تأخير تشكيل الحكومة اللبنانية، الذي استمر تسعة أشهر، بعدما أبصرت النور في 31 يناير (كانون الثاني) الماضي، قابلته سرعة فائقة في صياغة البيان الوزاري وإقراره الخميس في 7 فبراير (شباط) الحالي. إذ جاء البيان الجديد نسخة معدّلة بعض الشيء عن بيان الحكومة السابقة في ما يتعلق بالمسائل الإستراتيجيّة للدولة اللبنانية، كالتزام سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الخارجية ومحاربة العدو الإسرائيلي والموقف من الوجود الفلسطيني في لبنان، وتحديداً الإبقاء على الصيغة نفسها التي تضمن لحزب الله الحفاظ على سلاحه وهيكليّته خارج المؤسّسات الشرعية عبر إعطاء "الحق للمواطنين اللبنانيين في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ورد اعتداءاته واسترجاع الأراضي المحتلة". إلا أنّ البيان الوزاري الجديد لحكومة "إلى العمل"، أعطى الشقّ الاقتصادي والمالي الأولوية، مفصلّاً العديد من الخطوات المنوي اتّخاذها التزاماً بمقرّرات مؤتمر "سيدر"، الذي عقد في أبريل(نيسان) عام 2018، الذي تعوّل الحكومة اللبنانية عليه للنهوض بالوضع الاقتصادي المتدهور.
وعود بإصلاحات مالية إنقاذية
تعليقاً على الشق الاقتصادي في البيان، شدّد الخبير الاقتصادي اللبناني غازي وزني على أهمية تركيز البيان على إصلاح المالية العامة للدولة، من طريق خفض الإنفاق العام من خلال عمليات إصلاحية في هيكلية القطاع العام من جهة، ومشكلة العجز عن تأمين الكهرباء من جهة ثانية.
ونصّ البيان الوزاري، ضمن فقرة بعنوان "الاستقرار المالي والنقدي"، على اتباع الحكومة سياسة مالية ونقدية "تخفّض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي، لاسيما من طريق زيادة حجم الاقتصاد وخفض عجز الموازنة"، والتزام الحكومة، بدءاً من موازنة 2019، "بتصحيح مالي، بما لا يقل عن 1 في المئة سنوياً من إجمالي الناتج المحلي، على مدى خمس سنوات من خلال زيادة الإيرادات وتقليص الإنفاق، بدءاً من خفض العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان وصولاً إلى إلغائه كلياً".
ويشير وزني إلى أنّه باستطاعة الحكومة تخفيض الإنفاق بنسبة 1 في المئة من حجم الاقتصاد، أي حوالي 550 مليون دولار، من دون اتخاذ إجراءات ضرائبية، وذلك من خلال وضع سقف لدعم عجز الكهرباء، الذي يبلغ ملياري دولار أميركي سنويّاً، وتخفيضه إلى مليار ونصف المليار، فيتحقّق بذلك الهدف المنشود. وإن طُبّقت زيادة التعرفة على الكهرباء، التي ربطها البيان "بزيادة التغذية مع الأخذ في الاعتبار ذوي الدخل المحدود"، يرى وزني أنّها ستساعد حينها في تحقيق مزيد من التخفيض في هذا المجال.
وأكّد البيان الاستمرار في سياسة الاستقرار في سعر صرف العملة الوطنية، التي يراها وزني ضرورية لأنّها "أمّنت للبنان استقراراً اقتصادياً ومالياً واجتماعياً خلال عقدين من الزمن، واللعب بهذا الأمر يستتبع تداعيات اقتصادية ومالية كبيرة جدّاً". ويشير وزني إلى إمكان تقديم الملاحظات في شأن معدّلات الفوائد ضمن السياسة النقدية للبنان، من دون المسّ بسياسة تثبيت سعر الصرف.
وذكر البيان في فقرة "تحديث القطاع العام"، تجميد التوظيف خلال العام 2019 تحت المسميات كافة، حتّى في الأسلاك العسكرية والأمنية، "على أن يكون التوظيف والتطويع في السنوات الأربع اللاحقة مساوياً لنصف عدد المتقاعدين السنوي، شرط أن يكون العجز قد خفض أقلّه إلى المستوى المذكور في هذا البيان"، إضافة إلى إعادة هيكلة القطاع العام وإصلاح أنظمة التقاعد فيه. وفي هذا السياق، يطمئن وزني أنّ الإصلاحات لن تكون على حساب أصحاب ذوي الدخل المحدود والمتوسّط، لأنّ الإجراءات المنصوص عليها في البيان لا تطاولهم، "فقد تكلّمت الحكومة في البيان عن تجميد التوظيف، لا عن خفض الرواتب والأجور أو صرف العمال إلى منازلهم. ففي السنوات الماضية، حصلت توظيفات كثيرة بطريقة عشوائية، وسنوياً لدينا ما بين 5 إلى 6 آلاف متقاعد. من هنا يساعد التجميد في تخفيض حجم القطاع العام من دون طرد الموظفين، وبالتالي من دون المسّ بالطبقة المتوسّطة".
أمّا في ما خصّ القرارات والتشريعات والإصلاحات الجريئة والمحدّدة، التي وصفها البيان الوزاري بأنّها "قد تكون صعبة ومؤلمة"، يرى وزني أنّها قد تشير إلى الضريبة على القيمة المضافة والرسوم على المحروقات، التي لم يذكرها البيان، وبالتالي يجب انتظار ما ستتضمّنه موازنة العام 2019، مرجّحاً عدم إضافتها إليها وتركها ربما لمشروع موازنة 2020.
كلفة الدين العام إلى ارتفاع
لبنان الذي يسجّل واحداً من أعلى معدلات الدين العام بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم، بنسبة تبلغ حوالي 150 في المئة، لم يلحظ البيان الوزاري لحكومته الجديدة أي إشارة إلى اتخاذ إجراءات لخفض كلفة الدين العام. وفي مقابل كلّ الإيجابيات المذكورة سابقاً، يستغرب وزني عدم سعي الحكومة إلى خفض هذه الكلفة، التي تمثّل 33 في المئة من الموازنة، مقترحاً أن تطلب من مصرف لبنان والمصارف التجارية المساهمة في هذه العملية عبر التنسيق والتفاهم، تماماً "كما حصل في مؤتمر باريس 2، حين التزمت المصارف قروضاً بقيمة 4 مليارات دولار بفائدة صفر. واليوم في إمكاننا أن نطلب منها المساهمة بقيمة 6 مليارات دولار بفائدة صفر". وأوضح وزني أنّ لبنان ليس في حاجة إلى إعادة هيكلة الديون، "لأنّ لبنان ليس بلداً مفلساً، بل بلد يفي بالتزاماته ولم يتخلّف يوماً عنها ويدفع كلّ ديونه".
في الإطار نفسه، لم يلحظ البيان أي إشارة إلى زيادة الإيرادات من طريق زيادة الضرائب على أصحاب الثروات، لذا يقترح وزني زيادة الضريبة على فوائد الودائع، التي تفوق الـ 50 ألف دولار، من 7 إلى 10 في المئة.
وعن مدى قابلية نجاح هذه الوعود، يرى وزني أن تحقيقها مرتبط بنوايا السياسيين، فإذا لم تكن صافية، سيكون من الصعب جدّاً أن تنفّذ هذه الإصلاحات في المرحلة الجديدة.
مؤتمر "سيدر": التزامات وشروط
قدّم لبنان في مؤتمر "سيدر"، العام الماضي، خطة لزيادة الاستثمار في البنى التحتية، من خلال تنفيذ برنامج يتضمن مشاريع استثماريّة بقيمة 22.9 مليار دولار، وتعهدت الحكومة فيه بإشراك القطاع الخاص في المشاريع العامة. كذلك، أعلن لبنان عزمه خفض عجز الميزانية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5 في المئة خلال السنوات الخمس المقبلة، عبر سلسلة إجراءات تتضمن إعادة هيكلة القطاع العام وإلغاء دعم أسعار الكهرباء.
في المقابل، تضمّنت شروط "سيدر" إصلاح قطاعات الكهرباء والمياه والنقل، عبر رفع سعر تعرفة الكهرباء بما يكفل خفض الدين العام المرتبط بجزء كبير منه بديون الكهرباء، وتنفيذ مشاريع توليد الطاقة بالشراكة مع القطاع الخاص. وخفض الإنفاق بنسبة 5 في المئة ووقف التوظيف في القطاع العام وإعادة النظر بنظام التقاعد لموظفيه. إضافة إلى زيادة الإيرادات عبر تحسين التحصيل الضريبي وفرض إجراءات ضريبية جديدة، منها زيادة الضريبة على القيمة المضافة والضرائب على المحروقات، وتعديل النظام الجمركي بما يؤمن سهولة أكبر لدخول السلع وخروجها من لبنان، فضلاً عن الاعتماد على التحكيم الدولي، وتوقيع مراسيم الخصخصة والشراكات مع القطاع الخاص، وتحديث قانون المشتريات العامة.
من هنا نرى أنّ البيان الوزاري، الذي نصّت فقرة "الاستثمار العام" فيه على "الشروع في تنفيذ برنامج الإنفاق الاستثماري كما جاء في مؤتمر سيدر"، ارتكز في شكل كبير على المشاريع الاستثمارية لهذا المؤتمر، الذي سيكون، وفق وزني، عاملاً مهمّاً جداً في تكبير حجم الاقتصاد. فهل يصدُق سياسيّو لبنان، ولو مرّة، رأفة بالاقتصاد اللبناني المتأرجح على حافّة الانهيار؟