في مؤشرٍ جديدٍ على ثقة المستثمرين بمستقبل الاقتصاد السعودي، نجحت الرياض في تسويق ثالث إصدارها للصكوك السياديَّة بالأسواق العالميَّة وسط إقبالٍ كبيرٍ عكس حالة التفاؤل وعدم التأثر بعد الهجمات الأخيرة على منشآت "أرامكو".
وفي هذا الصدد قال محللون ومختصون، "الإقبالُ يعكس قوة الاقتصاد السعودي الذي يعدُّ قوةً استثماريَّة عالميَّة، لما يمثله من ملاذٍ آمنٍ لمستثمري الدخل الثابت، كما أنه يمثل فرصاً جيدة لتمويل الخطط التنمويَّة في السعوديَّة، لا سيما مع انخفاض نسبة الدَّين العام السعودي إلى الناتج المحلي الإجمالي لنحو 19.1%، ما يتيح المساحة الكافيَّة لإصدار أدوات دين محليَّة وأجنبيَّة جديدة".
وفي أحدث إصداراتها، أعلنت وزارة الماليَّة السعوديَّة، أنها "انتهت من استقبال طلبات المستثمرين على إصدارها الدولي الثالث للصكوك السياديَّة بقيمة 2.5 مليار دولار"، بعد أن جمعت 3 مليارات يورو (3.3 مليار دولار) من بيع باكورة سنداتها بالعملة الأوروبيَّة الموحدة في يوليو (تموز) الماضي، و7.5 مليار دولار من سندات تقليديَّة في يناير (كانون الثاني) 2019.
وحسب بيان الماليَّة، "تُستحق الصكوك الجديدة في شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2029 بسعر عائد يعدُّ الأدنى لإصدارات السعوديَّة مدة 10 سنوات، وصل المجموع الكلي لطلبات الاكتتاب أكثر من 13.4 مليار دولار، وتجاوزت نسبة التغطيَّة 5 أضعاف إجمالي الإصدار".
والسندات الحكوميَّة هي أداة دين تلجأ إليها الحكومات لتمويل مشروعاتها، إذ إنها توفر عائداً جيداً للمستثمرين مقابل مخاطرة مقبولة.
ويختلف معدل العائد حسب المدة الزمنيَّة وقيمة السند ومدى نفوذ الحكومة على المؤسسات العامة والبنوك التجاريَّة وتوافر التمويل لديها.
وعُيّن كل من بنك جي بي مورغان وستاندرد تشارتدر والجزيرة كابيتال من قِبل مكتب إدارة الدَّين العام مديري للإصدار، وسيُدرَج الإصدار في سوق لندن للأوراق الماليَّة، حسب البيان.
ويعدُّ الإصدار ضمن برنامج صكوك السعوديَّة بالدولار الأميركي "جزءاً من التزام وزارة الماليَّة بتطوير أسواق الدَّين وأدوات الدَّين المتوافقة مع الشريعة الإسلاميَّة"، ومن المتوقع أن يُسوّى الطرح في الـ29 من أكتوبر (تشرين الأول) 2019 .
وتعدُّ الفوائد على سندات الحكومة السعوديَّة "منخفضة"، مقارنة بسندات دول أخرى، وذلك لأن نسبة المخاطرة "منخفضة جداً"، ولأن الاقتصاد السعودي "قويٌّ ومدعومٌ بمورد بترولي اقتصادي يحتاج إليه العالم كل ثانيَّة".
الاكتتاب يعكس ثقة المستثمرين بقوة الاقتصاد
من جانبه، قال الدكتور سعيد الشيخ عضو مجلس الشورى السعودي والخبير الاقتصادي، "الاكتتاب يعكس ثقة المستثمرين في قوة الاقتصاد السعودي ومكانة الرياض، وهو ما مكَّن من تضييق نطاق السعر بعلاوة تسعير سلبيَّة، كما أن العائد يعدُّ أقل عائد حُقّق لشريحة 10 سنوات، الذي بلغ 2.9%".
وأضاف الشيخ، "لم يكن هناك تأثيرٌ لخفض التصنيف السيادي من قِبل وكالة (فيتش) أخيراً في أعقاب الاعتداء الإرهابي على المرافق النفطيَّة في السعوديَّة، ولا شكّ أن قدرة (أرامكو) على إعادة الإنتاج إلى مستواه ما قبل الهجوم خلال فترة قصيرة قللّ وبشكل كبير مخاوف المستثمرين من المخاطر الجيوسياسيَّة وتأثيرها في مداخيل السعوديَّة من النفط".
وأكد أن الأمر اللافت وبشكل كبير هو أنه "فُتِحَ باب الاكتتاب على هذا الإصدار من الصكوك السياديَّة وإغلاقه في غضون 9 ساعات فقط، ولذا يعدُّ أسرع إصدار من جهة سياديَّة في أدوات الدَّين المتوافقة مع الشريعة الإسلاميَّة خلال هذا العام 2019".
وقال الاقتصادي السعودي، "تغطيَّة الاكتتاب جاءت الأعلى من بين الاكتتابات السابقة وبمعدل 5.3 أضعاف عن القيمة المستهدفة والبالغة 2.5 مليار دولار، وحقق أيضاً هذا الإصدار للصكوك المقوّمة بالدولار أمراً مهماً بأن معدل التسعير بلغ (-4) نقطة أساس أقل من منحنى العائد العادل للسعوديَّة مدة 10 سنوات، وهي أقل علاوة إصدار حُققت من قِبل السعوديَّة".
فرصة جاذبة للمستثمرين
ومن جانبه، قال أرون ليزلي جون رئيس الباحثين لدى "سنشري فاينانشال"، "مع تداول 16 تريليون دولار من السندات في جميع أنحاء العالم بعائد سلبي، والمستثمرون الذين يبحثون عن العائد، تقدم السعوديَّة واحدة من أفضل السندات ذات الجودة حتى مع انخفاض تصنيف (A)".
وذكر أن السعوديَّة عادت بقوة إلى سوق السندات بإصدار صكوك بقيمة 2.5 مليار دولار، بعائد معروض 20 نقطة أساس فوق المنحنى الحالي للرياض، ربما بسبب تخفيض (فيتش) إلى "A" من "A+" مع نظرة مستقبليَّة مستقرة، بعد الهجوم الأخير على منشآتها النفطيَّة المهمة.
وتوقّع ليزلي أن تشهد الصكوك السعوديَّة "طلباً جيداً"، بسبب النقص في أوراق الصكوك العاليَّة الجودة في عالم التمويل الإسلامي، لافتاً إلى أن "التحفيز النقدي وخفض أسعار الفائدة من البنوك المركزيَّة الكبرى يجعلان هذه القضيَّة أكثر جاذبيَّة".
تمويل الخطط التنمويَّة عبر السندات
أمَّا طارق الرفاعي مدير مركز "كوروم" للدراسات الاستراتيجيَّة في لندن، فيرى أن التوسُّع بإصدارات الدين في منطقة الخليج بالوقت الراهن "مؤشرٌ إيجابيٌّ للأسواق الماليَّة"، وتوجد محاولات جادة بدول المنطقة لإنشاء أسواق السندات، لأن الحكومات الخليجيَّة منذ انخفاض أسعار النفط منذ 2014 وارتفاع عجز الميزانيات العامة، أعلنت "خططاً واسعة لإصدار سندات لتمويل الخطط التنمويَّة والوصول إلى أهدافها دون التقييد بتذبذبات أسعار النفط".
وأضاف، "مع تطوير خطط التنميَّة (كما في رؤيَّة السعوديَّة 2030، واستراتيجيَّة كويت جديدة 2035) تضمنت الوصول إلى أهداف التنميَّة من خلال فتح باب أسواق السندات بالمنطقة، وهو ما يعد داعماً قوياً لسوق السندات للشركات وإصدارات الصكوك، وهذا إيجابيٌّ جداً لأسواق المال والأسهم".
وحسب البيانات الرسميَّة الحديثة، بلغ الدَّين العام السعودي نحو 627.8 مليار ريال (167.4 مليار دولار) بنهايّة النصف الأول من 2019، بارتفاع 12.1% مقارنة بنحو 560 مليار ريال (149.4 مليار دولار) بنهايّة ديسمبر (كانون الأول) 2018، بعد أن أُصدرت أدوات دين في حدود 67 مليار ريال (17.9 مليار دولار) بالنصف الأول من العام.
وفي مؤشر على نجاح إصدارات الدَّين السعوديَّة بالأسواق العالميَّة، سجَّلت باكورة سندات أرامكو السعوديَّة (أكبر منتج للنفط عالمياً) نحو 12 مليار دولار في أبريل (نيسان) الماضي نجاحاً غير مسبوق ألهب حماس المستثمرين حول العالم، بعدما جذبت طلبات اكتتاب قياسيَّة بنحو 100 مليار دولار، لتغطي الطرح بنحو 10 أضعاف، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ أرامكو التي تدخل فيها سوق السندات الدوليَّة.
الاصدارات تعكس قوة الاستثمار
وحول الأسباب الرئيسيَّة للتوسُّع في إصدار السندات بالفترة الحاليَّة، قال إياد أبو حويج المدير العام لشركة "الشركاء المتحدون للاستثمار"، "إصدارات الدَّين السعوديَّة قرار يعكس الثقة في الاقتصاد ، وهو يأتي إنتظارا للاكتتاب العام لشركة (أرامكو) عملاق النفط، إضافة إلى الاستفادة من انخفاض أسعار الفائدة،
وأكد حويج، أن الإصدارات "لا تزال جذابة للغايَّة"، لا سيما بالنسبة إلى "المستثمرين المتوافقين مع الشريعة"، الذين يفضلون آليَّة "الاستثمار بالصكوك"، وهذا ما انعكس في زيادة الطلب على الصكوك السعوديَّة، واتضح ذلك من خلال زيادة أعداد وحجم الإصدارات، ويرجع ذلك إلى حقيقة أنها تمثل "جزءاً كبيراً" من الصكوك العاليَّة الجودة المتاحة في السوق.
وأضاف، "الدافع وراء الطلب المتزايد هو تحسين العوامل الهيكليَّة والأساسيَّة في السعوديَّة، فيما تنظر السوق إلى الصكوك السعوديَّة بشكل إيجابي، كما يتضح من هوامش العائد المتقلصة".
الإقبال الكبير بمثابة رد على خفض التصنيف الائتماني
من جهته، قال علي الجعفري المحلل والخبير الاقتصادي، "الإقبال الكبير على الاكتتاب بالصكوك السعوديَّة وحجم السيولة المرتفعة كانا بمثابة رد على خفض وكالة (فيتش) التصنيف الائتماني للسعوديَّة عقب الهجمات الإرهابيَّة".
وأكد الجعفري، أن السعوديَّة "تسعى إلى وضع تصنيف عالمي يتماشى مع مكانتها الإقليميَّة والعالميَّة، وأنها ضمن أكبر 20 اقتصاداً حول العالم، وبالتالي عمليَّة إصدار الصكوك تعطي نظرة إلى الاقتصاد السعودي وتعكس الثقة الكبيرة في مستقبله، في وقت بدأت فيه الرياض بتطبيق إجراءات جذب المستثمرين الأجانب بتعديل بعض القوانين المناسبة لممارسة الأعمال التجاريَّة ونقل التقنيَّة".
وتابع، "تصنيف (فيتش) كما صرَّحت وزارة الماليَّة السعوديَّة ومؤسسة النقد كان متسرعاً، خصوصاً بعد استئناف الإنتاج بالمناطق المتضررة بفترة وجيزة، فيما لا يزال الاقتصاد السعودي يتمتع بقوة كبيرة، والشركات السعوديَّة الكبرى لديها ملاءة ماليَّة عاليَّة جداً، ولها استثمارات حول العالم".
ونهايّة الشهر الماضي، شككت وزارة الماليَّة بإعلان وكالة (فيتش) العالميَّة خفض التصنيف الائتماني للسعوديَّة، وأن ما تضمنه تقرير الوكالة "لا يعكس دلالات استجابة الرياض السريعة في التعامل مع (هجمات أرامكو)، وأن سرعة الاستجابة عززت موثوقيَّة الشركة في عمليات إمداد الخام إلى الأسواق العالميَّة".
وجاء بيان الوزارة، عقب خفض وكالة (فيتش) للتصنيف الائتماني، تصنيف السعوديَّة إلى "A" من "A+" مع نظرة مستقبليَّة مستقرة، بسبب التوترات الجيوسياسيَّة والعسكريَّة المتزايدة في منطقة الخليج، وتعتقد (فيتش) أن هناك خطراً لحدوث مزيدٍ من الهجمات على السعوديَّة، ما قد يؤدي إلى أضرار اقتصاديَّة.
نشاط الصكوك المحليَّة
وفي سياق متصل، أعلنت الوزارة، أخيراً الانتهاء من استقبال طلبات المستثمرين على إصدارها المحلي لشهر أكتوبر (تشرين الأول)، وحُدد حجم الإصدار بمبلغ 7.27 مليار ريال (1.94 مليار دولار) على أربعة إصدارات.
وبلغت قيمة الإصدار الأول لأجل 5 أعوام و5 أشهر بقيمة 1.13 مليار ريال (301 مليون دولار) لصكوك تُستحق في عام 2025، وكذلك صكوك لأجل 10 أعوام و5 أشهر بقيمة 654 مليون ريال (174 مليون دولار)، إذ تُستحق في عام 2030.
أمَّا الإصدار الثالث فشهد إعادة فتح صكوك أجل 15 سنة بقيمة 362 مليون ريال (96.5 مليون دولار)، ليصبح الحجم النهائي للشريحة 9.471 مليار ريال (2.52 مليار دولار) لصكوك تُستحق في عام 2034.
أمَّا الإصدار الأخير فتضمن إعادة فتح صكوك ثلاثينيَّة بقيمة 5.119 مليار ريال (1.36 مليار دولار) ليصبح الحجم النهائي للشريحة 20.615 مليار ريال (5.49 مليار دولار) لصكوك تُستحق في عام 2049.
وحسب رصد لـ"اندبندنت عربيَّة"، ارتفعت قيمة إصدارات الحكومة السعوديَّة من الصكوك في العام الحالي إلى 63 مليار ريال (16.8 مليار دولار)، ويعد الإصدار الأخير رابع أضخم إصدار حكومي (بالعملة المحليَّة) من حيث القيمة، وذلك بعد صكوك أبريل (نيسان) الماضي بقيمة 11.6 مليار ريال (3.1 مليار دولار)، وصكوك فبراير (شباط) بقيمة 9.3 مليار ريال (2.48 مليار دولار)، وصكوك سبتمبر (أيلول) بقيمة 8.8 مليار ريال (2.34 مليار دولار).
انتعاش أسواق الدخل الثابت في منطقة الشرق الأوسط
وحسب تقرير صدر أخيراً عن شركة "الوطني للاستثمار" حول أسواق الدخل الثابت في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أوضح أن أسواق الدخل الثابت "شهدت انتعاشاً في الربع الثالث من 2019 بفضل اعتماد البنوك المركزيَّة للاقتصادات الكبرى سياسات أكثر مرونة" على خلفيَّة تباطؤ النمو وتراجع معدل خلق فرص العمل. إذ خفَّض الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة بواقع ربع نقطة مئويَّة مرتين في الربع الثالث. كما توقّف الاحتياطي الفيدرالي عن تقليص حجم ميزانيته بسبب تزايد المخاوف بشأن تباطؤ النمو الاقتصادي، وتدني معدلات التضخم، فضلاً عن سعيه إلى التخفيف من أثر الحرب التجاريَّة الدائرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع التقرير، "إضافة إلى الاقتراض السيادي شهدت السوق الأوليَّة نشاطاً واسعاً لمؤسسات ماليَّة كبرى خلال الربع الثالث من 2019، إذ بلغ مجموع ما اقترضته كيانات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما يصل إلى 32.3 مليار دولار أميركي في الربع الثالث، بينما وصل مجموع الإصدارات في الأرباع الثلاثة الأولى ما يساوي 92.6 مليار دولار، بزيادة تعادل 15% مقارنة بالفترة نفسها في العام الماضي. وبوجه عام، حظيت الاكتتابات بتغطيَّة جيدة في السوق الأوليَّة على الرغم من التوترات الإقليميَّة."
وذكر التقرير أن الأسواق "تتوقع خفض الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة مرة أخرى في أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بواقع ربع نقطة مئويَّة".
وفي الوقت نفسه، استمرّ البنك المركزي الأوروبي في خفض سعر الفائدة الأساسي أكثر إلى الجانب السلبي، وأعاد تنشيط برنامج "التيسير الكمي" من أجل تنشيط النمو الاقتصادي، وهو ما ترك معظم السندات الحكوميَّة العاليَّة الجودة في أوروبا تتداول بعوائد سلبيَّة.
وأشار إلى أنه بفضل اعتماد سياسات نقديَّة أكثر مرونة حول العالم، شهدت أهم مؤشرات العائد الثابت ارتفاعاً في الربع الثالث، بينما سجَّلت تكلفة التأمين على الديون السياديَّة لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تراجعاً تراوح ما بين 5 و20 نقطة أساس في الربع الثالث، ما فتح المجال أمام مؤشرات أسواق السندات الإقليميَّة كي تتفوق على نظيرتها العالميَّة ذات التصنيف المماثل. ووقع هذا التراجع على الرغم من ازدياد حدة التوترات الإقليميَّة، إذ كان مدفوعاً إلى حدٍ كبيرٍ بالتوجه العالمي القائم على الإقبال على المخاطر، والسعي للحصول على عوائد أعلى، وبنهايّة الربع الثالث، لجأت معظم البنوك المركزيَّة في منطقة مجلس التعاون الخليجي (باستثناء الكويت) إلى خفض أسعار فائدتها تماشياً مع الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما يعدُّ بمثابة نتيجة طبيعيَّة لنظم ربط العملات المطبقة.