على عادتها في مثل هذه الفترة من السنة، تبدو باريس في أجمل أناقتها. الأضواء منتشرة في الشوارع والأماكن العامة، وتضفي عليها أجواءً دافئة وجذابة. لكن تفتقد العاصمة الفرنسية هذه المرة البهجة والفرح، اللّذين كانا يواكبان أعياد رأس السنة، ليحل محلهما الاضطراب والقنوط.
هذا القنوط بلغ أوجه مع الإضرابات، التي ينفذها قطاع النقل العام، إضافة إلى عددٍ كبيرٍ من القطاعات العامة الأخرى، منها المدارس والمستشفيات، احتجاجاً على خطة حكومية جديدة لإصلاح نظام التقاعد المعتمد في فرنسا.
ونتيجة لهذا الإضراب، تحولت معيشة الفرنسيين إلى معضلة فعلية، خصوصاً بالنسبة إلى العاملين في المدن الكبرى الذين عليهم التعامل مع مشاكل لم يألفوا مواجهتها، وفي طليعتها، كيفية الوصول إلى مكان العمل، وهي مشكلة يتساوى فيها أصحاب السيارات الخاصة ومستخدمو وسائل النقل العام.
واللجوء إلى السيارات الخاصة يتسبب باختناقات هائلة في حركة السير. وهذا ما تؤكده موظفة في إحدى الصيدليات، قائلةً إنها تحتاج إلى ثلاث ساعات للوصول من منزلها عند أطراف باريس إلى مقر عملها، ما يعني أن هذه السيدة تقضي يومياً ست ساعات في سيارتها، أي ما يساوي تقريباً المدة التي تقضيها في العمل، بينما في العادة لا تحتاج إلاّ إلى 35 دقيقة للوصول إلى وجهتها.
المسألة تصبح أكثر تعقيداً للأمهات العاملات. وتشير إحداهن، وهي تعمل في مركز للطب الفيزيائي، إلى أنها في كل صباح تجد نفسها أمام مشكلة التحقق من أن مدرسة أولادها غير مضربة، ومن ثم إيجاد سبيل لتأمين وصولهم إليها، إذ يتعذر عليها مرافقتهم بسبب مغادرتها المنزل في وقت مبكر جداً.
أما بالنسبة إلى غير السائقين، فهم ملزمون يومياً بالابتكار وقطع جزء من المسافة إلى عملهم سيراً على الأقدام أو على الدراجة، وتحيُّن فرصة الصعود إلى أحد القطارات أو الباصات النادرة، كون وسائل النقل العام معطلة بنسبة 75 في المئة.
هذه المتاعب تنطبق على المقيمين داخل المدن الكبرى، ومنها باريس التي تختلط في شوارعها السيارات بالمشاة براكبي الدراجات والدراجات النارية، وسط أجواء من التوتر والضوضاء بسبب الاكتظاظ.
طبعاً، كل هذا يزداد تعقيداً في أيام التحركات التي شهدت فرنسا ثلاثة منها منذ بداية الإضرابات، في 5 ديسمبر (كانون الأول). وفي هذه الأيام، يحتار كثيرون من العاملين بين التضحية بيوم من أيام إجازاتهم أو العمل من المنزل، إذا كانت وظيفتهم تسمح بذلك.
ويترتب على ذلك مشاكل عدّة على صعيد أرباب العمل، المضطرين إلى تنظيم جداول دوام موظفيهم وفقاً لوتيرة الإضرابات ونطاقها، فيتكبد عددٌ كبيرٌ منهم خسائر مادية بالغة.
فالفرنسيون عموماً ألغوا ما أمكن من تنقلاتهم، مكتفين بالأساسية منها، ما أشاع صورة من الكآبة، خصوصاً في باريس التي تبدو مقاهيها شبه فارغة من الزبائن وكذلك المتاجر، إذ إنّ كثيرين اختاروا شراء الهدايا لمناسبة الأعياد عبر الإنترنت.
الأمر ذاته ينطبق على الفنادق التي أُلغيت الحجوزات فيها بنسبة 30 إلى 50 في المئة، وكذلك المطاعم، خصوصاً الصغيرة منها، التي اختار بعضها إغلاق أبوابه إلى حين انتهاء الإضرابات.
واللافت أنه على الرغم من كل هذا، تؤيد نسبة 54 في المئة من الفرنسيين الإضرابات، لأنها ضرورية لمتقاعدي المستقبل. ففي رأيهم، الخطة الحكومية التي تقضي بتوحيد نظم التقاعد المختلفة، بحيث تصبح سن التقاعد هي ذاتها في مختلف القطاعات باستثناء تلك التي تتّسم بالعمل الشاق، هي خطة مجحفة.
صمود ماكرون
وتنص الخطة، التي تخص بشكل أساسي العاملين من مواليد عام 1965، على إلغاء الاستثناءات التي كانت متّبعة في عدد من القطاعات، وتحديداً في قطاع النقل العام، وتوحيد سن التقاعد عند 64 عاماً.
ومعروف أن هذه الخطة لم تسقط بغتة على الفرنسيين، بل إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تناولها بإسهاب في إطار حملته الانتخابية، لكنها تطال أكثر الملفات حساسية في بلد مثل فرنسا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والكل يذكر الإضرابات المديدة التي أصابت البلاد عام 1995، احتجاجاً على خطة رئيس الحكومة آنذاك آلان جوبيه، التي استمرت حوالى شهر وأدت إلى التراجع عن الخطة الإصلاحية. والسؤال الذي يُطرح اليوم حول مدى قدرة ماكرون وحكومته، التي يرأسها إدوار فيليب، على الصمود في مواجهة الضغط الشعبي، علماً أنه في مواجهة أزمات سابقة وأبرزها أزمة السترات الصفراء، التي استمرت أشهراً، أبدى الفريق الحاكم إصراراً وثباتاً تاركاً الباب مفتوحاً للتحاور والنقاش.
السلوك ذاته تقريباً معتمد اليوم من قبل السلطات الفرنسية، التي لم تتوقف عن الدعوة إلى التحاور مع النقابات، مبديةً استعدادها لإضفاء بعض التعديلات على خطة إصلاح نظام التقاعد. لكن التعامل مع النقابات المتمرسة وصاحبة التقليد الراسخ في مجال المعارك الاجتماعية أكثر صعوبة بكثير من التعامل مع السترات الصفراء، التي افتقرت لأي هيكلية أو رؤية موحدة لما تريده من المسؤولين.
والمحاولات الرسمية التي بُذلت لإثارة شرخ بين النقابات المتشددة، وفي طليعتها نقابة "سي جي تي" وتلك المعتدلة، ممثلةً بنقابة "سي اف دي تي"، لم تجد نفعاً حتى الآن، لا بل إنها فشلت في الحصول من النقابة الأخيرة على التعهد بهدنة خلال أسبوعَيْ الأعياد.
التشدد النقابي
هذا التشدد النقابي يجد تفسيره في أسباب عدّة، منها أن النقابات التي عانت من قدر كبير من التهميش خلال أزمة السترات الصفراء تريد اليوم إثبات وجودها مجدداً والتأكيد أنها الطرف الفعال في معركة الدفاع عن المكتسبات الاجتماعية.
وهي تستفيد في موقفها هذا من الاستياء العميق الذي أصاب القطاعات المختلفة، بما فيها قطاع الشرطة، حيال أداء ماكرون وفريقه الذين يسترسلون في خفض الموازنات القطاعية ومطالبتها في الوقت ذاته بخدمات أجدى وأكثر فعالية.
والمواجهة بالتالي مستمرة ومجهولة الأفق، ما يجعل الطرف الحكومي يراهن على عامل الوقت، آملاً بتلاشي الدعم الشعبي للمحتجين، في ظل توقعات تشير إلى أن الإضرابات لن تؤثر في معدل النمو الاقتصادي في فرنسا.