Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

فرنسا تستبق المجهول بـ"دليل البقاء"

سيكون جاهزاً بحلول الصيف ويشمل إرشادات مفصلة للتصرف حال النزاعات المسلحة والطوارئ الصحية والكوارث الطبيعية

سبق أن اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فكرة إنشاء جيش أوروبي مستقل (أ ب)

ملخص

إن تعزيز فرنسا دفاعاتها العسكرية والأمنية ليس مجرد تحرك دفاعي، بل هو إعلان واضح عن قلق متزايد من التقارب بين موسكو وواشنطن. فهل نحن فعلاً على شفا حرب عالمية جديدة؟ أم أن هذه التحركات تمهد لصراعات أكثر تعقيداً في عالم لا يعترف بالثوابت؟

في خضم التوترات الجيوسياسية المتصاعدة على الصعيدين الإقليمي والعالمي، تعتزم فرنسا إصدار "دليل البقاء" كأداة استراتيجية تثير كثيراً من التساؤلات، إذ تعمل الحكومة الفرنسية على تحضير الشعب لأخطار من الممكن أن تهدد استقراره.

والدليل تعده الأمانة العامة للدفاع والأمن الوطني ويتوقع أن يكون جاهزاً بحلول الصيف المقبل ليوزع على جميع الأسر في فرنسا، بحسب وسائل الإعلام المحلية.

وعلى رغم أن هذا الدليل لا يزال في مرحلة المسودة، فإن الهدف منه تمكين الفرنسيين من التصدي لأي أزمة طارئة، سواء كانت طبيعية، أو تكنولوجية، أو سيبرانية، أو حتى أمنية.

ويتألف "دليل البقاء" من 20 صفحة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء تشمل إرشادات تفصيلية حول كيفية التصرف في حالات النزاعات المسلحة والطوارئ الصحية والكوارث الطبيعية. كما يقدم إرشادات حول كيفية حماية الأفراد والعائلات ونصائح عملية حول التضامن مع الأحباء وتجميع مستلزمات البقاء مثل الماء والطعام المعلب والمصابيح وأدوات الإسعافات الأولية.

وعلى رغم أن هذا المشروع قد يكون مفاجئاً لبعضهم، فإنه ليس الأول من نوعه، بل استلهم "دليل البقاء" من نماذج طُبقت في دول إسكندنافية مثل السويد التي أرسلت في خريف العام الماضي خمسة ملايين كتيب إلى سكانها، وتبعتها فنلندا والنرويج في الاتجاه نفسه، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كان هذا مجرد احترازات أو استعداد لمرحلة تشهد ربما تغييرات دراماتيكية على مستوى العالم.

في وجه التحولات

يؤكد المحلل السياسي رامي خليفة العلي أن هناك أسباباً واضحة لتوجه فرنسا نحو تعزيز قدراتها الدفاعية، إذ تسعى إلى تمكين مواطنيها من الصمود أمام الأزمات المختلفة، سواء كانت حوادث طبيعية أو هجمات إلكترونية أو أزمات صحية أو أمنية أو نزاعات مسلحة، وأوضح أن "التقارب المحتمل بين موسكو وواشنطن يثير تساؤلات حول التوازن الجيوسياسي العالمي، مما قد يدفع فرنسا إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الدفاعية وتعزيز قدراتها الذاتية لضمان أمنها القومي".

وفي هذا الإطار خصصت فرنسا 413 مليار يورو (446.37 مليار دولار) لموازنتها العسكرية بين عامي 2024 و2030 لتقليل الفجوة مع الولايات المتحدة وروسيا. ويشير العلي إلى أن باريس تدرك أن التغيرات في التحالفات الدولية من المحتمل أن تؤثر بصورة مباشرة في أمنها القومي، لذلك فهي تعمل على تعزيز تعاونها مع شركائها الأوروبيين من خلال تقوية قدراتها الدفاعية المتنقلة لحماية مصالحها.

 

ويضيف أن "فرنسا تتبع نهجاً شاملاً في علاقاتها الدفاعية والأمنية يرتكز على ثلاثة أسس رئيسة، الحوار السياسي العسكري والتعاون العسكري والتعاون في مجال التسلح، ومن خلال هذا النهج تحاول باريس ضمان استمرارية دورها الدفاعي داخل أوروبا وتعزيز استقلاليتها الأمنية.

وحول تأثير التقارب بين واشنطن وموسكو في الدور الأوروبي يرى العلي أنه يشكل هاجساً للدول الأوروبية، إذ قد يؤدي إلى إعادة توزيع الأدوار على الساحة الدولية، ومع ذلك يشير إلى أن أوروبا يمكنها مواجهة هذا التحدي عبر تعزيز التعاون الدفاعي بين دولها وتطوير سياسات أمنية مشتركة، مما تسعى إليه فرنسا من خلال دعم استقلالية أوروبا الدفاعية وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة.

ويوضح أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سبق أن اقترح فكرة إنشاء جيش أوروبي مستقل ويبدو من المرجح أن يجد هذا الاقتراح طريقه إلى التنفيذ في ظل التغيرات التي طرأت على السياسة الأميركية في عهد إدارة ترمب.

أما في ما يخص تأثير التوتر بين روسيا والغرب في الخيارات العسكرية لفرنسا، فيرى أن هذا التوتر قد يدفع باريس إلى تعزيز جاهزيتها العسكرية وتحديث قواتها وأسلحتها لمواجهة أية تهديدات محتملة وضمان استقرار القارة الأوروبية، ومن بين الخطوات التي تتخذها باريس إجراء تدريبات عسكرية متقدمة ضمن قواعدها مثل تدريبات حرب الخنادق التي تهدف إلى تعزيز قدرات الجيش الفرنسي في مواجهة أعداء يمتلكون تقنيات عسكرية متطورة.

وعند الحديث عن ارتباط استعدادات فرنسا بالتغيرات داخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) يرى العلي أن الإجابة تحمل جانبين، فمن ناحية نعم لأن تعزيز القدرات العسكرية الفرنسية هو جزء من تحول أوسع في إستراتيجية "ناتو" يهدف إلى رفع الجاهزية الدفاعية لدول الحلف بمواجهة التهديدات المتغيرة، ويظهر ذلك في زيادة الإنفاق العسكري الفرنسي والتدريبات العسكرية المتقدمة التي تنفذها.

لكن من ناحية أخرى هناك كثيراً من الشكوك، بحسب العلي، حول مستقبل الحلف، خصوصاً مع السياسات التي تتبعها الإدارة الأميركية الحالية، ويوضح أن هذا الأمر قد يدفع بعض الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، إلى البحث عن استقلالية دفاعية بعيدة من الهيمنة الأميركية.

ويرى أن الاستقلالية الفرنسية قد تتخذ مساراً مختلفاً عن مسار "ناتو" التقليدي، بخاصة في ظل التساؤلات حول استمرار التزام الولايات المتحدة بالحلف، إذ كانت بمثابة العمود الفقري له لعقود طويلة.

أما في ما يتعلق بالعلاقات الدفاعية بين فرنسا وألمانيا، فيؤكد العلي أن باريس تعتبر التعاون الدفاعي مع برلين ركيزة أساس للأمن الأوروبي، لا سيما في ظل التهديدات الجديدة التي تواجه القارة، مبيناً أن البلدين يسعيان إلى تعزيز شراكتهما الدفاعية من خلال تطوير مشاريع عسكرية مشتركة تسهم في تقوية قدراتهما القتالية، إضافة إلى التعاون في مجالات أخرى خارج الإطار العسكري.

استباق أم تحذير؟

الباحث السياسي نبيل شوفان يوضح أن نشر "دليل البقاء" قد يثير مشاعر متباينة بين المواطنين، فمن ناحية هناك مخاوف من أن يؤدي إلى حال من الذعر، إذ ربما يشعر بعضهم بأن هناك تهديدات وشيكة تستدعي اتخاذ تدابير احترازية عاجلة، مما قد يؤثر سلباً في الشعور العام بالأمن ويزيد من القلق والتوتر.

لكن من ناحية أخرى يرى شوفان أن توزيع هذا الدليل يمكن أن يعزز الشعور بالأمان والاستعداد لدى المواطنين، فتوفر الشفافية معلومات واضحة تقلل من التوتر الناتج من عدم اليقين. كما أنه يتيح إرشادات تساعد الأفراد على التعامل مع الأزمات والطوارئ مما يسهم في تعزيز الثقة بالحكومة واستعداداتها. إضافة إلى ذلك يمكن أن يعزز الدليل روح التضامن والانتماء والتعاون بين المواطنين، لكن لتحقيق ذلك يؤكد شوفان أهمية التواصل الدقيق مع الفرنسيين.

أما عن الأسباب الأساس وراء توزيع هذا الدليل، فيشير شوفان إلى أبعاد جيوسياسية واستراتيجية، إذ تبرز مخاوف من تصعيد عسكري روسي، إلى جانب تأثير أي تغيير محتمل في التحالفات الدولية، بخاصة بين روسيا والولايات المتحدة، في الاستراتيجية الدفاعية لفرنسا، فمثل هذه التحولات قد تؤثر في الأمن القومي الفرنسي وتضعف الدور الأوروبي في الشؤون الأمنية العالمية، مما يهدد النفوذ الفرنسي سياسياً وثقافياً.

ويلفت شوفان إلى أن تصاعد التوتر بين موسكو والغرب يؤثر بصورة مباشرة في خيارات باريس العسكرية ويدفعها إلى تعزيز استعداداتها بما يتماشى مع التحولات في استراتيجية "ناتو". وفي هذا السياق تولي فرنسا أهمية خاصة لعلاقاتها الدفاعية مع ألمانيا، معتبرة أن تعزيز القدرات الدفاعية الألمانية يصب في مصلحة الاستقرار الأوروبي، وترى أن تقوية التعاون العسكري الفرنسي- الألماني، إلى جانب التنسيق مع بريطانيا، سيسهم في تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وتحقيق توازن قوى أكبر داخل القارة الأوروبية.

ويؤكد شوفان أن تعزيز القدرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي لا يعني بالضرورة دخول القارة في سباق تسلح، لكنه يقر بأن هذه القضية ستثير جدلاً داخل فرنسا. فبينما ينظر بعضهم إلى تعزيز القدرات العسكرية الألمانية على أنه تعاون استراتيجي ضروري، هناك من سيستحضر مخاوف تاريخية مرتبطة بهذا التوجه. كما أن توزيع الأدوار العسكرية وتقاسم المسؤوليات داخل أوروبا قد يؤديان إلى خلافات، خصوصاً في شأن برامج رئيسة مثل "نظام القتال الجوي المستقبلي" و"دبابة المستقبل". وتظل باريس حذرة من ميل برلين أحياناً إلى تفضيل الشراكات مع الولايات المتحدة على حساب دعم الصناعة الدفاعية الأوروبية.

وحول إنشاء صندوق لدعم صناعة الدفاع يرى شوفان أن تأثيره في استقلالية الجيش الفرنسي يعتمد على عوامل عدة مثل آليات التمويل والمستفيدين وشروط الوصول إلى المشاريع الاستراتيجية، لكنه يؤكد أن هذا الصندوق سيسهم في دعم الشركات الدفاعية، بخاصة الصغيرة والمتوسطة، من خلال توفير التمويل اللازم للابتكار والتطوير، وهو أمر ضروري لتحقيق استقلالية أوروبا عبر الابتكار، نظراً إلى قدرتها على إنتاج جميع حاجاتها مع الحفاظ على ريادتها التكنولوجية.

ويشير إلى أن فرنسا يمكن أن تصبح قوة عسكرية أوروبية أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة إذا استطاعت إقناع بعض الحلفاء الأوروبيين مثل ألمانيا وبولندا وهولندا بعدم الاعتماد على المعدات الأميركية، مما يكون متاحاً فقط في إطار تعاون أوروبي مشترك ودمج للبرامج الدفاعية، حتى لو أدى ذلك إلى تراجع بعض الشركات الفرنسية عن ريادتها في بعض المجالات.

ويؤكد أن إلغاء الخدمة العسكرية عام 1997 خلال عهد جاك شيراك أدى إلى إنشاء جيش محترف، بالتالي لا توجد حماسة حقيقية لإعادة فرض التجنيد العسكري الإجباري. وعلى رغم استحداث الخدمة الوطنية الشاملة عام 2019 لتعزيز الالتزام المدني والعسكري بين الشباب، فإنها لا تزال طوعية ولم تتحول إلى تجنيد إجباري، ومع ذلك هناك دعوات من بعض القادة العسكريين والسياسيين إلى تعزيزها أو حتى إعادة الخدمة العسكرية القصيرة بصورة تدريجية، لكن تنفيذ ذلك على المدى المتوسط يظل احتمالاً ضعيفاً بخلاف ألمانيا التي تبحث بنشاط عن حلول لتقوية جيشها.

 

ويلفت شوفان إلى أن هذه الإجراءات ذات طابع احترازي واستباقي وتهدف أساساً إلى ردع روسيا وضمان المصداقية الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي، وليست تحركات هجومية، بل استعدادات دفاعية يمكن تحويلها بسرعة إلى عمليات عسكرية مكثفة إذا تصاعدت التهديدات، مما يمنح فرنسا مرونة في الاستجابة للتغيرات السريعة في البيئة الجيوسياسية غير المستقرة.

ويؤكد أن السياسة الدفاعية الفرنسية تأخذ في الاعتبار التهديدات الهجينة مثل الهجمات الإلكترونية والتخريب وطلب الفدية، كما ورد في قانون الدفاع السيبراني 2019- 2025، إذ لا تقتصر استعدادات فرنسا على الحرب التقليدية، بل تشمل أيضاً حماية البنية التحتية الحيوية من الهجمات السيبرانية، إضافة إلى التصدي لحملات التضليل الإعلامي والدعاية الموجهة.

أما عن إمكان أن تؤدي هذه الاستعدادات إلى رد فعل روسي معاكس، فيرى شوفان أن موسكو قد تعتبر هذه التحركات استفزازاً، مما يدفعها ربما إلى تكثيف أعمالها المزعزعة للاستقرار في أوروبا، بما في ذلك الهجمات السيبرانية. أما السيناريو الأسوأ، فهو تصعيد عسكري مباشر ضد دولة في "ناتو"، مما قد يؤدي إلى سباق تسلح متزايد وتحول الاقتصاد الأوروبي إلى اقتصاد حرب.

وتتوقع فرنسا دائماً هجمات إلكترونية على بنيتها التحتية الحيوية، بخاصة في قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات، إضافة إلى تصاعد الحملات الدعائية الروسية التي تستهدف تقسيم الاتحاد الأوروبي والحلف. ويشير شوفان إلى أن فرنسا، على رغم استعدادها لتحمل كلف الدفاع عن أمنها، تدرك أهمية البحث عن حلول دبلوماسية لتحقيق سلام عادل ودائم في أوكرانيا مع الحرص على عدم التصعيد غير الضروري.

صراعات أكثر تعقيداً

في الختام يبدو أن فرنسا دخلت في سباق مع الزمن، إذ إنها تستعد لمواجهة تحديات من المحتمل أن تغير مجرى التاريخ. وإن تعزيز دفاعاتها العسكرية والأمنية ليس مجرد تحرك دفاعي، بل هو إعلان واضح عن قلق متزايد من التقارب بين موسكو وواشنطن. فهل نحن فعلاً على شفا حرب عالمية جديدة؟ أم أن هذه التحركات تمهد لصراعات أكثر تعقيداً في عالم لا يعترف بالثوابت؟

الأيام المقبلة ستكشف عن إجابات تكون صادمة ربما، وعلى الجميع الاستعداد لمرحلة من الممكن أن تكون أكثر اضطراباً مما نتوقع. وفي هذا السياق يتساءل الجميع، هل ستكون فرنسا هي الرابحة في هذه المعركة المصيرية، أم ستجد نفسها في قلب العاصفة؟

المزيد من تقارير