ملخص
تستخدم أوكرانيا تكتيكات غير تقليدية للسيطرة على البحر الأسود، مثل الطائرات المسيرة وصواريخ كروز، بدلاً من الأسطول التقليدي. بعد تدمير الطراد الروسي "موسكفا"، تراجعت قوات البحرية الروسية إلى مخابئها، مما أتاح لأوكرانيا استعادة السيطرة على مناطق استراتيجية في البحر.
تتكتم أوكرانيا في شأن حجم أسطولها البحري. وهذا ليس مفاجئاً، فهي بالمعنى التقليدي للكلمة، لا تملك أسطولاً بحرياً فعلياً. بيد أن كييف تسيطر على البحر الأسود بأسطولها شبه الخفي.
بعد ثلاثة أعوام من شن فلاديمير بوتين غزواً شاملاً على أوكرانيا أدى إلى تدمير معظم أسطول كييف، بات أسطول البحر الأسود الروسي خائفاً ويقبع في مخابئه.
وصفت وزارة الدفاع البريطانية أسطول البحر الأسود الروسي بأنه "معطل وظيفياً"، وكانت الضربة القاصمة عندما أغرقت الصواريخ الأوكرانية عام 2022 الطراد "موسكفا"، السفينة الرئيسة للأسطول الروسي، مما شكل نكسة كبيرة لبحرية بوتين.
لذلك، ليس من المستغرب أن تتركز مساعي الرئيس الروسي لوقف إطلاق النار مع أوكرانيا على المطالبة بتعليق القتال في البحرين الأسود وآزوف، حيث فقد نحو 30-40 في المئة من سفنه، بينما اختبأت البقية في موانئ روسية مثل نوفوروسيسك.
طاقم إحدى سفن الدوريات الأوكرانية القليلة، وهي زورق من فئة "آيلاند" تمت إعادة تأهيله وكان تابعاً لخفر السواحل الأميركي في الماضي، يشعر بالإرهاق. لقد سهروا طوال الليل وهم يستخدمون مدفع السفينة مزدوج الفوهة، مستهدفين طائرات "شاهد" الروسية المسيرة التي كانت تُحلق في سماء أوديسا.
ومع ذلك، ومع استمرار السفن التجارية في الإبحار بهدوء إلى الموانئ على طول الساحل الجنوبي لأوكرانيا، بدا الطاقم واثقاً، فهم لم يروا أية سفينة روسية منذ شهور.
يقول القائد البحري ميخايلو: "ربما تصلنا بعض المسيّرات البحرية من الجانب الروسي، لكن ليس كثيراً. أما الهجمات الجوية من شبه جزيرة القرم، فنتعرض لها يومياً أو في الأقل كل يومين".
ويضيف: "لا نعرف وجهة كل طائرة شاهد تحلق فوقنا - ربما نكون نحن الهدف".
لكن القباطنة الروس ربما يكونون أكثر قلقاً.
منذ عام 2022، نجحت أوكرانيا، التي يضم سلاحها البحري نحو 11 ألف فرد، في إغراق ما لا يقل عن 20 سفينة روسية، من بينها الطراد "موسكفا"، وعدة سفن إنزال للقوات، وكثير من القطع البحرية الصغيرة.
تعزى هذه الخسائر بالكامل إلى شكل جديد من الحروب البحرية ابتكرته البحرية الأوكرانية، إذ إن كييف، باستثناء زورق الدوريات من طراز "آيلاند" وعدد قليل من القوارب الصغيرة فيما يعرف بـ"أسطول البعوض"، لم تعد كييف تكترث بامتلاك السفن التقليدية.
أما كاسحات الألغام التابعة للبحرية الملكية البريطانية، التي نُقلت إلى البحرية الأوكرانية، فقد بقيت عالقة في المملكة المتحدة، إذ لا يمكنها العبور عبر مضيق البوسفور، بعدما حظرت تركيا مرور السفن العسكرية عبر هذا الممر الإستراتيجي منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022.
بدلاً من التركيز على بناء أسطول بحري، كان النهج الأوكراني يعتمد على استخدام الصواريخ البعيدة المدى، وصواريخ كروز، والطائرات المسيّرة تحت الماء وعلى السطح - وجميعها تقريباً محلية الصنع في أوكرانيا. وقد دفعت هذه الإستراتيجية أسطول البحر الأسود الروسي إلى حافة العجز عن العمل.
يقول القائد البحري: "لسنا بحاجة إلى أسطول لتدمير الأسطول الروسي. لدينا أشخاص أذكياء للغاية يصنعون الطائرات البحرية المسيّرة. الطائرات البحرية المسيّرة والصواريخ".
أما صادرات أوكرانيا من الحبوب وغيرها من المنتجات، فقد عادت إلى مستويات ما قبل الحرب، بعدما كانت مشلولة بسبب الهجمات الروسية المتكررة في البحر. وقد انهار الاتفاق الموقت الذي سمح بمرور المنتجات الزراعية عبر البحر الأسود بحرية في يوليو (تموز) 2023.
استخدام أوكرانيا الطائرات البحرية المسيّرة، إلى جانب تدفق شبه غير محدود من المعلومات الاستخباراتية من الطائرات البريطانية وطائرات الـ"ناتو" الأخرى، والأقمار الاصطناعية الأميركية للتجسس، وعمليات اعتراض الإشارات، مكّن كييف من استعادة الوصول إلى ممراتها المائية.
كما ساعدها ذلك على تجنب المعارك الطاحنة التي ميزت الحرب البرية.
في الأيام الأولى للصراع المتجدد عام 2022، كان القائد البحري مسؤولًا عن سفينة أخرى، وموقعها الحالي سرّ عسكري، لكنها على الأرجح قد أُغرقت. ربما خلال الاشتباك الذي يتذكره ميخايلو جزئياً فقط.
كان يعلم من راداره أن صاروخين روسيين كانا متجهين نحوه.
يقول وهو واقف على جسر زورق الدورية الذي يستخدمه الآن في تأمين الممرات البحرية الحيوية لبقاء أوكرانيا: "لقد أُسقطت إحداهما. أما الآخر... فلن أتحدث عن هذا. لكنني لن أكذب عليك، إنه لأمر مخيف حقاً أن تعلم أن هذه الصواريخ آتية وأنك قد تكون في آخر لحظات حياتك".
ويشرح الملازم القائد سيدريك دميترو بلينتشوك، وهو متحدث باسم البحرية الأوكرانية، كيف تمكنت أوكرانيا من فرض سيطرتها على روسيا بعد النكسات الأولية.
ويقول: "حدث ذلك على عدة مراحل مهمة. استغرق الأمر وقتاً طويلاً، لكن نقطة التحول الرئيسة كانت تدمير السفينة الحربية ’موسكفا’، مما سمح لنا بتحرير الجزء الشمالي من البحر الأسود".
ويردف "بعد ذلك، غيرت الطائرات البحرية المسيرة قواعد اللعبة. اضطر الروس إلى مغادرة الجزء الغربي والأوسط من البحر الأسود."
كانت شبه جزيرة القرم، التي استولت عليها روسيا عام 2014، مقراً لأسطول البحر الأسود السوفياتي سابقاً، وبعد استقلالها عنه، اتخذت منها البحرية الأوكرانية مقراً لها.
ضم بوتين شبه الجزيرة بشكل غير قانوني عام 2014. وعام 2022، استخدمتها قواته كنقطة انطلاق للتوغل أكثر داخل الأراضي الأوكرانية، وكقاعدة انطلاق رئيسة للطائرات المسيرة ولشن الغارات الجوية.
يقول بلينتشوك: "كانت المرحلة التالية هي استهداف القواعد العسكرية في القرم. اضطر الروس إلى سحب سفنهم الحربية من موانئ شبه جزيرة القرم المحتلة. وبعد ضرب الموانئ في الجزء الشرقي من البحر الأسود، وساحل بحر آزوف الشرقي، اضطر الروس إلى الانسحاب من بحر آزوف أيضاً".
ويتابع: "يضطر الروس حالياً إلى الاختباء في قاعدة نوفوروسيسك البحرية، حيث يتعين عليهم تحريك السفن باستمرار لتجنّب ضرباتنا".
يُبحر قارب ميخايلو وهو مُسلح بشكل خفيف بمدفع وأربعة رشاشات ثقيلة من عيار 50 ملم. إنه سريع وسهل المناورة، ويُستخدم بشكل رئيس لمرافقة السفن المدنية على طول طرق التجارة الأوكرانية.
وقبل بضعة أيام فقط، تعرضت سفينة شحن الحبوب "أم جيه بينار" التي ترفع علم باربادوس إلى قصف صاروخي روسي أثناء رسوها في أوديسا، الأمر الذي أسفر عن مقتل أربعة من أفراد طاقمها، جميعهم سوريون.
الهجمات الروسية على الأهداف المدنية لا تتوقف، سواء على اليابسة أو في البحر.
لا يزال هذا أحد الأسباب التي تجعل الأوكرانيين يرفضون بشكل قاطع وقفاً كاملاً لإطلاق النار مع روسيا إذا لم يكن هناك ضمانات لتنفيذه. فأكثر من 80 في المئة من الأوكرانيين يعتقدون أن طموحات روسيا لا تقتصر على الأراضي التي احتلتها موسكو بالفعل.
كان نجاح أوكرانيا في البحر الأسود مصدر إلهام آخر كان قد بدأ منذ اليوم الأول للغزو الروسي الشامل عام 2022.
في ذلك الوقت، أرسل طراد روسي رسالة لا سلكية إلى القوات الأوكرانية التي تحرس جزيرة الثعبان المنعزلة قبالة الساحل الجنوبي تطالبها بالاستسلام وإلا فإنها ستتعرض للقصف.
لكن ردهم كان واضحاً: "أيها الطراد الروسي، اذهب إلى الجحيم". وكان ذلك الطراد هو "موسكفا".
© The Independent