ملخص
الخطوة أثارت كثيراً من الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية الإثيوبية، إذ عدها ملاحظون تمثل خرقاً معلناً لـ"اتفاقية بريتوريا" للسلام ولأحكام الدستور الفيدرالي الإثيوبي، وبخاصة أن الاقتراحات لا تخضع لأية رقابة قضائية أو تشريعية.
أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أن حكومته بصدد تشكيل حكومة جديدة لإقليم تيغراي شمال إثيوبيا، نظراً إلى انتهاء مدة الحكومة الموقتة التي شُكلت وفقاً لأحكام "اتفاقية بريتوريا" للسلام، الموقعة بين الحكومة المركزية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2022.
وفي خطوة غير مسبوقة قال آبي أحمد إن حكومته خصصت بريداً إلكترونياً للتيغراويين لاقتراح رئيس جديد للإقليم الشمالي الإثيوبي، على أن يتكفل بنفسه بتعيين الرئيس من بين الأسماء الأكثر اقتراحاً.
الخطوة أثارت كثيراً من الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية الإثيوبية، إذ عدها ملاحظون تمثل خرقاً معلناً لـ"اتفاقية بريتوريا" للسلام ولأحكام الدستور الفيدرالي الإثيوبي، وبخاصة أن الاقتراحات لا تخضع لأية رقابة قضائية أو تشريعية.
بالبريد الإلكتروني
وكان آبي أحمد برر تلك التدابير في بيان نشره عبر صفحته على منصة "إكس"، أن الأوضاع السياسية الراهنة في إقليم تيغراي لا تسمح بإجراء انتخابات رئاسية خلال الوقت الحالي، مؤكداً أن مدة الحكومة الموقتة وفقاً لنصوص "اتفاقية بريتوريا" محددة بعامين يجري على أثرها تنظيم انتخابات عامة، ونظراً إلى تعذر ذلك فإنه قرر تخصيص بريد إلكتروني تابع لرئاسة الوزراء بغرض معرفة الأسماء التي تحوز قبولاً شعبياً في أوساط التيغراويين.
ووفقاً لـ"اتفاق بريتوريا" للسلام، فإن تشكيل الحكومة الموقتة في تيغراي يخضع لإجراءات قانونية، تتمثل في انتخاب رئيس الحكومة من بين أعضاء اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، ويُقدم لرئيس الوزراء للمصادقة على تعيينه، وله حق المصادقة أو الاعتراض وإعادة الملف مرة أخرى للجبهة بغرض انتخاب اسم آخر في حال عدم الموافقة، وهو الإجراء الذي اتخذ عند تشكيل الحكومة المنتهية ولايتها.
وكانت الجبهة طالبت بتشكيل حكومة جديدة للإقليم وبخاصة بعد انتهاء مدة ولايتها، فضلاً عن إنهاء قيادة الجبهة تفويضها الممنوح لرئيس الحكومة جيتاشو رضا واعتباره "مارقاً" عن مسيرة الجبهة، خصوصاً بعد عقدها المؤتمر العام الـ14 الذي لم تعترف به حكومة الإقليم بصورة رسمية ولم تشارك في أعماله.
وخلال الأسبوع الماضي تحركت الجبهة بصورة ميدانية لفرض سيطرتها على المجالس المحلية، إذ نصبت رؤساء المدن والمديريات من دون العودة لحكومة الإقليم، وانتزعت الأختام من المسؤولين المحليين المعينين من قبل حكومة الإقليم، مما اضطر جيتاشو رضا إلى مغادرة تيغراي نحو العاصمة أديس أبابا، وعقد مؤتمراً صحافياً وصف فيه تحركات الجبهة بالانقلاب العسكري، محذراً من تحول إقليم تيغراي إلى ساحة حرب بالوكالة، واتهم قادة الجبهة بالتحالف مع النظام الإريتري لإشعال حرب ضد الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا.
جبهة تيغراي ترفض
من جهتها، اعترضت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على قرار رئيس الوزراء الإثيوبي بتعيين حاكم جديد للإقليم من خلال اقتراحات تقدم عبر البريد الإلكتروني". وقالت في بيان نشرته الصحف المحلية اليوم الخميس إنها لن تقبل بهذا القرار، مشيرة إلى أن "الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا لا تزال تعمل على تحجيم (اتفاقية بريتوريا) في الشق الخاص بوقف إطلاق النار"، من خلال التنصل من التزاماتها، وبخاصة المادة 10 من الاتفاقية التي تحدد سبل تشكيل الحكومة الموقتة للإقليم، إذ تنص على ضرورة انتخاب الرئيس من خلال التفاوض بين الجبهة والحكومة المركزية. ومن ثم فإن اللجوء إلى قرارات منفردة لتعيين رئيس الإدارة الموقتة يعد خرقاً واضحاً للاتفاق ويهدد مستقبلها.
وأوضح بيان الجبهة أن اللجنة المركزية للحزب عقدت اجتماعاً طارئاً لدراسة الأوضاع الراهنة وتقييم أداء الحكومة السابقة، ووافقت على استبدال رئيس الحكومة السابق. وبناء على مقررات اتفاق السلام أجرت اقتراعاً سرياً أفضى إلى انتخاب الجنرال تاديسي وريدي رئيساً للحكومة الموقتة في تيغراي. وبدلاً من المصادقة على قرار اللجنة كما تنص عليه الاتفاقية فإن الجبهة فوجئت أمس الأربعاء بالقرار الصادر عن رئيس الوزراء آبي أحمد.
ووصف بيان الجبهة القرار بأنه "غير مقبول" لأنه ينتهك "اتفاقية بريتوريا"، مؤكداً أن "سلطة تعيين الرئيس ليست من اختصاص رئيس الوزراء وحده".
وأشارت الإذاعة المحلية في إقليم تيغراي، إلى أن اللجنة المركزية للحزب الحاكم في الإقليم ستعد نفسها في حال انعقاد مفتوح إلى حين حل الأزمة الناتجة من قرار رئيس الوزراء الإثيوبي.
إنهاء "اتفاق بريتوريا"
المتخصص في شؤون منطقة القرن الأفريقي عبدالرحمن أبو هاشم يوضح أن الخطوات التي اتخذها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لا تستند إلى أي مستند قانوني أو سياسي، نظراً إلى أن سلطة تشكيل الحكومة الموقتة للإقليم وفقاً لـ"اتفاقية بريتوريا" تقر بأنها من اختصاص الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي كشريك شرعي للحكومة المركزية في أديس أبابا، في حين تحدد الاتفاقية صلاحيات رئيس الوزراء بقبول أو رفض التعيين.
ويضيف أن مقررات الاتفاق تقر بأحقية الجبهة في حكم الإقليم خلال المرحلة الانتقالية بواقع 51 في المئة من الحقائب الوزارية مما يمنحها حق تعيين الرئيس، ومن ثم لا يحق لرئيس الوزراء في أديس أبابا تعيين حاكم للإقليم عبر وسائل الإعلام أو البريد الإلكتروني.
وينوه أبو هاشم إلى أن هذه الخطوة قد تفضي إلى إنهاء أحكام "اتفاق بريتوريا" وإقصاء الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي عن أي دور سياسي في الإقليم، بعد أن استبعدت من مراكز السلطة على مستوى المركز في أديس أبابا.
ويرى أن قرار رئيس الوزراء قد يحفز صقور الجبهة على اكتساب أرضية جديدة، من خلال مطالبتهم بتفعيل المادة 39 من الدستور الفيدرالي الإثيوبي، الذي يقر بأحقية الأقاليم الفيدرالية بممارسة حق تقرير المصير حتى الانفصال عن إثيوبيا، مما يعضد من قوة الأجنحة الأكثر تطرفاً في الإقليم ويهدد بالتالي وحدة البلاد.
ويوضح المتخصص في شؤون القرن الأفريقي أن القرار الأخير بمثابة إعلان واضح للخروج من أحكام الاتفاق التي أنهت عامين من الحرب بين الحكومة المركزية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وحققت سلاماً نسبياً خلال العامين الماضيين.
ويرجح أبو هاشم أن يكون هدف القرار إضعاف الجبهة سياسياً أمام الرأي العام في إقليم تيغراي، ومحاولة عزلها وبخاصة بعد إنهاء تفويضها لرئيس الحكومة السابق والحليف الحالي لآبي أحمد.
ويرى أن القرار الأخير الخاص بتعيين رئيس جديد للإقليم عبر بريد إلكتروني، فضلاً عن كونه يفتقد شرعية قانونية وسياسية، فهو في الآن نفسه يدخل الإقليم وإثيوبيا عموماً في حال من عدم الاستقرار، وبخاصة في ظل الانهيار الكبير الذي يشهده الجيش الفيدرالي بمواجهاته مع ميليشيات الأمهرة، فضلاً عن الأزمات الإقليمية التي تورطت فيها الحكومة المركزية مع جوارها الأفريقي في كل من إريتريا، والصومال، والسودان ومصر.
ويختم أبو هاشم إفادته بالقول، إن إدارة آبي تواجه عواصف داخلية وخارجية تنبئ بمستقبل مقلق، إذ تشير التقديرات إلى إمكانية المغامرة بحرب جديدة مع إريتريا لصرف الأنظار عن التحديات الداخلية.
حلول مبتكرة
بدوره رأي رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية الشعبية ياسين أحمد أن التدابير التي أعلن عنها رئيس الوزراء الإثيوبي لا تهدد "اتفاق بريتوريا" للسلام بقدر ما تسعى إلى إيجاد حلول مبتكرة لأزمة الشرعية السياسية التي حدثت بعد إبرام الاتفاق، وبخاصة في أعقاب تشكيل الحكومة الأولى بقيادة جيتاشو رضا، على أساس المحاصصة الحزبية.
ويقدر المتخصص الإثيوبي أن عدم حصول الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على الترخيص القانوني من لجنة الانتخابات الوطنية الإثيوبية فاقم من أزمة الشرعية السياسية والتمثيل الحزبي في الإقليم، ومن ثم فإن رئيس الوزراء الإثيوبي لجأ إلى آلية مبتكرة لتثبيت الترشيح الشعبي لرئيس الحكومة الموقتة للإقليم، مشيراً إلى أن هذه الطريقة غير المسبوقة قد تكون وسيلة ناجعة لتعزير شرعية الحكومة القادمة في ظل عدم توافر الحزب الحاكم على اعتراف لجنة الأحزاب السياسية.
ويبرر ياسين الخطوة على ضوء الأزمة الراهنة في الإقليم، والناتجة من الصراع حول السلطة والشرعية السياسية، وبخاصة بعد الانقسامات التي شهدها حزب الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، الذي تشظى إلى تيارات تتصارع على السلطة والثروة بإقصاء أحزاب المعارضة والنخب المثقفة في الإقليم.
ويهدف قرار آبي أحمد في تقديره، إلى إجراء استفتاء شعبي على اختيار الشخص الذي سيحظى بغالبية أصوات شعب تيغراي وليس على مبدأ المحاصصة الحزبية التي برهنت على فشلها خلال العامين الماضيين في ظل احتكار الجبهة لكل مفاصل السلطة المحلية في الإقليم.
ويرى ياسين أن التجاذبات السياسية في تيغراي قد تجد طريقها للحل في حال نجاح خطة آبي أحمد في اختيار رئيس جديد لحكومة الإقليم، من خلال تفاهمات سياسية بين حزب الازدهار الحاكم في أديس أبابا والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، عبر إشراك أحزاب المعارضة في الإقليم بتشكيل الحكومة حتى إجراء الانتخابات الإثيوبية عام 2026.
ويضيف "لكن في حال فشل التوصل إلى تفاهمات بين الطرفين، فإن ثمة سناريو آخر قد تضطر معه الحكومة المركزية إلى حملة أخرى لإنفاذ القانون عبر استخدام القوة العسكرية، وقد يؤدي ذلك إلى نشوب حرب جديدة بين الدولة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، مما قد يحدث تداعيات إقليمية ودولية وبخاصة في ظل تحالفات مصالح مشتركة لبعض الدول الإقليمية والدولية المتحالفة مع طرفي النزاع".
واقع جديد
يرفض رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية الشعبية، أن يؤدي قرار آبي أحمد إلى إنهاء "اتفاق بريتوريا" للسلام، أو أن يمثل خرقاً لبنودها، مشيراً إلى أن ثمة واقعاً جديداً تشكل بعد انقسام الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على نفسها إلى جناحين متصارعين على الشرعية السياسية.
ويوضح "منذ أن دعت الجبهة لمؤتمرها الـ14 خلال أغسطس (آب) الماضي، ثمة تنازع وطعن على شرعيتها بين تيارين نافذين داخلها، وبخاصة أن المؤتمر جرى من دون استيفاء الشروط التي تحددها لجنة الانتخابات الوطنية الإثيوبية، ولم يُعترف به من قبل ذات اللجنة، بل إن اللجنة أصدرت مرسوماً يحظر أنشطة الحزب، ومن ثم فإن أياً من جناحي الجبهة لا يحظى بالشرعية القانونية، بالتالي فإن الحكومة المركزية تسعى إلى تحقيق الشرعية السياسية للحكومة المراد تشكيلها في الإقليم عبر شبه استفتاء إلكتروني يتجاوز الواقع القانوني والسياسي الراهن في الإقليم.
وفي رده على تناقض ذلك مع نصوص "اتفاقية بريتوريا"، يرى ياسين أن الواقع السياسي هو الذي فرض هذه التدابير الاستثنائية، مضيفاً أن الجبهة كانت أول من خرق الاتفاق منذ عامين باحتكارها لجميع السلطات داخل الحكومة الموقتة، وذلك في مخالفة صريحة لبنود الاتفاقية التي تنص على نسبة 51 في المئة للجبهة وإشراك أحزاب المعارضة فضلاً عن التكنوقراط ومؤسسات المجتمع المدني والنخب الثقافية والجيش في بقية الحقائب الوزارية المقدرة بـ49 في المئة، لكن الجبهة استأثرت بالسلطة منفردة طوال العامين الماضيين، فيما أبدت الحكومة المركزية مرونة واضحة في شأن بعض بنود الاتفاقية تحقيقاً للسلم، وهو ما يضطرها الآن أيضاً إلى التعاطي مع بنود الاتفاقية بمزيد من المرونة وابتكار الحلول المناسبة للمرحلة.