معادلة الدكتور هنري كسنجر صارخة "إذا كانت عداوة أميركا مخيفة فإن صداقتها مميتة".
الجزء الأول من المعادلة بدأ سقوطه أيام الرئيس باراك أوباما و"القيادة من المقعد الخلفي"، واكتمل مع الرئيس دونالد ترمب. فالعداء لأميركا صار رصيداً واسألوا روسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا. والجزء الثاني كرّس تأكيده عملياً ترمب. واسألوا الكرد الذين راهنت عليهم واشنطن لهزيمة داعش، وحين أخرجوا "دولة الخلافة الداعشية" من شرق الفرات، رمتهم أميركا تحت الدبابات التركية، وقالت دمشق إنه لا مكان لهم بداعي التعامل مع أميركا، وأعلنت روسيا تفهّم "المخاوف الأمنية" التركية. ومن الصعب على ترمب ترقيع الخرق الذي جعله واسعاً بالتفاهم مع الرئيس رجب طيب أردوغان. فالخيارات الثلاثة التي تحدث عنها، وهي إرسال آلاف الجنود أو فرض عقوبات أو القيام بوساطة، جاءت متأخرة ولا فائدة منها. إذ "فات الوقت على تمني الصحة الجيدة لرجل وأنت تسير في جنازته"، كما يقول مثل روسي. والتناقض اليومي في خطاب ترمب لا يحجب حجر الأساس الذي يبني عليه الرجل سياسته الخارجية. فقبل دخول البيت الأبيض وعد بـ "وقف الحلقة المدمرة للتدخل والفوضى وإسقاط حكومات لبلدان لا نعرف عنها شيئاً". وفي البيت الأبيض كرر القول إن "الذهاب إلى الشرق الأوسط هو أسوأ قرار في تاريخ بلادنا".
كان واضحاً منذ البدء أن الرهان الأميركي على شرق الفرات أكبر من الإمكانات التي وضعتها واشنطن لتحقيقه، وهذا ما أشار إليه الموفد الأميركي إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بريت ماكغورك، الذي استقال بعد إعلان ترمب سحب القوات الأميركية في شتاء العام الماضي. فهو اختصر في مقال نشرته "فورين أفيرز" ما أريد تحقيقه من نشر القوات الأميركية في سوريا بخمس نقاط: "المساواة مع روسيا، احتواء إيران، ضبط تركيا، إبقاء الدول العربية على الخط، منع عودة داعش". لا بل أن جيمس جيفري الذي خلفه في المهمة وسع بيكار الأهداف من استمرار الحضور العسكري شمال سوريا كما يأتي: "متابعة محاربة داعش، منع أطراف أخرى من ملء الفراغ، دعم إسرائيل ضد عرض القوة الإيرانية، وقف حصول النظام على المال لإعادة الإعمار، وقف جهود النظام وروسيا لإعادة اللاجئين، وعرقلة الاعتراف بالنظام السوري ثنائياً وفي الجامعة العربية". ولا مجال لتحقيق كل هذه الأهداف من خلال وجود عسكري محدود لكن الانسحاب يجعلها أوهاماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع أن حرب سوريا التي دمرت البلد ونسيجه، صنعت عجائب للآخرين. فهي كانت منصة للصعود الروسي وساحة لتكريس النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان والعراق، وفرصة لمد "العثمانية الجديدة" على الأرض خارج حدود تركيا، وغابة للصيد الإسرائيلي، وتجربة لتنظيم الإرهاب الداعشي في "دولة"، ومهلة للهبوط الأميركي. فلولا الدخول العسكري الروسي إلى سوريا بعد ضم القرم وخرق سيادة جورجيا وأوكرانيا، لكانت روسيا "قوة إقليمية". ومن دون العمق الاستراتيجي والنفوذ الإقليمي فإن الجمهورية الإيرانية تصبح مجرد "بنغلاديش شيعية". والصين تتوسع خارج حدودها وتتطور من قوة برية إلى قوة بحرية وجوية. وتركيا التي فشل رهانها على قيادة العالم الإسلامي من خلال الإخوان المسلمين في تونس ومصر وسوريا، تحاول التعويض بغزو الشمال والشرق في سوريا ليستطيع أردوغان لعب دور "السلطان الجديد". فهو كان يقول للأميركيين "إن 100 ميل مربع بين حلب والموصل هي منطقة أمنية تركية". وهو اختلف مع رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو لكنه يطبق نظريته حول تحول تركيا من "دولة جناح" للغرب إلى "دولة محور" للشرق. أما ترمب الذي ينتقد أوباما في كل شيء، فإنه يكمل سياسة أوباما عملياً بالنسبة إلى "التحول من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى". وإذا كان يهم الرئيس فلاديمير بوتين إضعاف أميركا وتفكيك الاتحاد الأوروبي، فإن ترمب يساعده في الهدفين عبر التخلص من مسؤوليات أميركا العالمية. وما يمارسه تحت شعار "لنجعل أميركا عظيمة ثانية" هو إضعاف أميركا وتهديد حلفائها وإرضاء خصومها. فالقوة العظمى الأميركية من دون مسؤولياتها العالمية تصبج مجرد "كندا كبيرة".
وليس أخطر من الغزو التركي لشرق الفرات سوى التراجع الأميركي. وما يزيد في خطرهما معاً هو خطر التغيير الديموغرافي الذي بدأت تركيا التحضير له في الشمال السوري، والتغيير الديموغرافي الآخر الذي تعمل له إيران في سوريا والعراق. ولعبة قلب الحقائق لا تتغير. حين احتل البريطانيون البصرة على الطريق إلى بغداد في عشرينات القرن الماضي، ادّعى قائد القوات البريطانية الجنرال مود أنهم "محررون لا محتلون". ومثل هذا ما ردده الأميركيون خلال غزو العراق. وأردوغان يخرق السيادة والشرعية الدولية تحت أنظار أميركا وروسيا رافعاً شعار: "الاحتلال من أجل الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها والقضاء على الإرهاب". أي إرهاب؟ "إرهاب" قوات سوريا الديمقراطية التي هزمت داعش الإرهابي.