Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"إبحار بلا نهاية" رواية التمرد على سلطة الأب

رحلة البطل المضطرب تنطلق من الإسكندرية إلى القاهرة فألمانيا ثم ليبيا القذافي

لوحة للرسام أسامة دياب (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

بعيداً في أعماق النفس، وعبر فضاءات زمنية ومكانية متنوعة، يجول الكاتب المصري نعيم صبري في روايته "إبحار بلا نهاية" ، فيتتبع مسيرة الذات الإنسانية في تمردها على سياق ثقافي، تهيمن عليه السلطة الأبوية، والأعراف الاجتماعية، في ظل مناخ من الفقر والقهر وندرة الفرص.

تدور أحداث رواية "إبحار بلا نهاية" (دار الشروق - القاهرة)، في الفترة بين نهاية الخمسينيات ونهاية السبعينيات. وتتقاطع مع أحداث سياسية مفصلية في تاريخ مصر الحديث، منها حربا 1967 و1973 وحرب الأيام الأربعة بين مصر وليبيا عام 1977. ينتهج الكاتب سرداً مكثفاً تتسارع فيه الأحداث، مانحاً سلطة الحكي لاثنين من الشخوص. أحدهما "ماجد سعيد" المهندس الذي ينحدر من أسرة متوسطة، ويعمل بعد تخرجه في ليبيا، والآخر هو "أدهم جلال سليم"، الشاب البسيط الذي أنهى بصعوبة التعليم المتوسط، ودفعه طموحه للتمرد على سلطة أبيه، والخروج من عباءته.

شرع الكاتب رحلته السردية من لقاء البطلين في "هيئة مراقبة إسكان طرابلس" في ليبيا أوائل السبعينيات، وتغطية المهندس "ماجد سعيد" على "أدهم"، بعد أن كشف له عن قيامه بتزوير شهادة الهندسة. ثم عاد عبر الاسترجاع لزمن الخمسينيات، مستعيداً رحلة البطل الثاني "أدهم"، الذي منحه المساحة الكبرى من السرد، ومتتبعاً صباه في الإسكندرية، ومساره نحو التحقق الذي كان مفتتحه، هربه من بيت أبيه، وأسفاره التي بدأت في القاهرة، ثم امتدت حتى بلغت ألمانيا، وانتهت به في ليبيا غداة وصول معمر القذافي إلى الحكم.

زخم من الصراعات

ضمنت البداية الصادمة التي شرع منها الكاتب رحلته، إثارة القارئ وتشويقه، فهي فتحت أبواب السرد منذ اللحظة الأولى على مصاريعها للصراع، ولا سيما ذاك الذي اندلع في العوالم الداخلية لدى "ماجد"، بعد أن قرر قبول "أدهم" والتغاضي عن شهادته المزورة: "هل القرار الذي أخذته يجوز لي أن أتخذه؟ أن أشارك مزوراً لشهادته العلمية في جريمته؟ هل كان من الواجب والشرف أن أرفضه، حتى وإن أدى رفضي إلى تجريسه عندما أسأل عن سبب الرفض؟" ص7.

ولم يكن الصراع الداخلي لسان حال "ماجد" وحده، وإنما كان أشد وطأة على البطل الثاني، صاحب النفس المأزومة، الذي تراوح بين عواطف نبيلة إزاء كل من حوله، وبخاصة أبيه، وبين بغض وكراهية شديدة لأعراف اجتماعية، لم تنفك تسلط سهامها على عنق حريته. فنشبت في دواخله صراعات احتدمت، بين الأمل والواجب حين قرر الفرار من بيته للحاق بحلمه، والتخلي عن رغبة أبيه في العمل لديه، وتمزقت نفسه بين خجل من حقيقة تعليمه المتوسط، وخجل من كذبة ابتدعها حين ادعى أمام حبيبته أنه طالب جامعي، وبين شعوره بجدارته باتخاذ قرارته المصيرية، وخوفه المزمن من أبيه حين قرر الزواج من ألمانية، والسفر إلى ألمانيا.

بين رغبته في توديع أبيه، وخوفه من مواجهته، وبين حبه لـ"هيلدا" الذي حمله على مغادرة وطنه، متخلياً عما حققه فيه من نجاح، ومخاوفه من واقع جديد في بلد غريب لا يتحصن فيه بعمل ولا عائلة ولا لغة. وتزايدت وطأة صراعاته الداخلية، حين اصطدم في ألمانيا بواقع قصم ظهر آماله، فضاع بين الشعور بالفشل والهزيمة، وانقضاء الحب، والحنين إلى الوطن، وبين كبرياء ترفض الاعتراف بتلك المشاعر، وتحثه - على رغم كل شيء - على المواصلة، ما قاده إلى صراعات جديدة، قسمته بين شعور بالمهانة حين اضطر إلى غسل الصحون في أحد المطاعم، وإصرار على ألا يتراجع رافضاً الاعتراف بالفشل: "هل أترك كل شيء وأعود إلى مصر؟! وهل ستحتمل الفشل؟ أليس قبول هذا العمل هو قمة الفشل، راحت التساؤلات تتوالى بذهني، والحيرة تعصف بي، اختنقت... انطلقت آهة عميقة من صدري كتمتها سريعاً وسط هدوء الليل، ورحت في بكاء مرير" ص123.   

ثيمة الاغتراب

أسهم الصراع في مستواه الداخلي، في دفع الأحداث وتحريكها، وزيادة التوتر، وتحقيق التطور الدرامي. أسهم أيضاً في تطوير شخصية "أدهم"، والكشف عن أبعاده النفسية المعقدة، وشعوره العميق بالاغتراب، الذي عاشه في موطنه، نتيجة رفضه أعرافاً اجتماعية وموروثات، ترسخ سلطة الأب، وتقدس العمل الحكومي الآمن وإن كان أول ما يؤمنه هو الفقر!، وتجعل الزواج من مطلقة أو أجنبية سلوكاً شائناً ومعيباً!

لكنه حتى بعد رحيله عن وطنه إلى مجتمع أكثر حرية، لم يتحرر من هذا الشعور، بل عاشه مرة أخرى، إذ إنه لم يتمكن من التكيف والاندماج. وهكذا بات الاغتراب ثيمة رئيسة للشخصية، لازمتها في غالب مراحل حياتها. كذلك كشف الصراع الداخلي عن المشاعر المركبة في الطبقات الأعمق من "أدهم" نفسه واستجاباته العاطفية نحو العالم والأحداث، التي تراوحت بين تعاسة وحنين وفقد وضجر وطموح جامح، ورغبات عاتية في التخلص من القيود بأنواعها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأسفر ذلك كله عن إثارة مزيد من التعاطف معه، وحتى مع أخطائه. كذلك كان الصراع الداخلي سبيلاً لبلوغ صراع آخر على المستوى الخارجي، تصاعدت حدته بين الشخصية المحورية "أدهم"، وبين مجتمع تزهق سطوته الفرد، ويسحقه تحت تروسه. وفي طيات هذا الصراع فجر الكاتب عدداً من القضايا، من بينها رداءة تعليم، لا يخلق جودة ولا ينمي مهارات، السلطة الأبوية التي تسلب حق الفرد في الحب والعمل وكل خيارات الحياة والذكورية الشرقية، التي تغذي لدى الرجل شعوراً بالفوقية والتفوق على المرأة. ومع انتقال الأحداث إلى ليبيا، تطرق "صبري" إلى مشكلات العمل من خلال "الكفيل"، وتعقيدات السياسة في مجتمعات غير ديمقراطية، ترسخ حكم الفرد ولا تعترف بسلطة القانون، ولا ضرورة المؤسسات. ورصد أثر تلك التعقيدات في حياة الناس ولا سيما الوافدين.

جدلية الأنا والآخر

بدأ حضور الآخر في النص عبر "هيلدا" الأرملة الألمانية، التي تعمل في معهد غوته، التي وقع "أدهم" في حبها، ليكتشف عبرها عالماً مغايراً لا يشبه عالمه، وعبر هذا الاكتشاف مرر الكاتب مقارنات صريحة وضمنية بين الأنا والآخر، فدفع ببطله "أدهم" للمقارنة بين حبيبته الأولى "فتحية" و"هيلدا"، وبين المجتمع المصري والمجتمع الغربي، على نحو أبرز انبهاراً بالثقافة الغربية، وانحيازاً لها. إذ إنها - في منظور البطل - لا تكبل الفرد بأعراف تنال من حقوقه وسعادته، بل إنها تقدس حقه في السعادة، وتتيح له السبل كافة لبلوغها: "قد تقول إنها مجتمعات منحلة، لا يا سيدي.. في الأعم وفي الغالب هي مجتمعات صادقة في مشاعرها وفي علاقاتها، حقيقية كما هو الإنسان الطبيعي، إذا أحبت واقتنعت تستمر في العلاقة، وإذا لم تشعر بالصدق في العلاقة انفصلت لتبحث عنه وتعيشه، حرصاً على الحياة الحقيقية وعدم قبول العلاقات الفاترة أو المزيفة لأي اعتبار سواء المجتمعي أو الديني أو الاقتصادي" ص 76. وكما بدا الانبهار بالثقافة، بدا انبهار آخر - بعد وصول "أدهم" إلى أوروبا - بالمكان والحياة والطبيعة والنظافة والنظام، لكن هذا الانبهار والانحياز للآخر، لم يمكن البطل من التوافق والاندماج معه، بل واجه في المجتمع الأوروبي أزمة هوية. ولم يمنحه الحب قدرة على الانسجام والاندماج، فكانت النتيجه أن يستمر في اغترابه، الذي دفعه للإبحار من جديد عائداً للوطن.

فضاءات ومعارف

بينما كانت حقبة الستينيات والسبعينيات فضاء زمنياً دارت خلاله الأحداث، تنوعت الفضاءات المكانية للسرد، اتساقاً مع طبيعة البطل "أدهم" المغامرة، وكان تنقله بين مصر وألمانيا وليبيا، مبرراً لبروز خطاب معرفي، انساب داخل النسيج الروائي كجزء أصيل منه، فسمحت شخصية "هانز" الألماني الذي شارك البطلين "ماجد وأدهم" عملهما في ليبيا، باستدعاء معارف حول سور برلين الذي قسم ألمانيا، والأخطار التي كانت تهدد الألمان المغامرين بالعبور من ألمانيا الشرقية إلى الغربية. وكان هرب "أدهم" صبياً للعمل في منطقة "أبي قير" في الإسكندرية، سبيلاً لاستدعاء حمولات معرفية حول طابية نابليون، وهزيمة الأسطول الفرنسي في معركة "أبي قير البحرية". أما زواجه من "هيلدا"، فكان مناسبة لتمرير معارف أخرى حول لقب "فون" في ألمانيا، ودلالة هذا اللقب التي تحيل إلى أصول أرستقراطية عريقة لمن يحمله. كذلك كان انتقاله إلى ليبيا واستقالته و"ماجد" من العمل الحكومي وتأسيسهما عملهما الخاص، الذي تضرر نتيجة قرارات القذافي الهوجاء، مناسبة لاستدعاء تاريخ الصراع السياسي بين الزعيم الليبي والرئيس المصري أنور السادات، الذي انتهى بحرب نشبت بين البلدين عام 1977، وسميت بحرب الأيام الأربعة: "استمرت الحرب من 21 يوليو إلى 24 يوليو، حتى توقفت بناء على وساطة الرئيسين، هواري بو مدين وياسر عرفات بين البلدين... استغل عبدالرحمن الظروف السيئة، وعدم قدرتنا على العودة إلى ليبيا، وتنكر لنا طمعاً في الاستئثار بالشركة، وإقصائنا عنها، نظراً لأنه هو الكفيل الليبي، وكل شيء باسم الشركة وبالتالي باسمه. ضاع كل شيء. وبعد كل هذا المجهود والكفاح، ينتهي بنا الأمر صفر اليدين" ص237.

وعلى رغم من انتهاء رحلة الصديقين في ليبيا مكللة بالخسارة، فإن "أدهم" الذي اعتاد أن ينفق عمره بين ذهاب وإياب، يواصل سعيه إلى العثور على الخلاص. ويستمر في الإبحار. وتكون وجهته إلى نيوزيلاندا بداية جديدة له، ونهاية مفتوحة يسلكها الكاتب، مثيراً خلفه عاصفة من أسئلة وجودية عن النفس والحقيقة والخطأ والصواب والمطلق والحياة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة