Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تاريخ خطب التنصيب من جورج واشنطن إلى دونالد ترمب

سياسات أمة ترسم معالمها وملامحها كلمات الرئيس المنتخب لأربعة أعوام جديدة

ترمب يلقي كلمة في البيت الأبيض وفي الخلف صورة لجورج واشنطن (غيتي)

ملخص

يحتل الجنرال جورج واشنطن مكانة متقدمة في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة فالرجل ليس بطل حرب الاستقلال فحسب، بل يعد وعن حق أهم رجالات السياسة الذين قدر لهم الانتصار على الذات ومحاربة الإحساس بالعظمة، ذلك أنه لو شاء لبقي رئيساً إلى نهاية عمره، ومع ذلك فضل فكرة رئاستين.

على مر قرابة ثلاثة قرون، استمع الأميركيون إلى خطابات تنصيب الرؤساء المنتخبين، تلك التي اختلفت باختلاف شخصية وخلفية وطباع وصفات الرئيس المنتخب، فضلاً عن تأثيرات البيئة التي نشأ فيها، وما إذا كانت الريف أو المدينة، ولايات الشرق أو الغرب وربما الجنوب، غير أن المؤكد فيها جميعاً أن معظمها مضى في طريق تحفيز الشعب الأميركي وطمأنته وتوجيهه.

والثابت أن بعض تلك الخطابات لاقى إقبالاً كبيراً من الأميركيين، فيما البعض الآخر لم يحرز المكانة ذاتها، وهو أمر طبيعي لا سيما مع أحوال أميركا السياسية المتغيرة منذ حرب الاستقلال، مروراً بحرب التحرير، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية ومن ثم الحرب الباردة وحتى اليوم، فالنظام العالمي غير واضح الملامح أو المعالم. وفي كل الأحوال لا شك في أن تلك الكلمات تركت تأثيراً واضحاً في نفوس الأميركيين.

إذاً، هل تكتسي خطابات الرؤساء في العقود الأخيرة، لا سيما منذ ظهور الإذاعة والتلفزيون أهمية فائقة؟. من المؤكد أن الذين استمعوا إلى خطاب تنصيب الولاية الثانية لجورج واشنطن، لا يقاسون من ناحية العدد بمن استمعوا إلى خطاب تنصيب أي من رؤساء القرن الـ21، خصوصاً مع وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت من الإمبراطورية الأميركية صندوقاً للدنيا لا قرية كونية. ومن هنا تبدو أهمية خطابات التنصيب بصورة عامة وخطاب التنصيب للولاية الثانية خصوصاً... لكن لماذا؟.

خطاب التنصيب ولعنة الولاية الثانية

لماذا يُعدّ خطاب تنصيب الولاية الثانية أهم من خطاب تنصيب الولاية الأولى؟، باختصار غير مخل، في الساعات الأولى للولاية الأولى، تكون الآمال الوردية والأحلام المخملية هي المسيطرة على الأجواء، بمعنى أن مساحة العاطفة هي التي تفعل فعلها في الجموع المحتشدة، ويكفي أن ينظر المرء إلى الدموع التي بدت في مآقي العيون الأميركية غداة تنصيب باراك أوباما كأول رئيس من أصول أفريقية، فيما اختلف مشهد خطاب تنصيب الولاية الثانية، بخاصة بعد أن ثبت لدى ملايين الأميركيين أن الرجل باع لهم خطاب الأوهام لا الأحلام وأن الأمل الذي تجرأ عليه كان واهياً.

في خطاب التنصيب الثاني، يبدو الرئيس الأميركي، أي رئيس متحللاً من المخاوف ومعزولاً عن الضغوطات، ذلك أن مستقبله عادة يكون وراءه وليس أمامه، ولو بالمعنى المجازي، خصوصاً أنه لا يحلم بإعادة انتخابه مرة ثالثة مما لا يسمح به الدستور الأميركي، وعليه فهو لا يتملق بحال من الأحوال جموع الناخبين. إلا أن خطاب التنصيب الثاني، عادة ما تشاغبه فكرة اللعنة الخاصة بالولاية الثانية التي تكاد تخيم فوق رأس الرئيس المعاد انتخابه.

 

 

وأصبحت عبارة "لعنة الولاية الثانية" مألوفة للغاية حتى إنها أصبحت عبارة مبتذلة في السياسة الأميركية. وسواء كان الأمر يتعلق باستقالة ريتشارد نيكسون أو محاكمة بيل كلينتون، فإن الرؤساء عادة ما يواجهون أوقاتاً عصيبة خلال الولاية الثانية.

في التاريخ الأميركي، يحتل الرئيس الثالث توماس جيفرسون مكانة فريدة، لم يدانِه أحد فيها، ولا قدر لرئيس آخر أن يقترب منها، ومع ذلك فقد تعثر في ولايته الثانية، مما دفع الأميركي ألفريد زاتشر إلى تأليف كتاب عنوانه "السلطة الرئاسية في فترات الولاية الثانية المضطربة"، ووفقاً لسطور الكتاب، فإن نحو ثلث الرؤساء الذين أعيد انتخابهم فقط نجحوا في فترة ولايتهم الثانية.

لماذا يحدث هذا التراجع؟

يمكن إرجاع هذا المسار النزولي إلى مجموعة متنوعة من المزالق المختلفة، بدءاً من الحروب إلى الفضائح الشخصية إلى الجمود في الكونغرس. وهناك أيضاً الفضائح أو الجروح التي يلحقها المرء بنفسه والتي يبدو أنها تظهر بصورة متكررة بعد إعادة انتخابه، ويرجع هذا جزئياً إلى أن هذه الأمور قد تستغرق أعواماً قبل أن تخرج إلى النور.

وفي واقع الأمر، فإنه من بين 44 رئيساً للولايات المتحدة، لم يقضِ سوى 21 من بينهم أكثر من فترة ولاية كاملة، وعلى هذا فقد تكون هناك لعنة الولاية الثانية، فيما المثير والغريب أنه بالنسبة إلى أكثر من نصف الرؤساء، لم تسمح لعنة الولاية الأولى بالوصول إلى هذه المرحلة.

اليوم وعلى بعد بضعة أيام من خطاب تنصيب الرئيس ترمب الثاني، نحاول في هذه السطور السريعة، استرجاع بعض من أهم خطابات التنصيب للولاية الثانية في تاريخ رؤساء أميركا، وتالياً التطلع إلى مكنونات صدر وأفكار عقل سيد البيت الأبيض المقبل خلال الساعات التالية، وما يشغل تفكيره لأميركا خلال أربعة أعوام مقبلة.

جورج واشنطن وأقصر خطاب تنصيب

يحتل الجنرال جورج واشنطن مكانة متقدمة في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة، فالرجل ليس بطل حرب الاستقلال فحسب، بل يُعدّ وعن حق أهم رجالات السياسة الأميركية الذين قدر لهم الانتصار على الذات ومحاربة الإحساس بالعظمة، ذلك أنه لو شاء لبقي رئيساً إلى نهاية عمره، ومع ذلك فضل فكرة رئاستين، ومن ثم تراجع إلى مزرعته في الريف الأميركي، مرسخاً بذلك نوعاً من الديمقراطية المتقدمة إن جاز التعبير.

أقيم حفل تنصيب جورج واشنطن للمرة الثانية رئيساً لأميركا في قاعة مجلس الشيوخ في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا الإثنين الرابع من مارس (آذار) عام 1793، ومعه على تذكرته الانتخابية الفائزة نائبه جون آدامز الذي سيخلفه في الرئاسة الأميركية تالياً. وقام القاضي المساعد في المحكمة العليا ويليام كوشينغ بإدارة اليمين الرئاسية لجورج واشنطن، وكان هذا أول تنصيب يقام في فيلادلفيا، عاصمة الأمة آنذاك.

ويُعدّ خطاب تنصيب جورج واشنطن لولايته الثانية أقصر خطاب في تاريخ خطابات الزعماء الأميركيين، ذلك أنه لم يتجاوز 135 كلمة تقريباً. وجاء فيه، "لقد دُعيت مرة أخرى من قبل صوت بلدي لأداء مهمات قاضيها الأعلى، وعندما تأتي الفرصة المناسبة لذلك، سأحاول التعبير عن شعوري العميق بهذا الشرف الرفيع. الثقة التي منحها لي شعب أميركا المتحدة".

 

 

ويومها أضاف جورج واشنطن، "قبل تنفيذ أي عمل رسمي من أعمال الرئيس، يتطلب الدستور أداء اليمين الدستورية. هذا القسم الذي سأؤديه الآن، وفي حضوركم، إذا ثبُت أثناء إدارتي للحكومة أنني انتهكت في أي حال طوعاً أو عن علم أوامرها، فقد أكون ’إضافة إلى تحمل العقوبة الدستورية‘ عرضة لتوبيخ كل من يشهدون الآن على الحفل الرسمي الحالي".

دخل جورج واشنطن البلاد، لا من باب خطاب التنصيب الثاني فحسب، بل من خلال خطاب الوداع، ذلك أنه نحو ولايته الثانية كأول رئيس للولايات المتحدة، أعلن اعتزاله منصبه في رسالة موجهة إلى الشعب الأميركي. وعلى رغم أن كثيرين كانوا يخشون على الولايات المتحدة من دون جورج واشنطن، فإن الخطاب طمأن الأمة الشابة بأنها لم تعد بحاجة إلى قيادته.

وهنا استغل الرئيس واشنطن الفرصة لتقديم المشورة من أجل ازدهار البلاد. وبعد أن شهد الانقسام المتزايد بين الحزبين الفيدرالي والديمقراطي الجمهوري، كان جزء كبير من نصيحته التحذير من الأحزاب السياسية والفصائل والعداوات الأخرى المحلية والأجنبية التي ستقوض في نهاية المطاف نزاهة وفاعلية الحكومة الأميركية.

جيفرسون عاشق الضياء وطريق العدالة

هل كان توماس جيفرسون الرئيس الثاني للولايات المتحدة رئيساً يوتوبياً، يعيش أحلام الفلاسفة من عند المدينة الفاضلة لدانتي أليغييري وصولاً إلى الفارابي؟. ببساطة كان جيفرسون إنساناً مليئاً بالتعقيدات ومهتماً على الدوام بالصراعات التي تحدث من حوله وكان يكره المواجهات ويتعلم من أخطائه وينتصر في النهاية، وفهمه للسلطة وللطبيعة الإنسانية مكّنه من قيادة الرجال وتوحيد الأفكار.

ففي الرابع من مارس عام 1805، ألقى جيفرسون خطاب تنصيبه لولاية ثانية الذي يُعدّ من الخطابات الطويلة لأن الرجل كان علامة فارقة في تاريخ السياسة الأميركية بصورة خاصة، فقد بدا كفيلسوف وطهراني وسياسي براغماتي ونازع روحاني نحو النور.

كانت أهم النقاط التي ركز عليها في خطاب تنصيبه الثاني، التأكيد على الفصل بين الدين والدولة، أي الحفاظ على أميركا العلمانية، فقال "لقد اعتبرت في الأمور المتعلقة بالدين أن ممارسة الدين بحرية يضعها الدستور في وضع مستقل عن سلطات الحكومة العامة. ولذلك لم أتعهد في أي مناسبة بفرض الممارسات الدينية المناسبة لها، بل تركتها، كما وجدها الدستور، تحت إشراف وانضباط السلطات الحكومية أو الكنيسة المعترف بها من قبل الجمعيات الدينية المختلفة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وضمن حديثه المطول، بدا واضحاً أن طريق العدالة هو المعيار الذي يحدد هوية ولاية جيفرسون الثانية، وورد ما نصه "سأبدأ الآن بأداء الواجبات التي دعاني إليها مواطنو بلدي مرة أخرى، وسأستمر في ذلك بروح المبادئ التي وافقوا عليها. لا أخشى أن تضلني أي دوافع مصلحة، فأنا لا أشعر بأي عاطفة يمكنها أن تغويني عن عمد عن طريق العدالة، لكن ضعف البشرية وحدود فهمي من شأنهما أن ينتجا أخطاء في الحكم تضر أحياناً بمصالحكم. لذلك، سأحتاج إلى كل التساهل الذي اخترته حتى الآن، ولن يقل نقصه بالتأكيد مع تقدم السنين".

ولعله من قبيل تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة أن نجد البصمة الروحانية والإيمانية في نهاية خطاب جيفرسون، إذ قال "سأحتاج أيضاً إلى عطف ذلك الكائن الذي نحن بين يديه، الذي قاد أسلافنا، مثل إسرائيل القديمة، من أرضهم الأصلية، وزرعهم في بلد يتدفق بكل ضروريات الحياة ووسائل الراحة، الذي غطى طفولتنا  بعنايته، وسنيننا الناضجة لحكمته وقوته، وأطلب منكم أن تنضموا في الدعاء، لكي ينير عقول عبيده ويرشد مجالسهم وينجح إجراءاتهم، حتى إن كل ما يفعلونه سوف يؤدي إلى خيرهم، ويضمن لهم السلامة والصداقة والتوفيق في جميع أمورهم".

أبراهام لنكولن وخطاب الحرب والعبادة

من بين أهم الخطابات الأميركية للرؤساء في ولايتهم الثانية، يأتي خطاب الرئيس أبراهام لنكولن الذي يوصف عادة بأنه خطاب الحرب والعبادة، إذ جاء في خضم حرب التحرير ومواجهة التمرد ومحاولة شق صف وحدة البلاد.

ولعل الملاحظ في هذا الخطاب الذي ألقاه لنكولن في الخامس من مارس عام 1865 أنه يظهر من جديد وجه أميركا المؤمنة، أميركا المسيحية الهوية ذات الجذور اليهودية، على رغم هويتها العلمانية التي فصلها الدستور الأميركي من قبل".

استغرق خطاب لنكولن نحو ست أو سبع دقائق فقط وتألف من 701 كلمة، غير أنه احتوى على عدد كبير من العبارات الأكثر شهرة في الخطابة السياسية الأميركية. لم يتضمن الخطاب أي شماتة بالكونفيدراليين المنكسرين في مواجهته أثناء الحرب، ولم يظهر ابتهاجاً سيئاً، بل إنه أقدم على أعمق تأملات حول أسباب الحرب ومعناها.

في خطاب تنصيبه لولاية ثانية، أوضح لنكولن أن "ويلات الحرب" يمكن فهمها على أفضل وجه باعتبارها عقاباً إلهياً لخطيئة العبودية، وهي الخطيئة التي كان جميع الأميركيين، شمالاً وجنوباً، متواطئين فيها"، على حد قوله. ويصف الخطاب ديناً أخلاقياً وطنياً نشأ عن 250 عاماً من العمل الشاق من دون مقابل، وينتهي بدعوة إلى التعاطف والمصالحة.

 

 

بدا خطاب لنكولن متضمناً لكثير من إشارات الكتاب المقدس ولتكرار لغوي وبنية متوازية كأنه خطبة دينية، لا سيما أنه أعتمد على كلمات من مقطع واحد، شاملاً عدداً كبيراً من مواضيع الصحوة الدينية، ومستخدماً مفردات من عمق العقيدة المسيحية مثل الفداء والتضحية.

تالياً وفي حفل الاستقبال الذي جرى في البيت الأبيض، التقى الرئيس لنكولن فريدريك دوغلاس، فقال له الرئيس "لقد رأيتك اليوم وسط الحشد، تستمع إلى خطاب تنصيبي... هل أعجبك؟، فأجابه دوغلاس "سيد لنكولن، لقد كان خطاباً مقدساً".

في الخطاب الثاني، أوضح لنكولن أسباب الحرب، فقال "في المناسبة التي توافقت مع هذا اليوم قبل أربعة أعوام، كانت كل الأفكار تتجه بقلق إلى حرب أهلية وشيكة. كان الجميع يخشونها، وكان الجميع يسعون إلى تجنبها، وبينما كان الخطاب الافتتاحي يُلقى من هذا المكان، مكرساً بالكامل لإنقاذ الاتحاد من دون حرب، كان عملاء المتمردين يسعون إلى تدميره من دون حرب، ويسعون إلى حل الاتحاد وتقسيم النتائج عن طريق التفاوض. كان كلا الطرفين ينبذ الحرب، لكن أحدهما كان يفضل الحرب على حساب بقاء الأمة، وكان الآخر يقبل الحرب بدلاً من تركها تهلك، جاءت الحرب".

لاحظ الحاضرون في حفل التنصيب أن كثيراً من الحضور كانوا من قدامى المحاربين في الاتحاد الذين كانوا في كثير من الأحيان يتعافون من الجروح، كما كان هناك أيضاً أفراد من عائلات جنود الاتحاد الذين قتلوا في ساحات القتال، مما يعني أنه كان كرس الولاية الثانية له للتصالح، لكن يد الغدر لم تمهله واغتيل سريعاً.

أيزنهاور وخطاب التحذير من الشيوعية

بعد أن أثبت فحولته العسكرية في ميادين ضرب نار الحرب العالمية الثانية، أثبت الجنرال أيزنهاور أنه قادر على خوض غمار السياسة، فحاز ولاية أولى عام 1953، وولاية ثانية استهلها في الـ21 من يناير (كانون الثاني) عام 1957، بخطاب أخلاقي وإنساني ووجداني وإيماني يصعب تصديق أنه جاء على لسان جنرال أربع نجوم وبطل حرب عالمية.

اللمسة الإيمانية الغالبة في خطابات رؤساء أميركا تتجلى من خلال افتتاحية أيزنهاور أيضاً التي قال فيها "إننا نطلب قبل كل شيء من خلال عملنا المشترك كأمة، بركات الله القدير. والآمال التي تملأ قلوبنا تشكل أعمق صلوات شعبنا بأكمله".

وجاء بعد ذلك سيل من الدعوات الإنسانية، "لنسعى إلى الحق من دون أن ندعي البر الذاتي. نسأل الله أن نعرف الوحدة من دون الاختلاف. نسأل الله أن ننمو بالقوة من دون الكبرياء في الذات. نسأل الله أن نكون دائماً صادقين في تعاملاتنا مع جميع شعوب الأرض، وأن نخدم العدل".

 

 

بدت هذه الدعوات كطريق روحي خلاق في ذهن أيزنهاور كي تثبت أميركا في مسيرتها. وعام 1957 كانت الشيوعية أخذت تتصاعد وبلغت أوجها، وانقسمت أوروبا إلى شطرين شرقي وغربي، وعانت الولايات المتحدة المكارثية ومخاوف إمساك السوفيات بتلابيب الأميركيين، فطارت لوائح الاتهامات موجهة لفنانين وكتاب ومفكرين بل مؤرخين كبار.

ذكّر أيزنهاور مواطنيه بأنه "لا يمكن لأي أمة، مهما كانت كبيرة أو قديمة، أن تنجو من هذه العاصفة من التغيير والاضطرابات. وبعض هذه الأمم التي أفقرتها الحرب العالمية الأخيرة، تسعى إلى استعادة سبل عيشها. وفي قلب أوروبا، لا تزال ألمانيا منقسمة بصورة مأسوية، وكذلك القارة بأكملها منقسمة، وكذلك العالم بأسره".

كان من الواضح أن خطاب أيزنهاور، هو خطاب التحذير من خطر الشيوعية التي اعتبرها "القوة المسببة للانقسام حول العالم".

وقال أيزنهاور إن "مخططات هذه القوة التي تتسم بالغموض في غايتها، واضحة في التطبيق العملي، فهي تسعى إلى ختم مصير أولئك الذين استعبدتهم إلى الأبد. وهي تسعى إلى كسر الروابط التي توحد بين الأحرار. وهي تسعى إلى الاستيلاء على كل قوى التغيير في العالم، واستغلالها لمصلحة قوتها العظمى، بخاصة حاجات الجياع وآمال المضطهدين".

وعلى رغم تلك المخاوف، فتح أيزنهاور باباً واسعاً للسلام في خطاب ولايته الثانية "إننا نسعى إلى السلام، مدركين أن السلام هو مناخ الحرية". لكن ذلك السلام الذي كان أيزنهاور يسعى إلى تحقيقه، وعلى حد تعبيره "لم يكُن ليولد من رحم الخوف وحده، بل كان لا بد له من أن يكون متجذراً في حياة الأمم".

ولعله من متناقضات خطاب أيزنهاور تأكيده على أنه في مواجهة التهديد الذي يشكله أولئك (السوفيات) الذين يسعون إلى الحكم بالقوة، يتعين على أميركا أن تدفع كلف القوة العسكرية اللازمة.

لاحقاً وفي خطاب الوداع، سيتوقف أيزنهاور كثيراً عن دعم أصحاب المجمع الصناعي العسكري الأميركي، وسيحذر الولايات المتحدة برمتها من اختطافهم للديمقراطية في الداخل الأميركي، مما لم يستمع إليه أحد بعده.

ريغان... الحكومة خادمتنا لا سيدتنا

بعد أربعة أعوام ناجحة في البيت الأبيض، وقف الرئيس الجمهوري رونالد ريغان في الـ21 من يناير 1985، ليؤدي القسم رئيساً للولايات المتحدة لولاية ثانية. تمحور حديثه حول فكرة البداية الجديدة لأميركا التي اعتبرها بداية متجددة لأمة نهضت قبل 200 عام، عندما قال الشعب للمرة الأولى في التاريخ إن "الحكومة ليست سيدتنا، بل هي خادمتنا، ولا تملك سوى القوة التي نسمح لها نحن الشعب بامتلاكها".

في النصف الأول من الثمانينيات، كانت أميركا تعاني وبقوة مشكلات اقتصادية وتعليمية، وكان كارتر خلّف أزمة الرهائن في إيران، فيما كان السوفيات احتلوا أفغانستان، وعليه كانت أميركا في حاجة إلى خفق دماء جديدة في شرايينها.

في ذلك النهار، قال ريغان "إننا نعمل على إعادة بناء أمة نابضة بالحياة والقوة والحيوية مرة أخرى، ولكن هناك أجيالاً كثيرة لا تزال تنتظرنا. ولن نرتاح حتى يتمتع كل أميركي بالحرية الكاملة والكرامة والفرصة باعتبارها حقاً طبيعياً لنا. إنها حق طبيعي لنا كمواطنين في هذه الجمهورية العظيمة، وسنواجه هذا التحدي".

وتبدو خطبة ريغان وكأنها كانت نقطة انطلاق نحو أميركا المتسيدة العالم، وهذا ما جرت به المقادير بالفعل خلال ولايته الثانية، ذلك أنه قدر له أن يهزم الشيوعية شر هزيمة. وكانت كلمات ريغان دعوة إلى الوقوف متحدين "بقلوبنا  وأيدينا" على حد تعبيره، وأضاف "إن شعباً واحداً تحت قيادة الله قرر أن مستقبلنا سيكون جديراً بماضينا. وبينما نفعل ذلك، فلا ينبغي لنا أن نكرر الأخطاء التي ارتكبناها في الماضي بحسن نية".

 

 

وفي نهاية خطابه، غازل ريغان الولايات المتحدة والعالم عبر فكرة "الحلم الأميركي"، ودعا إلى عقد العزم لبناء مجتمع الفرص الأميركية الذي "يمكننا جميعاً، البيض والسود، الأغنياء والفقراء، الشباب والشيوخ، من المضي قدماً معاً جنباً إلى جنب، ولنتذكر مرة أخرى أنه على رغم أن تراثنا يتألف من سلالات الدم من كل ركن من أركان الأرض، فإننا جميعاً أميركيون تعهدنا بحمل هذا الأمل الأخير والأفضل للإنسان على وجه الأرض".

لم يتوقف ريغان كثيراً أمام المعركة المحتدمة مع الاتحاد السوفياتي، فقد كان سباق التسلح مضى قطاره بقوة أميركية لا تعرف التوقف ولا السكينة، مما سحق الاتحاد السوفياتي تحت عجلات قطار الاقتصاد العتيد، غير القادر على مضاهاة نظيره الأميركي، ومن هنا ركز ريغان كل التركيز على تحرير أميركي جديد، وحملة وطنية عظيمة  لتدمير الحواجز الاقتصادية وتحرير روح المبادرة في أكثر المناطق تضرراً في الولايات المتحدة.

حين غادر ريغان البيت الأبيض عام 1989، كانت أميركا مقبلة بالفعل على قيادة العالم كقطب منفرد بنظام عالمي جديد، بحسب تعريف خلفه في الرئاسة جورج بوش الأب.

ترمب والخوف من أكبر صدمة

أخيراً، ما الذي ينتظره الأميركيون في خطاب ترمب الثاني؟. تبدأ إجراءات تنصيب ترمب بأزمة تنكيس الأعلام، ذلك أن الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن أصدر أمراً بتنكيس الأعلام لمدة شهر حداداً على وفاة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر. وبالفعل، أبدى ترمب استياءه البالغ من هذا القرار، قائلاً "الديمقراطيون جميعاً مسرورون  باحتمال إنزال علمنا الرائع أثناء تنصيبي".

على أن الأمر ولو كان من قبيل الفأل السيئ بالنسبة إلى ترمب، يتطلع الجميع وبعضهم يتوقع فيما نفر آخر يتساءل عن خطاب ترمب وما يمكن أن يحويه من مفاجآت، وهو الذي عُرف عنه أنه رئيس غير متوقع، فلا يستطيع أحد قراءة ما يدور في ذهنه، وما من استراتيجيين على دراية بخطواته التالية.

في خطاب تنصيبه الأول، صاغ ترمب العبارة المخيفة "المذبحة الأميركية" لاستحضار صورة حية للمدن الداخلية التي قال إنها تعاني الجريمة والنخبة السياسية التي نسيت الناس العاديين، ومشاهد المصانع الصدئة مثل شواهد القبور.

بدا خطاب ترمب الأول صادماً لدرجة أن بعضهم استمع إلى الرئيس جورج بوش الابن في نهاية الخطاب يتمتم بالقول، "هذا كلام غريب نسمعه في العاصمة الأميركية للمرة الأولى". والسؤال الآن بين يدي المشاهد "ما هو المتوقع من خطاب ترمب الثاني؟".

 

 

في حديثه مع كريستين ويلكر، مقدمة برنامج "قابل الصحافة" على قناة "أن بي سي نيوز"، قال ترمب إن "الوحدة ستجعلك سعيدة، وسيكون الخطاب رسالة للوحدة والاتحاد"... هل يمكن أن يكون هذا الحديث حقيقياً بالفعل؟.

المعروف أن ترمب صعد إلى السلطة عام 2016 بفضل انقسام الناخبين، ثم خسر البيت الأبيض بعد أربعة أعوام، ثم استعاده من خلال تقديم الرسالة المتشددة نفسها بالعبارات الصريحة ذاتها.

بطبيعة الحال، لا أحد يعرف ماذا سيقول ترمب في خطاب تنصيبه الثاني، ومن المرجح أن يلقي خطاباً مليئاً بالانتصار والزهو والفخار. غير أنه إذا أراد أن يكون صادقاً مع نفسه، وإذا أراد أن يستخدم أعظم المنصات السياسية لإيصال رسالة لم يكُن أحد ليتوقعها على الإطلاق، فسيضرب نغمة تصالحية من التواضع الحقيقي، يقرّ من خلالها بحال الانقسام القائمة وربما التالية في البلاد، ويقر بأن نصف الأميركيين في مكان ما بين الفزع أو الرعب من احتمال ولاية أخرى له.

هنا يقطع كثير من المحللين الأميركيين الثقات بأن الأمر برمته لا يتجاوز تمنيات قصة خيالية لا أمل في تحقيقها، ويتساءلون "لماذا قد يتغير ترمب؟، لقد فاز بالفعل بالرئاسة ويمنعه التعديل الـ22 من الترشح مرة أخرى. وحتى منتقديه سيعترفون بأنه انتصر على رغم كل الصعاب وحقق أعظم عودة سياسية في تاريخ أميركا، ووصلت معدلات تأييده إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق".

هل سيفعل ترمب شيئاً غريباً في خطاب تنصيبه؟. المؤكد أن هناك من يقف وراءه هذه المرة، لا سيما من العقول الأميركية المهمة للغاية، بخاصة مؤسسة "هيريتاج فاونديشن" مؤسسة الفكر التراثي الأميركي، وهؤلاء يمضون في طريق استعادة الولايات المتحدة من أيدي اليسار الديمقراطي المنحرف الذي مثله أوباما وكان يمكن لكامالا هاريس أن تكمل الطريق، مع ملاحظة أن أفكارهم يمينية معتدلة غير متشددة أو متطرفة، وغالباً سيترك هؤلاء بصمتهم في خطاب تنصيب ترمب الثاني. دعونا ننتظر ونرى.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير