من المعلوم لدى كل متابع للشؤون السياسية أن الدول لا تحصر استخباراتها في مؤسسة واحدة فقط، بل تكون لديها في أغلب الأحوال ثلاث مؤسسات استخبارية على الأقل.
نذكر منها الاستخبارات العسكرية، واستخبارات تابعة للشرطة، وأخرى تحمل اسم المخابرات العامة أو الأمن الوطني أو ما شابهها من الأسماء.
وتكون المؤسسات الاستخباراتية الأخرى هي أيضا تحت إشراف إحدى هذه المؤسسات. والجميع تحت مظلة مؤسسة عامة يكون لها دور التنسيق، وكان الأمر في تركيا أيضا كذلك، حيث كانت أمثال هذه المؤسسات تخضع لإشراف رسمي مؤسساتي ضمن هيكل الدولة.
صحيح أنه كان بين الحين والحين تتكون مجموعات تقوم بأعمال غير قانونية، ولكن لم يحدُث أن يرعى سياسي أو رجل دولة هذه المجموعات بشكل علني، بل على العكس يتبرأ منها ومن أخطائها التي ترتكبها. وبالنسبة للوضع الحالي فإن الوضع قد اختلف تماما. فمن المعلوم لدى الجميع أنه في 15 يوليو (تموز) 2016 تم عرض مسرحية جماعية في تركيا تحت مسمى الانقلاب.
وفي تلك الليلة الحالكة تفاجأ الجميع بحيازة بعض العناصر "المدنية" على أسلحة من المفترض أنها لن تكون إلا في أيدي أفراد من الجيش فقط. وقد استخدم هؤلاء العناصر هذه الأسلحة ضد الجنود والمدنيين.
وفي تلك الليلة تم جلب التلامذة من المدارس العسكرية، وهم لا يدرون ماذا سيَلقَون هناك؟، وما هي إلا أن تألبت عليهم هذه العناصر فذبحوهم بالسكاكين. نعم، إنني أعود لأقول، إن هؤلاء ذبحوا 250 جنديا بالسكاكين وبطريقة وحشية. وكان معظم الضحايا من تلامذة الثانويات العسكرية الذين تتراوح متوسط أعمارهم بين 16 و17 عاما، وكانت أسلحتهم التي بحوزتهم فارغة ولا تحمل الذخيرة. ونحن نعلم أن الشعب التركي لا يوجه السلاح لجنوده، ناهيك عن ذبحهم بالسكاكين بالأساليب الوحشية.
وكل الأدلة تشير إلى آلاف من القتلة الذين انتظموا بدقة فائقة اندسوا مسبقا في تلك الليلة بين الجماهير، وارتكبوا هذه الجرائم الشنيعة بدماء باردة.
فمن أين جاء هذا الكم الهائل من العصابات وأين اختفوا عن الأنظار فجأة؟
إن الذي وزع هذه الأسلحة على هذه العصابات هي "شركة" أمنية تسمى SADAT (الشركة الدولية للاستشارات الدفاعية).
وهذه الشركة أيضا هي التي وزعت الأسلحة على أولئك المقاتلين الذين أتوا إلى تركيا من خلال منظمات تُسمِّي أنفسها جمعياتٍ خيرية، وتلقوا تدريبا عسكريا ليلتحقوا بعد ذلك بالتنظيمات الإرهابية من أمثال داعش.
ولا يزال هناك العديد من المقاتلين الدواعش الناشطين في صفوف ما يسمى "الجيش الوطني السوري"، قد تلقوا تدريبهم العسكري للمرة الأولى من خلال هذه الشركة، ولم يَسبق لهم أن تلقوا تدريبا عسكريا قبل ذلك في غيرها من المؤسسات.
كما أن هذه الشركة أيضا هي التي تقوم بعملية التنسيق بين داعش والجيش الوطني السوري، وبين سائر المنظمات الإرهابية المتطرفة الفاعلة في المنطقة. والآلية التي تستخدمها هذه الشركة هي المنظمات التي تعمل تحت مسمى "الجمعيات الخيرية". ومن أراد أن يتأكد من صحة ما نقوله بهذا الصدد فليرجع إلى ملفات المحكمة المتعلقة بالشاحنات التابعة للمخابرات التركية التي كانت تنقل الأسلحة إلى سوريا وتم ضبطها في عام 2014، بالإضافة إلى سجلات البرلمان التركي المتعلقة بهذا الموضوع.
وقد سرد النائب السابق في صفوف حزب الشعب الجمهوري أرَن أردَم (Eren Erdem) هذا الموضوع بكل تفاصيله من منصة البرلمان، ونشرته قناة المجلس على الهواء مباشرة، ولا تزال الفيديوهات المتعلقة بتصريحاته موجودة على اليوتيوب. وكان هذا النائب يطالب بإلقاء الضوء على نشاطات هذه "الشركة" SADAT، واتخاذ الإجراءات اللازمة ضدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فماذا حصل بعد ذلك يا تُرى!
في الخطوة الأولى، تم اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد هذا النائب (وليس الشركة)، حيث تم سحب وصف "النائب" عنه، ثم تم اعتقاله وزُج به في السجن الذي قضى فيه لمدة 489 يوما بذرائع واهية، (وللمصادفة، فقد وصلني الخبر السار أثناء كتابتي لهذا المقال بأنه قد تم إطلاق سراحه بعد حوالي ستة عشر شهراً).
وأما بالنسبة لهذه الشركة (SADAT)، التي كان من المفترض أن يتم التركيز عليها، فقد حصل عكس ما أراد هذا النائب المسكين، حيث إنه في أغسطس (آب) 2016، عين الرئيس رجب طيب أردوغان مؤسس هذه الشركة عدنان تانريفيردي، كبير مستشارين القصر الرئاسي. ولا يزال هذا الرجل يواصل مهمته ككبير لمستشاري أردوغان بالإضافة إلى إدارة هذه الشركة.
ويجب ألا ننسى أن عدنان تانريفيردي من رواد الإسلاميين السياسيين المناصرين لاندماج النظام في تركيا بالنظام القائم في إيران.
ولربما يتساءل القارئ الكريم؛ ما علاقة هذه المقدمة الطويلة بعنوان المقال؟
نعم، إنني أود أن أضع هذه المعلومات المذكورة أعلاه نصب عيني القارئ الكريم حتى أقوم في ضوئها بتحليل العملية التي أقيمت ضد زعيم تنظيم داعش الإرهابي من زاوية مختلفة.
فقد قُتل الإرهابي أبو بكر البغدادي قبل أسبوع أثناء العملية التي أجرتها الولايات المتحدة في المنطقة التي يسيطر عليها أردوغان. والكل يعلم أن البغدادي كان يعيش منذ ثلاثة أشهر في منزل يبعد عن الحدود التركية بخمسة كيلومترات فقط، ومن المثير للاهتمام أنه ليس بإمكان أحد أن يصل إلى هذه المنطقة إلا أن يمر بعشر نقاط مراقبة تابعة للقوات التركية، مما يعني أن هذه المنطقة خاضعة للسيطرة التركية بشكل كامل، وهو ما جعل وزير الداخلية التركي سليمان صويلو يقول قبل شهر، "لن يطير طائر في هذه المنطقة بغير إذن منا".
ولذلك كان مقتل البغدادي صادما لأردوغان ووزير داخليته القائل، "لن يطير طائر هناك بغير إذن منا". حيث أثبتت هذه العملية للعالم بأسره أن زعيم التنظيم الإرهابي كان تحت حماية قوات تابعة لأردوغان.
وهذه هي من أكبر الفضائح في تاريخ تركيا، كما أنه أكبر خيانة في نظري تجاه بلادي الطيبة.
وهناك نقطة أخرى في قضية مقتل البغدادي، وهي سؤال يتطلب الوقوف عنده مليا: كيف ضيع أردوغان هذه الفرصة التاريخية التي سنحت له؟ حيث إنه لو قَدَّم معلومات مخابراتية حول مكان البغدادي لكان قد نجا من جميع الاتهامات، ولأصبح بطلا يحارب الإرهاب؟
لماذا لم يفعل ذلك، مع أنه من المفترض أنه لو قدّم هذه المعلومات لحصل على حصانة هائلة لدى الولايات المتحدة وأوروبا؟ والجميع أصبح الآن يتساءل: كيف استطاع البغدادي أن يتفلت من الاستخبارات التركية ويعيش مع عائلته على مقربة خمسة كليو مترات من حدودها وفي منطقة تتكثف فيها أبراج المراقبة التركية. ولا نشك في أن فاتورة هذه القضية ستكون باهظة على تركيا.
وبحسب خبرتي بأردوغان، فإنه ما كان له أن يضيِّع هذه الفرصة، ولو كان الأمر بيده لباع داعش بأرخص ثمن من دون أن تَطْرف له عين، ولكن يبدو أنه فوَّت على نفسه الفرصة لأسباب لا يمتلك زمامها.
وإذا كنا نعلم أن الذين استضافوا البغدادي في هذه المنطقة القريبة من الحدود التركية هم الذين يسيطرون على إدلب أيضا فلا نتمالك أن نتساءل: هل هذا هو السبب في حرص أردوغان الشديد على الحفاظ على الوضع القائم في إدلب ضد دمشق؟
والمفارقة العجيبة أنه ليس هناك في ظاهر الأمر من يتحالف مع البغدادي على طول الحدود الممتدة من العراق إلى إدلب.
ولذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه على الأذهان هو، أنه هل كان من الممكن أن يصل البغدادي مع أسرته إلى هذه المنطقة بشكل آمن من دون تنسيق مع جهات تابعة لحكومة أردوغان؟ ولماذا كان يحاول هو أو أفراد من أسرته القدوم إلى تركيا؟
وأعتقد أنه بعد هذه العملية زاد عدد الأسئلة الصعبة التي ستوجه إلى أردوغان، وأن مساحة الحراك زادت ضيقا على أردوغان والأطراف التي تحظى برعايته وحمايته، وأصبح الرأي العام الدولي ينظر إلى "المنطقة الآمنة" التي يلح عليها أردوغان، على أنها "منطقة آمنة للإرهابيين"، يصولون فيها ويجولون، ويعيثون في الأرض فسادا بكل راحة وسهولة.
وبطبيعة الحال، سيتم اعتبار أردوغان وحزبه مسؤولين عن جميع الجرائم المصدَّرة من هذه المناطق.
وأتمنى على القارئ العزير أن يجمع بين الصورة التي حاولت رسمها في مقدمة مقالي كيف أنه في مساء مسرحية الانقلاب في عام 2016، نزلت عصابات بأسلحتهم الثقيلة إلى الشوارع ليذبحوا أفرادا من أبناء الجيش التركي، ومن أين جاء هؤلاء؟
نعم، يبدو أنهم قوات تخضع لجهات مخابراتية مستقلة عن الجهات الأمنية الرسمية، بل إنها مرتبطة مباشرة بأردوغان نفسه، ولكنهم في نهاية المطاف يسحبون بلادي إلى مغامرات ومزالق لا تحمد عقباها.
وكلي أمل أن المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية الرسمية لن تلقي باللائمة في مثل هذه الأوضاع على تركيا بأكملها، فالكل يعلم أن المسؤول الوحيد عن هذا هو أردوغان وحزبه الذين يقومون بمثل هذه التصرفات الجنونية على الرغم من معارضة العقلاء من أبناء الوطن. وبالفعل بدأنا نلاحظ أن الجماهير بدأت تدرك هذا ولو ببطء شديد.
ومن تداعيات هذه السياسات الطفولية أنه بعد أعوام طويلة وللمرة الأولى صادق مجلس النواب الأميركي على مشروع قانون يتهم الدولة التركية بالإبادة الجماعية ضد الأرمن عام 1915، كما صوّت على مشروع قانون ينص على فرض عقوبات ضد تركيا جراء قيامها بعملية عسكرية في شمال شرقي سوريا، وتم اعتماده بأغلبية ساحقة أي بـ403 أصوات مقابل 16 صوتا معارضا.
وكان أكثر المواد لفتا للأنظار في حزمة العقوبات مطالبة مجلس النواب بحساب مفصل عن الأصول المالية لأردوغان وثروة عائلته، وتتطرق العناوين الفرعية لهذا المشروع إلى الدخل من نفط داعش واستفادتهم الشخصية من عملية غسل الأموال الذي قام به إيران في تركيا.
ويبدو أن الأرض ستضيق أكثر على أردوغان بما رحبت في قابل الأيام.