ملخص
لم يمر سوى شهرين فقط على أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، التي خلفت نحو 3 آلاف قتيل، حتى أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في السادس من يناير (كانون الثاني) 2002 من بين خطواتها لمحارب الإرهاب، أن الشرطة العسكرية في فورت هود بتكساس وقوات من قواعد أميركية أخرى تستعد لإنشاء معتقل شديد الحراسة في قاعدة غوانتانامو شمال شرقي كوبا لاحتجاز "ألفين من مقاتلي طالبان وتنظيم القاعدة"، ليصل بعدها سريعاً في الـ11 من الشهر ذاته أول سجين حمل الجنسية الباكستانية إلى "معتقل غوانتانامو"، هذه قصة المعتقل الأشهر لدي الولايات المتحدة الأميركية.
أعاد إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) نقل 11 سجيناً ممن يحملون الجنسية اليمنية بعد احتجازهم لأكثر من عقدين في سجن غوانتانامو إلى سلطنة عمان، المعتقل الأميركي "سيئ السمعة" للواجهة، بإرثه المتراكم في التعذيب والاحتجاز "من دون اتهامات أو محاكمات عادلة"، وفق تعبير منظمة العفو الدولية (أمنيستي).
وعلى رغم أن الإفراج الأخير عن سجناء يمنيين مثل الدفعة الأكبر من السجناء الذين تطلقهم إدارة الرئيس جو بايدن قبل انتهاء عهده في الـ20 من يناير (كانون الثاني) الجاري، ولم يتبق في المعتقل ذائع الصيت سوى 14 سجيناً، وهو الرقم الأقل منذ إنشائه عام 2002، إلا أن الأسئلة عادت حول إبقاء السلطات الأميركية عليه من دون إغلاقه بصورة نهائية، على رغم الوعود التي أطلقها الرؤساء الأميركيون منذ عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن (2001/2009)، مروراً بالرئيس الديمقراطي باراك أوباما (2009/2017)، ومن بعده دونالد ترمب في ولايته الأولى (2017/2021)، وأخيراً ولاية الرئيس جو بايدن المشرفة على الانتهاء (2021/2025).
وعلى مدار العقدين الماضيين، ذاع صيت السجن المعروف أيضاً باسم "جيتمو"، والواقع داخل قاعدة غوانتانامو العسكرية الأميركية في خليج غوانتانامو عند أقصى نقطة من الساحل الجنوبي الشرقي لجمهورية كوبا، وذلك بعد أن حولت إدارة الرئيس بوش الابن جانباً من القاعدة البحرية إلى موقع احتجاز لأفراد اعتقلوا عبر كل أرجاء العالم في سياق "الحرب على الإرهاب" التي قادتها الولايات المتحدة عقب هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، ومنها تنظيم "القاعدة"، وشملت غزو أفغانستان والعراق وعمليات عسكرية وسرية في أماكن أخرى.
وبينما ضم غوانتانامو في ذروته نحو 800 سجين قبل أن يفرج عن قسم منهم أو نقل آخرين إلى دول أخرى، بقيت الممارسات والانتهاكات وعمليات التعذيب ضد المساجين التي شكلت "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان"، وفقاً لمنظمات حقوقية دولية وأميركية، فماذا نعرف عن قصة السجن الأشهر أميركياً، ولماذا لم تنجح أياً من محاولات الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض لإغلاقه على مدار أكثر من عقدين وبقي من دون أي تغيير يذكر؟
قصة السجن الأشهر لـ"مكافحة الإرهاب"
لم يمر سوى شهرين فقط على أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، التي خلفت نحو 3 آلاف قتيل، حتى أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في السادس من يناير (كانون الثاني) 2002 من بين خطواتها لمحارب الإرهاب، أن الشرطة العسكرية في فورت هود بتكساس وقوات من قواعد أميركية أخرى تستعد لإنشاء معتقل شديد الحراسة في قاعدة غوانتانامو شمال شرقي كوبا لاحتجاز "ألفين من مقاتلي طالبان وتنظيم القاعدة"، ليصل بعدها سريعاً في الـ11 من الشهر ذاته أول سجين حمل الجنسية الباكستانية إلى "معتقل غوانتانامو".
في ذلك التوقيت لم يكن العالم يدرك أن السجن الذي افتتح في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن عام 2002 في سياق الحرب على "الإرهاب" بعد هجمات الـ11 من سبتمبر، أن تتحول تلك البقعة الواقعة خارج الحدود الأميركية إلى "مسرح لجميع أنواع التعذيب وانتهاك الحقوق، من الإيهام بالغرق إلى التغذية القسرية"، فضلاً عما يعرف بـ"أساليب الاستجواب المعززة" التي اتبعت مع نزلائه، وفق توصيف المنظمات الحقوقية الدولية، ويبقي صامداً حتى اللحظة أمام دعوات الإغلاق كافة التي لاحقته.
ولموقع المعتقل، الذي يبعد بنحو ألف كيلومتر عن العاصمة هافانا، في خليج غوانتانامو عند أقصى نقطة من الساحل الجنوبي الشرقي لجمهورية كوبا، قصة طويلة في تاريخ العلاقات الشائكة بين الولايات المتحدة وكوبا، إذ كان في الأصل قاعدة عسكرية أميركية، أنشأت إبان الحرب الإسبانية - الأميركية عام 1898، وذلك بعد أن نزلت قوات من مشاة البحرية الأميركية (المارينز) في خليج غوانتانامو في ذلك العام، ونتيجة لاختيار إقامة سجن فيها في أوائل الألفية، بقي موقعه خارج الأراضي الأميركية، وذريعة "عدم خضوعه لدستور البلاد" حجة الرئيس جورج بوش الابن وأركان إداراته أمام سيل الانتقادات الحقوقية تجاه تعامل الأميركيين مع سجنائه.
وبحسب التقارير العسكرية الأميركية، فإن قاعد غوانتانامو العسكرية التي تخلت عنها كوبا لواشنطن في عام 1903، "لمساعدتها لها أثناء الحرب ضد الإسبان"، وعلى الإثر وقع الطرفان معاهدة في عام 1934 منحت بموجبها الولايات المتحدة حق امتياز في تلك البقعة الجغرافية، أضحت نقطة شائكة ومحط خلاف بين البلدين منذ خمسينيات القرن الماضي، بعد أن طالبت كوبا في أعقاب ثورتها الشيوعية التي قادها فيدل كاسترو، وأطاحت بالديكتاتور اليميني المقرب من واشنطن الجنرال باتيستا عام 1959، باسترجاعها لسيادتها، واعتبارها "أحد آخر مخلفات الاستعمار الإسباني"، وعليه رفضت الحكومات الكوبية المتعاقبة منذ عام 1960 الإيجار السنوي الرمزي (قدره 5 آلاف دولار أميركي) الذي تسدده الولايات المتحدة في مقابل انتفاعها بها.
وبينما كانت محطة "أزمة الصواريخ الكوبية" عام 1962 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك، وهي الأزمة الأخطر التي مر بها القطبان والعالم معاً بلحظة فارقة، حين اقتربت "الحرب النووية" بين البلدين إلى شفير الانفجار، أخذ الاهتمام بعدها بذلك الجيب الجغرافي يتوارى عن المشهد، ومع مرور السنون بدأت تلك القاعدة العسكرية تفقد كثيراً من أهميتها الاستراتيجية، لا سيما مع انتهاء الحرب الباردة في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وعليه حولتها واشنطن بصورة رئيسة إلى معسكر تدريب، فضلاً عن نقل اللاجئين الكوبيين والهايتيين الذين يحاولون الوصول إلى السواحل الأميركية إليها، وذلك قبل أن تعود لتكون بؤرة التركيز الحقوقي والإنساني الدولي مع أوائل الألفية الجديدة، وتأسيس معتقل داخلها لإيواء الأشخاص المشتبه فيهم الذين أسروا من القوات الأميركية في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى.
وعلى رغم أن السجن استقبل في بداية إنشائه أعضاء مشتبهاً فيهم من القاعدة اتهموا بتنفيذ هجمات الـ11 من سبتمبر في الولايات المتحدة، فضلاً عن مقاتلين لحركة طالبان الأفغانية، فإنه ومع مرور الوقت ضمت أسوار المعتقل مئات السجناء من دول عدة في المعسكر من دون تهمة ومن دون توفير الوسائل القانونية للطعن في احتجازهم، مما استدعى الأمر ليكون "غوانتانامو" محور جدل عالمي في ما يتعلق بانتهاكات الحقوق القانونية للمحتجزين بموجب اتفاقات جنيف واتهامات التعذيب أو المعاملة السيئة للمحتجزين من المسؤولين.
وأمام تزايد الانتقادات لواشنطن بسبب المعتقل، والتنديد بالمعاملات غير الإنسانية به، بررت إدارة الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش سياساتها إزاءه في السنوات الأولى من تأسيسه بأن الولايات المتحدة "ليست ملزمة بمنح الحماية الدستورية الأساسية للسجناء"، لأن القاعدة كانت خارج أراضي الولايات المتحدة، ولا يلزمها مراعاة اتفاقات جنيف في ما يتعلق بمعاملة أسرى الحرب والمدنيين أثناء الحرب، لكن في عام 2008 ألغت المحكمة العليا الأميركية القانون الموحد للقضاء العسكري عقب توليها ملف الحكم في قضية "بومدين ضد بوش"، مشيرة إلى أن المحتجزين الأجانب لهم الحق في الطعن في احتجازهم أمام المحاكم الفيدرالية.
وبحسب رواية المساجين المفرج عنهم من المعتقل، وتقارير صحافية أخرى، قسمت وزارة الدفاع الأميركية معتقل غوانتانامو إلى مجموعة من المعسكرات منذ تأسيسه، ويحمل أشهر تلك المعسكرات اسم "دلتا" الذي أنشئ بين فبراير (شباط) 2002 ومنتصف أبريل (نيسان) 2002، ويحتوي على 612 خلية تخضع لإشراف الشرطة العسكرية الأميركية، وقسم إلى معسكرات اعتقال من واحد إلى ستة، ويسمح لمعتقليه بارتداء اللباس الأبيض بدلاً من البرتقالي.
إضافة إلى "دلتا"، حمل معسكر داخل غوانتانامو الرقم 7، وأقيم بطريقة سرية من وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أي) ليضم السجناء شديدي الخطورة، لا سيما أولئك "المتورطون في تفجيرات الـ11 من سبتمبر" تحت حراسة مشددة، ويرتدي نزلاؤه اللباس البرتقالي، وفق ما نشرته وكالة "أسوشيتد برس" في تحقيق سابق لها.
في المقابل توجد معسكرات داخل غوانتانامو "أقل من ناحية الحراسة والرقابة"، وهم معسكر "إيغوانا" الصغير الذي لا يخضع لحراسة مشددة، ويوجد على بعد كيلومتر من المعسكر الرئيس، بين عامي 2002 و2003 احتضن هذا المعسكر ثلاثة مراهقين أقل من 16 سنة، وبعد الإفراج عنهم في يناير (كانون الثاني) 2004 أغلق المعسكر، لكن أعيد فتحه منتصف 2005، فضلاً عن معسكر "إكس راي" الذي خصص في السابق للاعتقال الموقت، قبل أن يغلق في أبريل (نيسان) 2002 ويحول نزلاؤه إلى "دلتا". وكان هناك أيضاً معسكراً حمل اسم "بيني لان"، أقامته "سي آي أي" في الفترة بين عامي 2003 و2006، لاحتجاز السجناء ممن يمكن توظيفهم كجواسيس ضد التنظيمات الإرهابية.
وبينما تشير التقديرات إلى أن ذروة عدد السجناء في غوانتانامو بلغت نحو 800 سجين، قبل أن تقل الأعداد تدريجاً، سواء بالإفراج عن قسم منهم أو نقل آخرين إلى دول أخرى، ولا سيما ممن توجه تهم بالإرهاب إليهم، خصوصاً بعد هجمات الـ11 من سبتمبر، ليصل العدد في الوقت الراهن لنحو 14 سجيناً فقط، إلا أن الثابت على مدار العقدين الماضيين أو يزيد، كان عدم توجيه "تهم جانبية" إلى غالبية معتقلي غوانتانامو، ولم توجه تهم إلا إلى 12 فقط دين منهم اثنان، بحسب صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.
وعلى رغم شيوع صيت غوانتانامو في السنوات الأولي التي تلت تفجيرات سبتمبر 2001، إلا أن الحكومة الأميركية ممثلة في وزارة الدفاع لم تبدأ أي استعراض لأوضاع المحتجزين لديها في المعتقل إلا في يوليو (تموز) 2004، أي بعد أكثر من عامين من تأسيس السجن، وحينها قررت الإفراج عن 38 سجيناً على أساس كونهم "محاربين غير أعداء"، وهو المصطلح الذي يشير إلى أن هؤلاء الأشخاص ليسوا من عناصر تنظيم القاعدة أو حركة طالبان وأنهم لم يقوموا بأي أعمال عدائية ضد الولايات المتحدة.
وفي عام 2006 أجرت كلية القانون في جامعة سيتون هول بولاية نيوجيرسي الأميركية تحليلاً لبيانات وزارة الدفاع (البنتاغون)، توصلت فيه إلى أن خمسة في المئة فقط من المحتجزين المتبقين في غوانتانامو في تلك السنة ألقي القبض عليهم من القوات الأميركية، فيما 86 في المئة منهم اعتقلوا إما من السلطات الباكستانية أو من التحالف الشمالي الأفغاني، "وسلموا للولايات المتحدة في وقت كان فيه الأميركيون يعرضون فدى كبيرة لاعتقال أعدائهم المشتبهين".
شهادات "معتقليه"
في أحد المقابلات المصورة، التي أجرها المعتقل السابق في غوانتانامو منصور الضيفي في فبراير (شباط) 2022 مع عدد من الطلاب في ولاية فيرجينيا الأميركية، عبر تقنية الفيديو، من مقر إقامته بصربيا بعد الإفراج عنه، سأله أحد الطلاب عن لحظة استسلامه لـ"الأمر الواقع" داخل السجن "سيئ السمعة"، ليرد قائلاً "لم يكن الاستسلام خياراً متاحاً، فأنت تخسر لحظة استسلامك. نرسم فيأخذون رسومنا، نكتب فيتلفون ما كتبناه. نضرب عن الطعام فيكسرون إضرابنا، ولكننا نضرب من جديد. كتبت كتابي مرتين، ففي المرة الأولى صادروه مما كسر قلبي، ولكني كتبته ثانية."
وبحسب ما كتبه الضيفي في مذكراته المعنونة "لا تنسونا هنا" (نشرت في عام 2021)، التي روت 14 عاماً قضاها في غوانتانامو، فإنه أسر في أفغانستان عندما كان في الـ19 من عمره، واحتجز من دون تهمة حتى بلوغه الـ32، مشيراً إلى أن سفره إلى أفغانستان عام 2001 كانت في مهمة لمساعدة باحث في شؤون تقنية المعلومات رتبها أحد المعاهد التعليمية في صنعاء.
ولم تكد تمضي أربعة أشهر على وصول الضيفي حتى غزت الولايات المتحدة أفغانستان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001، وبدأت بملاحقة عناصر تنظيم القاعدة، وكانت الطائرات الأميركية تلقي منشورات تعد بمكافآت مالية ضخمة لكل من يسلم مشتبهاً بهم. ويقول الضيفي إن السيارة التي كان يستقلها في شمال أفغانستان تعرضت لكمين نصبه مسلحون قبل أيام قليلة من موعد عودته لليمن، فأسر وسلم للقوات الأميركية، موضحاً بعدها أن المحطة الأولى له كانت موقعاً أميركياً "أسود" في قندهار، إذ "جرد من ملابسه وأشبع ضرباً وحقق معه واتهم بأنه قائد مصري في تنظيم القاعدة، بعد ذلك نقل جواً من قندهار، وهو مكبل بالأغلال ورأسه مغطى إلى غوانتانامو"، ليتعرض هناك لجميع أشكال التعذيب والضغوط النفسية، ومن بينها أحد أشهر وسائل التعذيب في غوانتانامو، وهي أسلوب الإيهام بالغرق، الذي استخدم ضد المتهمين بالانتماء لتنظيم القاعدة، مثل أبو زبيدة (زهدي بويري). ولا يزال أبو زبيدة، واسمه الحقيقي زين العابدين محمد حسين، ويقال إنه أول سجين خضع لـ"أساليب الاستجواب المعززة" بعد اعتقاله في باكستان عام 2002، محتجزاً من جانب السلطات الأميركية من دون محاكمة حتى الآن.
وعلى رغم إطلاق سراح الضيفي في عام 2016، إلا أن السلطات الأميركية لم تخفض تقييمها لخطورته إلا في عام 2021، معترفة بأنه "لا يمكن الجزم أنه كان مرتبطاً بتنظيم القاعدة أصلاً"، وأنها "قررت إخلاء سبيله بموجب نظام معقد من الاتفاقات السرية كان الهدف منها إعادة توطين المحتجزين في دول أخرى".
لم تكن رواية الضيفي، وهو معتقل يمني رحل إلى صربيا، مختلفة كثيراً عن روايات أقرنائه ممن جمعهم غوانتانامو لسنوات، ونشروها في كتب ومذكرات، أو حتى ببعيدة من التقارير عما جاء في عشرات تقارير الإدانة والاستنكار لأساليب التعذيب والمعاملة غير الإنسانية في السجن الأميركي، من عدد من المنظمات الحقوقية والإنسانية، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وكذلك من الاتحاد الأوروبي ومنظمة الدول الأميركية والأمم المتحدة، التي قالت في أحد تقاريرها إن "غوانتنامو مكان للتعسف وسوء المعاملة، موقع تفشى فيه التعذيب وسوء المعاملة ولا يزالان يحظيان بصبغة مؤسسية، وحيث يتم تعطيل سيادة القانون فعلياً، وحيث يتم إنكار العدالة"، واصفة إياه بأنه "ثقب أسود قانوني"، و"وصمة عار" على التزام الولايات المتحدة حكم دولة القانون.
وفي عام 2011 أظهرت وثائق نشرتها "ويكيليكس" أن محللين في الجيش الأميركي صنفوا 220 فقط من المعتقلين داخل غوانتانامو ضمن "الإرهابيين الخطرين"، وذلك بعد دراسة كل حالة، بينما اعتقل أشخاص أبرياء وعددهم في الأقل 150 معتقلاً باكستانياً وأفغانياً من بينهم سائقون ومزارعون وطهاة، مشيرة إلى أن هؤلاء اعتقلوا لسنوات بسبب خطأ في الهوية، أو لأنهم كانوا في مكان وتوقيت غير مناسبين، وهي المعلومات التي لم تنفها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) حينها، واعتبرت أن التقارير التي تضمنتها الوثائق "قديمة ومهملة".
لماذا "فشل" إغلاقه إلى الآن؟
على مدار أكثر من عقدين من الزمن، وأمام توالي الدعوات الأممية والحقوقية من مختلف أنحاء العالم لحث السلطات الأميركية على إغلاق معتقل غوانتانامو "الذي يستنزف الموارد الأميركية ويسيء إلى سمعة أميركا في العالم"، وفق توصيف الرئيس السابق باراك أوباما في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، أعلنت في أكثر من مناسبة الإدارات المتعاقبة لا سيما الديمقراطية منها عزمها المضي قدماً في تنفيذ الخطوة.
إلا أنه مع كل مرة فشلت المساعي، سواء بضغط من الكونغرس الذي يصدر سنوياً تشريعات تمنع نقل أي معتقل من غوانتانامو إلى الأراضي الأميركية لأي سبب، فضلاً عن معارضة وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) نقل السجناء الذين لديهم معلومات سرية تتعلق ببرامج اعتقالهم وتعذيبهم، وفق ما تقول صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، مضيفة أن عدداً من السجناء لم يجر توجيه تهم رسمية لهم أو محاكمتهم، لكن يجري الاحتفاظ بهم كـ"مقاتلين أعداء"، وهذا يعني أن المحاكم الأميركية لن تقبل باستخدام الأدلة التي جرى الحصول عليها تحت التعذيب، ليبقي سجن غوانتانامو في قلب السياسة الأميركية، من دون حل نهائي لقضيته، على رغم توالي أربعة رؤساء أميركيون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
ففي عهد الرئيس جورج بوش الابن، وبحسب ما وثيقة حصلت عليها صحيفة "ذي تايمز" البريطانية، نقلت عن لورنس ويلكرسن رئيس الأركان الأميركي في عهد وزير الخارجية السابق كولن باول، أن الرئيس بوش كان يعلم بأن معظم المعتقلين في سجن غوانتانامو كانوا أبرياء لكنه أبقاهم في السجن لـ"أسباب سياسية"، مضيفة أن نائب الرئيس الأميركي حينها ديك تشيني ووزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد كانا يعلمان بأن معظم السجناء في القاعدة في 2002، أي 742 معتقلاً آنذاك، كانوا "أبرياء" وأنه "لم يكن من الممكن سياسياً الإفراج عنهم".
وكتب الكولونيل ويلكرسن الذي أصبح من أبرز منتقدي سياسة بوش "تطرقت مع الوزير باول إلى مسألة سجناء غوانتانامو، وعلمت أنه كان يرى أن الرئيس بوش أيضاً يشارك في اتخاذ القرارات المتعلقة بغوانتانامو وليس فقط نائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد"، مضيفاً أن تشيني ورامسفيلد كانا يرفضان الإفراج عن "الأبرياء"، لأن ذلك "كان سيكشف اعتقالهم الخاطئ"، وأن "إبقاء أبرياء في معتقل غوانتانامو لسنوات مبرر بالحرب على الإرهاب والإرهابيين المسؤولين عن اعتداءات الـ11 من سبتمبر"، وهو الحديث الذي دعمه بأول في وقت لاحق، بحسب "تايمز".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن بوش إلى أوباما، الرئيس الأكثر وعداً بإغلاق ملف "غوانتانامو"، وكانت تلك القضية رئيسة في ولايتيه منذ حملته الانتخابية الأولي في عام 2007، مرتكزاً على أن ضغط الرأي العام كفيل بثني الكونغرس عن معارضته القوية لغلق المعتقل، لكن ذلك لم يحدث بسبب معارضة الكونغرس.
وجاءت أولى وعود أوباما بغلق غوانتانامو خلال حملته الانتخابية، وسرعان ما شهدت الأشهر الأولى من حكمه في عام 2009 مساعي في الاتجاه ذاته، إذ أمر في اليوم الأول من حكمه في الـ21 من يناير (كانون الثاني) بتعليق المحاكمات في المعتقل "سيئ السمعة"، مصدراً أمراً تنفيذياً لوكالة الاستخبارات المركزية "سي آي أي" بالتوقف عن استخدام التعذيب في التحقيقات، وإغلاق المعتقل في غضون عام واحد.
إلا أن مساعي أوباما سرعان ما تبخرت على وقع خسارة حزبه (الحزب الديمقراطي) انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس لصالح الجمهوريين في عام 2010، إذ سيطر الحزب الجمهوري على غالبية مجلس النواب والشيوخ، ليقر الكونغرس سريعاً في عام 2011 قانون "إجازة الدفاع الوطني"، ويتضمن قيوداً صارمة على استخدام الأموال العامة لنقل السجناء إلى بلدانهم أو إلى الولايات المتحدة للمحاكمة، واضعاً بذلك عراقيل أمام أية محاولة مستقبلية لإغلاق غوانتانامو.
وفي محاولة أخرى للتحرك في الملف ذاته، أعلن البيت الأبيض في الأول من مايو (أيار) من عام 2013 عزمه تعيين دبلوماسي رفيع للعمل من أجل إرسال نزلاء السجن إلى أوطانهم أو إلى بلدان أخرى تمهيداً لطي ملفه، وذلك قبل أن يعيد أوباما تأكيد عزمه غلق المعتقل "الذي يستنزف الموارد الأميركية ويسيء إلى سمعة بلاده في العالم".
وعلى مدار سنوات الولاية الثانية للرئيس أوباما، بقي السجال بينه وبين الكونغرس مفتوحاً في ما يتعلق بقضية إغلاق "غوانتانامو"، إذ اعتبر من جانبه أن الإبقاء عليه سببه القيود التي يفرضها الكونغرس، مستنكراً "إنفاق أكثر من 3 ملايين دولار على كل سجين سنوياً للإبقاء على سجن يستهجنه العالم ويستغله الإرهابيون في التجنيد"، يشار أن التكاليف تشمل "البنى التحتية والأمن والمحاكم العسكرية والموارد البشرية (الجنود والعاملين المدنيين)".
وعلى عكس أوباما قرر الرئيس السابق دونالد ترمب خلال ولايته الأولى (2017/2021) إبقاء السجن المثير للجدل مفتوحاً في زمن السلم وزيادة المعتقلين وقت الحرب، وأمر بوقف فوري لعمليات نقل المعتقلين، وعليه لم يتم سوى نقل سجين واحد فقط من غوانتانامو تحت إدارته.
بدوره وفيما تشارف ولاية الرئيس جو بايدن على الانتهاء كحال سلفه السابقين لم يتمكن بايدن من إنجاز خطوة إغلاق غوانتانامو، على رغم إعلانه وقت توليه المنصب "تأيده الخطوة"، لاعتبار المعتقل "يقوض الأمن القومي الأميركي كونه يعزز تجنيد الإرهابيين، كما يتعارض مع قيم الولايات المتحدة الأميركية".
وعلى مدار سنوات حكمه السابقة، اتخذ بايدن بعض الإجراءات النشطة للمضي قدماً في غلق غوانتانامو، من بينها تعيين تينا كايدانو ممثلة خاصة في سبتمبر (أيلول) 2022 للإشراف على نقل المعتقلين في السجن، ودعا الكونغرس في أكثر من مناسبة إلى إلغاء القيود التي تعوق إغلاق السجن في أسرع وقت ممكن. وكانت آخر الخطوات تقليل عدد السجناء المتبقين في غوانتانامو لحد 14 سجيناً، وهو العدد الأقل منذ تأسيسه في عام 2002.