة بصورة كبيرة، وشهدنا عام 2004 انطلاق موقع "ييلب" (Yelp)، الذي تخصص في تقييم المطاعم والخدمات المحلية، ليصبح اليوم مرجعاً مهماً لرواد الأعمال والمستهلكين على حد سواء.
خاصية المراجعات التي أطلقتها "غوغل" عام 2007، تتيح لمستخدمي الخرائط إضافة تقييماتهم وتعليقاتهم حول الأماكن التي يزورونها من مطاعم وفنادق ومحلات تجارية ومواقع سياحية، ومع مرور الوقت، أصبح لهذه المراجعات تأثير بالغ في سمعة الشركات والمؤسسات، إذ يعد كل تقييم صوتاً له وزنه في بناء صورة هذه المؤسسات.
وفي السياق نفسه، ولد موقع "غلاس دور" (Glassdoor) عام 2007 أيضاً كمنصة تهتم بتقييم بيئة العمل، فهو يمنح الموظفين، سواء كانوا حاليين أو سابقين، الفرصة لمشاركة تجربتهم في العمل وتقديم تقييماتهم حول الشركات من حيث الرواتب والمزايا وأجواء العمل، وأصبحت هذه المنصة إحدى أهم الأدوات للمساعدة في اختيار مكان العمل المناسب.
أما موقع "ريتد بيبول" (Rated People)، الذي ظهر في 2005، فقد أحدث تحولاً في كيفية اختيار الحرفيين المحليين، إذ صار الأشخاص الذين يحتاجون إلى خدمات مثل البناء أو الصيانة قادرين على نشر طلباتهم عبر المنصة، ليقوم الحرفيون بتقديم عروضهم، مع تقييمات من العملاء السابقين تتيح للجميع اتخاذ قرارات مبنية على التجربة الحقيقية.
بدوره يقدم موقع "تراستد تريدر" (Trusted Trader)، فرصة للمستهلكين لاختيار الشركات ذات السمعة الجيدة، إذ يتم تقييم الأعمال التجارية بناء على تجارب العملاء، لكن مع ضمانات إضافية من خلال تدقيق شركات مستقلة للسمعة والصدقية.
حتى في قطاع الرعاية الصحية، ومع غياب مواقع تقييم طبية مخصصة بصورة عالمية، بدأ عديد من المراكز الطبية الخاصة في تقديم فرص للمرضى لمشاركة تجاربهم من خلال مواقعها الإلكترونية، إذ يسهم ذلك في نشر التقييمات المتعلقة بالأطباء والخدمات الصحية المقدمة، مما يعزز شفافية العناية الصحية ويمنح المرضى القوة لاختيار العيادات والمستشفيات بناء على تجارب حقيقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع وصولنا إلى نهاية الربع الأول من الألفية، لم تعد هذه المواقع مجرد صفحات إلكترونية تجمع التعليقات، بل أصبحت قوة ضخمة تؤثر في القرارات الاقتصادية والاجتماعية، وتدرك الفنادق والمطاعم وشركات الإنتاج الفني تماماً أن تقييماتها على هذه المنصات يمكن أن تصنع نجاحها أو تطيح سمعتها، وهكذا، تحولت مواقع التقييمات من أدوات بسيطة للمشاركة إلى كيانات قادرة على إعادة تشكيل الأسواق والتأثير في ملايين القرارات اليومية حول العالم.
محرك قرارات المستهلكين في العصر الرقمي
غيرت مواقع التقييمات والمراجعات بصورة جذرية طريقة اتخاذ المستهلكين للقرارات الشرائية، إذ أصبحت جزءاً لا يتجزأ من العملية اليومية في اختيار المنتجات والخدمات، فاليوم من الصعب أن نرى مستهلكاً يقرر زيارة مطعم أو حجز غرفة في فندق من دون الرجوع إلى مواقع مثل "تريب أدفايزر" أو "بوكينغ دوت كوم" للاطلاع على آراء وتجارب الآخرين.
وتعكس هذه التقييمات واقعاً حياً للأشخاص الذين سبق لهم تجربة الخدمة، مما يسهم في توجيه القرار النهائي للمستهلك، وقبل زيارة أي مكان أو شراء منتج، يبحث الأفراد عن التقييمات وتفاصيل التجارب السابقة لتكوين فكرة واضحة ومطمئنة حول الجودة.
في الوقت نفسه كشفت دراسات عن تأثير كبير لما يسمى "تقييمات الحشود"، وهي ظاهرة نفسية تجعل الأفراد يميلون إلى اتخاذ قرارات بناء على تصرفات الآخرين، فمثلاً، عندما يلاحظ المستهلك أن تقييم فيلم أو منتج ما حاز إعجاب كثيرين، تزداد فرصة انجذابه إليه، حتى لو كان في البداية غير متأكد من جودته، ويظهر هذا التأثير النفسي بصورة واضحة في مواقع مثل "روتن توماتوز" (Rotten Tomatoes)، إذ يشتهر تأثير "التقييمات المرتفعة" في دفع عديد من الأشخاص لمتابعة الأفلام التي تحظى بعلامات عالية، حتى لو كانت الأفلام أقل شهرة، أما في مجال المطاعم والفنادق، فإن وجود تقييمات إيجابية يمكن أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في الحجز أو الإقبال على الخدمة.
وإذا نظرنا إلى تأثير هذه المواقع على نجاح أو فشل عديد من قطاعات، يتبين أنها ساعدت في صناعة قصص نجاح شهيرة، على سبيل المثال، مطعم صغير في مدينة غير معروفة يمكن أن يصبح وجهة شهيرة بفضل تقييمات إيجابية على "غوغل" أو "تريب أدفايزر"، بينما قد يتعرض مطعم آخر لخسارة عملائه بسبب بعض التعليقات السلبية.
وفي عالم الفن، شهد عدد من الأفلام تغييرات كبيرة في إيراداتها بسبب تقييماتها على المواقع الإلكترونية، ففي كثير من الأحيان، يكون التقييم النقدي على الموقع هو العامل الحاسم في تحديد ما إذا كان الجمهور سيذهب لمشاهدته في دور السينما أم لا، والأفلام التي تحقق تقييمات إيجابية غالباً ما تحظى بشعبية أكبر، بينما قد تتعرض الأفلام التي تحصل على تقييمات منخفضة إلى فشل تجاري ملحوظ رغم حصولها على تقدير كبير من أهل الاختصاص.
يتجاوز تأثير هذه المواقع مجرد صناعة القرار الفردي، فقد ساعدت في تغيير عادات الجماهير بصورة جوهرية، وأصبح من الطبيعي قبل اتخاذ أي قرار شراء أو زيارة أن يبحث الشخص أولاً عن المراجعات على الإنترنت، حتى إن بعض المستهلكين أصبحوا لا يثقون بأي منتج أو خدمة لم يسبق تقييمها من قبل.
تقييمات لامعة وحقيقة مشوشة
في خضم تأثير هذه الأدوات على قرارات المستهلكين، لا بد من الاعتراف بعدد من التحديات والانتقادات التي ترافق هذه الظاهرة الرقمية، من أبرزها وجود المراجعات المزيفة أو المدفوعة، إذ تستغل بعض الشركات أو الأفراد هذه المنصات لتعزيز سمعتها عبر نشر تقييمات إيجابية كاذبة أو دفع المال مقابل ذلك، ويشوه هذا السلوك الصورة الحقيقية للمنتجات والخدمات ويصعب على المستهلكين اتخاذ قرارات مستنيرة.
إضافة إلى ذلك، تعد إمكانية التحيز مشكلة أخرى تؤثر في صدقية التقييمات، فقد يميل بعض المراجعين إلى تقديم تقييمات غير عادلة إما بسبب انحياز شخصي أو تفضيلات ذاتية أو تنافسية، مما يعرض الشركات لانتقادات غير مستحقة، كما أن المبالغة في المراجعات سواء كانت إيجابية أو سلبية قد تؤدي إلى خلق صورة غير دقيقة عن المنتج أو الخدمة، من ثم تسهم في اتخاذ قرارات خطأ.
كما أن الضغط على الشركات للحصول على تقييمات إيجابية يمثل تحدياً آخر، إذ أصبح بعض أصحاب الأعمال يعتمدون على الاستراتيجيات التسويقية التي تحفز العملاء على تقديم مراجعات ممتازة مقابل حوافز أو خصومات.
أما بالنسبة إلى الشركات الناشئة التي لم تحصل بعد على تقييمات، فقد تواجه صعوبة في اكتساب ثقة المستهلكين في بداية مشوارها، نظراً إلى أن كثيرين يعتمدون على تجارب الآخرين كمؤشر رئيس لاختيارهم، وبهذا، يظل النجاح مرتبطاً في كثير من الأحيان بالحصول على تقييمات إيجابية في وقت مبكر، مما يجعل المنافسة على المستوى عينه صعبة.
ومع تطور هذه المواقع، ستستمر التقنيات الحديثة في إحداث ثورة في آلية جمع التقييمات، ومع تطور الذكاء الاصطناعي، يمكن أن تحسن هذه المواقع من قدرة الخوارزميات على تحليل النصوص واكتشاف التقييمات المزيفة أو المنحازة، وقد تساعد أدوات التحليل الذكي في الكشف عن التوجهات الحقيقية وراء المراجعات مما يعزز الصدقية ويحد من التلاعب.
وتبقى الأسئلة المطروحة حول مستقبل تأثير هذه الأدوات، وعلى رغم تعدد الاحتمالات، فإنه من المؤكد أن المواقع المتخصصة في جمع التقييمات ستظل جزءاً مهماً من المشهد الرقمي، لكن مستقبلها قد يشهد تطوراً ملحوظاً في شكلها ووظائفها.