منذ اندلاع الانتفاضة في لبنان بوجه الحكومة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، سارعت الأحزاب بمختلف توجّهاتها إلى تأييد الصرخة المحقّة للبنانيين، الذين يعانون من تردّي الأوضاع المعيشية ومن استشراء الفساد في مؤسسات الدولة وأنظمتها. غير أن فشل السلطة الحاكمة في إيجاد مخرج يُقنع المحتجين بإعطائها فرصةً لإصلاح الوضع، دفع المتظاهرين إلى التمسّك بقطع الطرقات كوسيلة أساسية لاستمرار انتفاضتهم، ممّا شلّ البلاد لليوم العاشر على التوالي. وبذلك، ألقت انتفاضة اللبنانيين بثقلها على الأحزاب والمسؤولين السياسيين، فالتزم معظم هؤلاء الصمت أمام صخب الأصوات المرتفعة في الشوارع، أو أقلّه حدّوا من تصريحاتهم وإطلالاتهم، في خطوة مستغربة على الساحة اللبنانية.
السكوت "غير مقبول"
ومن أبرز الغائبين عن وسائل الإعلام، قياديو تيار المستقبل، فريق رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي أظهرت التحرّكات تململاً كبيراً لدى قواعده الشعبية وتحركات في أبرز مناطق نفوذه في بيروت وطرابلس وصيدا. غير أن القيادي في تيار المستقبل مصطفى علوش قال لـ"اندبندنت عربية"، بعد اجتماع للمكتب السياسي للتيار السبت، إن المجتمعين رأوا أنه "من غير المقبول أن نجلس ونسكت في هذا الوقت"، مضيفاً أن "هناك توجّهاً لدى الرئيس الحريري لإنجاز تغيير وزاري سيظهر في الـ24 أو 48 ساعة المقبلة". وأوضح أن التغيير الوزاري سيتحقّق إمّا عبر تعديل تُستبعد بموجبه "بعض الرؤوس الحامية المستهدفة من قبل الحراك"، في إشارة إلى وزير الخارجية جبران باسيل، وإمّا عبر "تأليف حكومة من اختصاصيين يُمكن الإعلان عنها في اليومين أو الثلاثة المقبلة".
وقال علوش إن تيار المستقبل مقتنع بأن "الخيار الوحيد أمامنا اليوم هو تغيير حكومي لأن لا أحد مقتنع بأن الناس ستخرج من الشارع"، واصفاً الحراك بأنه "حي جدي ونابع من قناعات تراكمت على مدى السنوات ومن فشل السلطة الحاكمة بتحقيق أي إنجاز بسبب اختلافاتها وتنافسها".
صمت... لإعطاء القيادة للناس
حزب الكتائب اللبنانية الذي اختار وحيداً، إلى جانب بعض المستقلين، معسكر المعارضة رافضاً التسوية الرئاسية التي أوصلت ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، عبّر عن سعادته بانتفاضة اللبنانيين ودعا مناصريه ومحازبيه للمشاركة فيها، لكنّه أبقى قيادييه بعيداً من التصريحات الإعلامية قدر الإمكان. وعن الدافع وراء هذه الاستراتيجية، يؤكّد عضو المكتب السياسي الكتائبي سيرج داغر لـ"اندبندنت عربية"، أن "دور حزب الكتائب اليوم هو إعطاء القيادة للناس التي قرّرت أن تخوض الثورة وهو ليس بوارد تسلّقها أو قطفها أو ركوب موجتها". وفيما يشارك مناصرو "الكتائب" بالتحرّكات كجميع المواطنين الذين "يطلبون من كل الفاسدين أن يعودوا إلى بيوتهم"، يوضح داغر أن انكفاء مسؤولي الحزب عن التصريح يأتي حمايةً للانتفاضة من "أعدائها كحزب الله، الذي يقول إن الناس ليست هي من تقود التحركات بل بعض الأحزاب، بالتالي أي كلام من قبلنا يعطي الحق لأعداء الثورة"، مضيفاً أن "أي محاولة منّا لقيادة الثورة تكون ضربة لها ونحن لا نريد ضرب الثورة".
حركة حزبية "اضطرارية"
وفي ما يتعلّق باتهام الكتائب بالمشاركة في تنظيم التحرّكات، وأن نزول رئيس الحزب سامي الجميل إلى ساحة جل الديب لمنع الجيش اللبناني من فتح الطريق ليس سوى دليل على ذلك، قال داغر إن مشاركة الجميل جاءت "كحركة اضطرارية لم تتعدَّ نصف الساعة" بعدما حاولت السلطة استغلال غياب الناس لفتح الطريق، الأمر الذي من شأنه أن يُعيد "فتح المدارس والمصارف والأشغال وبالتالي انتهاء الثورة".
وفي الحديث عن حزب الله، رأى داغر أن الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله هدّد، في خطابه الأخير الجمعة، اللبنانيين "بشكل مباشر" عبر كلامه عن الحرب الأهلية والمؤامرة، بالتالي وضع نفسه للمرة الأولى "في مواجهة الشعب اللبناني بعدما صوّر نفسه حامياً له". ومن هنا، أشار داغر إلى أن "الثورة ليست سهلة والشعب اللبناني مدعو للصمود، فعذاب أسبوع أو أسبوعين أفضل من عذاب 30 سنة أخرى".
"ثورة اجتماعية لا يجب استغلالها"
وموقف حزب القوات اللبنانية، الذي استجاب سريعاً إلى مطلب المحتجّين وأعلن استقالة وزرائه من الحكومة بعد يومين على خروج التظاهرات في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، ليس بعيداً من توجّه "الكتائب". إذ يؤكّد رئيس جهاز التواصل والإعلام في القوات اللبنانية شارل جبور لـ"اندبندنت عربية"، أن تأييد حزبه للحراك "يندرج في سياقين: الأول أن القوات كانت السباقة في طرح موضوع حكومة اختصاصيين" في اجتماع الثاني من سبتمبر (أيلول) في القصر الجمهوري بحضور رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة، و"الثاني أنها تؤيّد أي تحرّك أو ثورة لأن جمهورها أيضاً ثائر في ما يتعلق بالخبز والمعيشة والاقتصاد والكرامة". وأضاف جبور أن الحراك الذي يشهده لبنان "حراك اجتماعي ولا يقوده أحد، والمطلوب من الأحزاب ألا تحاول أن تمتطيه أو تستغله أو تقوده"، بالتالي "تفضّل القوات عدم إطلاق المواقف السياسية لأنها تعتبر أن على هذه الثورة الاجتماعية أخذ مداها الطبيعي من دون أن يستغّلها أي حزب سياسي".
اتهامات لـ"تسييس" الحراك
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، وضع جبور التهم الموجّهة إلى "القوات" بقيادة تحرّكات الانتفاضة في إطار مساعي "بعض الأطراف لتسييس الحراك وضرب ديناميكيته عبر تصوير المشكلة على أنها خلاف بين القوات والتيار الوطني الحر، وهي أساليب قديمة ولّى عليها الزمن"، مؤكّداً أن "القوات لا تقود هذا الحراك بل هي موجودة خلف الناس وليس أمامهم". وأضاف أن الكلام عن التمويل الخارجي والمؤامرات يندرج أيضاً في سياق "تسييس الحراك لإجهاض الثورة"، مشيراً إلى أن موقف المجتمع الدولي حتى الساعة يؤيّد بقاء الأمور على حالها في لبنان.
محاولة للتغيير من الداخل خوفاً من الفراغ
أمّا الحزب التقدّمي الاشتراكي، الذي سارع زعيمه وليد جنبلاط إلى الدعوة لاستقالة الحكومة منذ اللحظة الأولى للانتفاضة، فأظهر تقلّباً في مواقفه تجاه معالجة الأزمة. إذ أحجم عن إعلان استقالة وزرائه على الرغم من انتقاده للورقة الإصلاحية التي أعلنها الحريري. لكنّ المفوّض الإعلامي في الحزب التقدمي الاشتراكي رامي الريس يصف، في حديث لـ"اندبندنت عربية"، مواقف الحزب بـ"الحذرة" وليس المتقلّبة، مشيراً إلى أن "التقدّمي الاشتراكي يؤيّد مطالب المحتجين"، لكنه اختار عدم الاستقالة "بغية محاولة إحداث تغيير من الداخل طالما أن الاستقالة لن تغيّر في موازين القوى"، وخوفاً من الدخول في فراغ في ظلّ "الاستحقاقات المالية والاقتصادية الداهمة التي إذا وجدت حكومة واتخذت إجراءات صحيحة بالكاد نستطيع أن نواجهها".
وأكّد الريس أن "التقدّمي الاشتراكي" بعيد من استغلال الانتفاضة، قائلاً "حاولنا قدر الإمكان أن نترك هامشاً للبنانيين... ولا يوجد أساساً جواً سلبياً (مع المحتجين) لأننا نعتبر مطالبهم محقة ومشروعة وجمهورنا يطالب بها ويتألم منها"، مشيراً إلى مطالبة الحزب المستمرة بحماية المتظاهرين.
ويتبيّن ممّا تقدّم، أن صمت السياسيين هو إمّا خدمةً لتحقيق أهدافهم المتقاطعة مع مطالب الانتفاضة، وإما وسيلة لامتصاص غضب الشارع في انتظار انبثاق الحلول.