Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

فرح ناقص ومقعد خال... عندما يجدد العيد جراح الفقد

تشير أبحاث نفسية إلى أن المناسبات العائلية قد تؤدي إلى ارتفاع مستويات الحزن والقلق خصوصاً خلال الأشهر الأولى بعد رحيل أحد الأحبة

كشفت دراسة أميركية عن أن 41 في المئة من البالغين يشعرون بضغط نفسي أعلى خلال الأعياد مقارنة ببقية أيام العام (اندبندنت عربية)

بينما تحمل الأعياد طابع البهجة والتقارب العائلي فإنها قد تتحول بالنسبة إلى بعضهم للحظات صامتة من الحزن والحنين، ولا سيما عند أولئك الذين فقدوا أحبابهم، فعندما يجتمع أفراد العائلة حول مائدة الطعام يصبح الغياب أكثر وضوحاً، والمقعد الخالي أكثر إيلاماً، ففي الأعياد والمناسبات العائلية تتضاعف المشاعر، إذ ترتبط هذه المناسبات بطقوس محببة وذكريات دافئة اعتاد فيها الأحبة أن يكونوا حاضرين، لكن الفقد يغير المعادلة فيتحول العيد من مساحة فرح إلى ساحة شوق.

مشاعر مختلطة وألم متجدد

تشير أبحاث نفسية إلى أن المناسبات الخاصة، بما فيها الأعياد، قد تؤدي إلى ارتفاع مستويات الحزن والقلق، وخصوصاً خلال الأشهر الأولى التي تلي الفقد، ففي دراسة أجريت عام 2021 في الولايات المتحدة من قبل مؤسسة (Hospice Care Plus)، أفاد 36 في المئة من المشاركين بأنهم لا يرغبون في الاحتفال بأعياد نهاية العام بسبب مشاعر الحزن أو الفقد، مشيرين إلى أن المناسبات تمثل محفزاً قوياً لاستعادة الذكريات المؤلمة وغياب الأحبة.

وفي دراسة لاحقة نشرت عام 2023 عن الجمعية الأميركية لعلم النفس (American Psychological Association)، فقد كشفت عن أن 41 في المئة من البالغين يشعرون بضغط نفسي أعلى خلال موسم الأعياد مقارنة ببقية أيام العام، فيما قال 89 في المئة إنهم يعانون مستويات متفاوتة من التوتر خلال هذه الفترة تحديداً، لأسباب تشمل الفقد والضغوط الاجتماعية والتوقعات المرتبطة بالاحتفال.

الفراغ العاطفي

يتجدد الحزن خلال العيد لأسباب عدة، أبرزها الفراغ العاطفي الذي يخلفه غياب شخص اعتاد أفراد الأسرة وجوده، والذكريات المشتركة التي ترتبط بطقوس العيد من تحضير الطعام إلى استقبال الضيوف، إضافة إلى المقارنات بين أعياد ماضية كان فيها الفقيد حاضراً واليوم حين غاب حضوره، كما تلعب الضغوط الاجتماعية دوراً في تعميق الشعور بالشجن، إذ يُنتظر من بعضهم إظهار الفرح على رغم الألم الداخلي، فضلاً عن الرسائل والاتصالات التي تذكر العائلة بشخص لم يعد بإمكانهم تهنئته أو تلقي التهاني منه.

وتوضح المعالجة النفسية والاختصاصية الأولى في مدينة الملك عبدالعزيز الطبية، منيرة الهذلول، خلال حديثها إلى "اندبندنت عربية"، أن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته ويسعى إلى بناء علاقات تمنحه الأمان والاستقرار النفسي، مما يجعل فقدان شخص مقرب ليس مجرد غياب جسدي بل خسارة عميقة لمصدر دعم عاطفي أساس، مضيفة أن مشاعر الحسرة لا تزول مع مرور الزمن بل تصبح جزءاً من النسيج العاطفي للإنسان، وتتجدد مع كل مناسبة كان للراحل فيها حضور لا يعوض، فالأعياد بما تحمله من طقوس وتقاليد تعيد للواجهة تفاصيل ارتبطت بأشخاص غابوا، وتظهر بوضوح الفراغ الذي خلفوه، مما يجعل التكيف مع الغياب رحلة طويلة تحتاج إلى وعي وصبر وتقبل لمشاعر الحنين التي تطفو في مثل هذه اللحظات.

 

التوقعات الاجتماعية

وأشارت الهذلول إلى أبرز العوامل النفسية التي تسهم في تجدد مشاعر الحزن خلال هذه الفترات وما يعرف بالتوقعات الاجتماعية، إذ يشعر بعضهم بضغط نفسي عندما لا تنسجم حالهم العاطفية مع الأجواء الاحتفالية العامة، مما يدفعهم أحياناً إلى العزلة، مضيفة أن "الذكريات تلعب دوراً محورياً، فبمجرد قدوم العيد يبدأ شريط من اللحظات الماضية في التدفق حاملاً معه مشاهد وعلاقات ارتبطت بالراحلين، فيتجدد الحزن لفقدهم، وإضافة إلى ذلك يؤدي تغير الروتين اليومي وتوقف الإيقاع المعتاد خلال الأعياد إلى خلق مساحة للتأمل الذاتي، مما يجعل مشاعر الفقد أكثر حضوراً ووضوحاً".

اضطراب الحزن المطول

وذكرت المعالجة النفسية منيرة الهذلول أن تأثير الحزن خلال الأعياد يختلف من شخص لآخر، إذ يعتمد على عوامل عدة مثل طبيعة الفقد ومستوى الدعم الاجتماعي والقدرة على التكيف العاطفي، مشيرة إلى أن مشاعر الحزن تمر بمراحل متباينة تبدأ قبل العيد حين ترتفع مستويات الحزن بسبب استحضار أطياف الماضي، والتوقعات الاجتماعية التي قد لا تتوافق مع الحال النفسية للفرد، وخلال أيام العيد تسهم الطقوس واللحظات العائلية في تعميق هذا الحزن لما تحمله من رمزية وارتباط بالشخص الراحل، أما بعد انقضاء المناسبة فتبدأ محاولات العودة للروتين، وهو ما لا يعني بالضرورة اختفاء الحزن بل قد يستمر كظل عاطفي يتطلب وقتاً وتفهماً لتجاوزه.

وجواباً عن سؤال "اندبندنت عربية" حول كيفية تمييز الشخص بين الحزن الطبيعي واضطراب الحزن المطول، أوضحت الهذلول أن الحزن الطبيعي يعد استجابة فطرية لأي فقد أو تغير جذري في الحياة، وغالباً ما يخف تدرجياً مع مرور الوقت من دون أن يعطل قدرة الفرد على ممارسة حياته اليومية أو يمنعه من التكيف مع واقعه الجديد، أما في حال اضطراب الحزن المطول فإن الشخص يجد صعوبة في تجاوز الفقد والتأقلم معه، إذ تستمر مشاعر الحزن العميق لأكثر من عام من دون تحسن ملحوظ، وتظل ذكريات الفقد حاضرة وكأنها حدثت للتو، مما يعوق التكيف مع الحياة اليومية ويؤثر سلباً في النوم والعلاقات الاجتماعية والأداء الوظيفي.

الشعور بالذنب

وتقول الهذلول إن من أبرز الحواجز التي تعوق الاستمتاع بأجواء العيد لدى بعضهم الخوف من أن يكون الفرح نوعاً من النسيان لمن فقدناهم، وكأن الشعور بالسعادة خيانة لذكراهم، مكملة أن "هذا الإحساس يولد سلسلة من الأفكار المتضاربة تجعلنا عالقين بين الحزن وتأنيب الضمير، فنميل إلى تجنب اللحظات الجميلة أو التقليل من شأنها خشية أن تفهم وكأنها تقليل من قيمة الفقد"، لكنها تؤكد أن الفرح لا يلغي الذكرى ولا ينقص من عمق الحزن، بل إن الاحتفال يمكن أن يكون امتداداً للحب والوفاء، فعندما نختار أن نحمل ذكريات من فقدناهم في قلوبنا فإننا نشركهم معنا بطرق رمزية، سواء من خلال ذكر أسمائهم أو استحضار ما كانوا يحبونه أو مشاركة حكاياتهم مع من نحب، ولتخفيف أثر هذه المشاعر توصي منيرة الهذلول باتباع خطوات عملية عدة، أولها تقبل المشاعر كما هي من دون محاولة كبتها أو تجاوزها بسرعة، فالمشاعر أشبه بالموجات، وكلما سمحنا لها بالمرور من دون مقاومة خفّ تأثيرها فينا.

كما تنبه الهذلول إلى أهمية وضع حدود صحية بوعي، فليست كل مناسبة تتطلب الحضور، وليس كل لقاء يستحق أن يستنزف طاقتنا، بل من المهم التمييز بين الرغبة الحقيقية في المشاركة والحاجة الموقتة إلى العزلة من أجل استعادة التوازن النفسي، وتشجع على كسر الروتين المعتاد خلال الأعياد عبر السفر أو الانضمام إلى الأعمال التطوعية أو ممارسة أنشطة تعكس الحاجات العاطفية خلال تلك المرحلة، لافتة إلى أن الحفاظ على التواصل مع الآخرين، ولو بوسائل بسيطة مثل الرسائل أو المكالمات، قد يساعد في التخفيف من الشعور بالوحدة، مؤكدة أن طلب الدعم عند الحاجة ليس ضعفاً بل هو خطوة مهمة، فمشاركة المشاعر مع شخص مقرب قد تسهم في فهمها والتعامل معها بصورة أفضل.

حاجات الفاقد وكيفية الدعم

من جهته يؤكد استشاري الطب النفسي الدكتور عبدالله المضيان في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن دعم شخص فقد عزيزاً خلال الأعياد يتطلب حساسية ووعياً عاطفياً عميقاً، إذ إن أهم ما يمكن تقديمه هو احترام حاجات الفاقد، سواء تمثلت في الرغبة في الحديث أو التزام الصمت.

اقرأ المزيد

وأوضح المضيان إمكان أن يقدم الأصدقاء وأفراد العائلة الدعم من خلال الحضور العاطفي الهادئ، فمجرد الحضور الصامت أحياناً يكون كافياً من دون الحاجة إلى كثير من الكلمات، كما أن دعوة الشخص للمشاركة في الأنشطة العائلية أو الاحتفالية من دون فرض أو ضغط قد تمنحه شعوراً بالاحتواء، مشيراً إلى أن "التذكير بذكريات إيجابية عن الفقيد عبر مشاركة مواقف أو قصص مبهجة يعد وسيلة فعالة لتخفيف الألم، إضافة إلى تقديم المساعدة العملية عند الحاجة، مثل تجهيز الطعام أو ترتيب المنزل، بخاصة أن الشخص المفجوع قد لا يملك الطاقة لذلك، والمهم أن يكون هذا الدعم لطيفاً ومتواصلاً من دون أن يبدو كتطفل أو عبء على مشاعره".

بين تقاليد وطقوس جديدة للعيد

وحول ما إذا كان من الأفضل للأسر الثكلى الحفاظ على تقاليد العيد أو ابتكار طقوس جديدة، يوضح استشاري الطب النفسي أن القرار يجب أن ينبع من شعور الأسرة بالراحة، مضيفاً أن "بعض الأسر تجد في التقاليد عزاء واستمرارية، بينما تراها أسر أخرى مؤلمة ومضاعفة للفقد، ومن الناحية النفسية يمكن ابتداع طقوس جديدة مثل زيارة أصدقاء الفقيد أو أعمال خيرية باسمه، لتكون وسيلة صحية للتكيف مع الحزن والحفاظ على معاني العيد."

وأوضح الدكتور المضيان أن الإستراتيجيات طويلة الأمد قد تسهم في التأقلم مع فترات الأعياد، مشيراً إلى أن التحضير النفسي المسبق ووضع خطة واضحة لقضاء العيد يساعدان في تقليل مشاعر الإحباط أو المفاجأة، ومؤكداً أهمية الحفاظ على توقعات واقعية وتقبّل فكرة أن الأعياد قد لا تكون كما كانت في السابق، وهو ما يعد جزءاً طبيعياً من عملية التكيف مع الفقد.

وفي ما يخص وجود الأطفال في لحظات الحزن، أشار المضيان إلى أن الأطفال يتأثرون برحيل الأحبة بصورة عميقة، لكن طريقة تقديم الحزن لهم تلعب دوراً كبيراً في تشكيل تجربتهم، فمن الأفضل عدم إبعادهم تماماً من الأجواء الحزينة، إذ قد يؤدي ذلك إلى شعورهم بالارتباك أو الخوف من التعبير عن مشاعرهم، وبدلاً من ذلك يمكن إشراكهم في مثل هذه المواقف بطريقة تراعي أعمارهم، وتشجيعهم على تذكر الفقيد من خلال لحظات جميلة جمعتهم به، فهذا النهج يعزز فهمهم للحزن كجزء طبيعي من الحياة، ويمنحهم شعوراً أكبر بالأمان العاطفي.

المزيد من تحقيقات ومطولات