فجأة رحل قائد أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح، بعد ثلاثة أيام من تنصيب الرئيس الجديد عبد المجيد تبون في 19 ديسمبر (كانون الأول)، وقد قلده وسام الاستحقاق الوطني، ليكون ذلك آخر ظهور علني له. وبدا فيه الجنرال متعباً.
قبل أن يُودع قايد صالح الحياة عن عمر ناهز 80 عاماً، ظلّ الحاكم الفعلي للبلاد، والمسيطر على المشهد منذ اندلاع حراك 22 فبراير (شباط) 2019، إذ ألقى أكثر من 50 خطاباً في زيارات أسبوعية إلى الوحدات العسكرية، للحديث عن الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد.
سيذكر التاريخ أن قايد صالح من أبرز مهندسي مرحلة ما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، التي لم تظهر ملامحها، بإلحاحه على ضرورة تنظيم انتخابات رئاسية قبل نهاية 2019، ورفض كل مقترحات الدخول في مرحلة انتقالية أو تعيين هيئة رئاسية.
قبل أن يُنصب تبون رئيساً للبلاد، كانت المواجهة الأولى التي خاضها الجنرال ضد من عيّنه في 2004 رئيساً لأركان الجيش، وهو بوتفليقة. وقد فرضت تلك المواجهة ثورة شعبية وقفت ضد استمرار بوتفليقة في الحكم لأكثر من 20 عاماً.
ففي التعليق الأول له على الاحتجاجات الرافضة ترشح بوتفليقة لولاية خامسة، وصف قايد صالح، في 26 فبراير، دعوات الخروج إلى الشارع بـ"النداءات المشبوهة" واعتبر المتظاهرين "مغرراً بهم"، ما تسبب بغضب عارم في البلاد، ليتبنى بعدها الجنرال خطاباً تصالحياً، معلناً مرافقة الجيش الشعب الجزائري الذي أصر على التغيير.
خطاب 26 مارس (آذار) كان منعرجاً حاسماً في مسار الحراك، عقب دعوة المسؤول العسكري إلى تطبيق المادة 102 من الدستور تحسباً لتنحية بوتفليقة، لكنه عاد في 30 من الشهر ذاته لعقد اجتماع موسع لقيادة الأركان، جدّد فيه الدعوة إلى إعلان شغور منصب الرئيس، متهماً من سماهم "العصابة" بإيهام الرأي العام بأن الشعب الجزائري يرفض تطبيق المادة 102 من الدستور.
بعد تصريحات الفريق، أعلنت الرئاسة في 1 أبريل (نيسان) أن بوتفليقة سيقدم استقالته قبل أيام من انتهاء ولايته المحددة في 28 أبريل (نيسان)، لكن قايد صالح، أصدر بياناً شديد اللهجة أجبر بوتفليقة على الاستقالة، ليُغادر الحكم في 2 أبريل.
الرقم واحد
بعد رحيل بوتفليقة، أضحى قايد صالح الرقم واحد في البلاد وحاكمها الفعلي، فاستمر في التنقل بين الثكنات، مرتدياً بزته العسكرية ومخاطباً الجزائريين بمعدل ثلاث مرات في الأسبوع.
الاحتجاجات الشعبية لم تتوقف، بل ارتفعت المطالب، ليوجه قائد الأركان اتهامات مباشرة إلى مدير الاستعلام والأمن السابق، الجنرال توفيق، بعقد اجتماعات مشبوهة في الخفاء والتآمر على مطالب الشعب وعرقلة مساعي الجيش ومقترحاته لحل الأزمة.
أيام بعدها، دعا قائد المؤسسة العسكرية السابق جهاز العدالة إلى محاسبة المتورطين في قضايا الفساد. فتحركت المحاكم المدنية لإيداع رجال أعمال ووزراء سابقين في فترة بوتفليقة السجن، لتمس الملاحقات في 5 مايو (أيار) شقيق الرئيس، السعيد بوتفليقة، والجنرالين السابقين محمد مدين وبشير طرطاق، بتهم "المساس بسلطة الجيش" و"المؤامرة ضد سلطة الدولة"، وهم يواجهون عقوبة 15 سنة سجناً.
خصم لجزء من الحراك
تمسكُ قايد صالح برئيس الدولة المؤقت، عبد القادر بن صالح، وحكومة نور الدين بدوي المُعينة من بوتفليقة، جعل انتقادات الحراك تطاله، بل تدعو إلى رحيله.
خطاب 19 يونيو (حزيران)، بعد مرور نحو 5 أشهر من الحراك، كان بمثابة قطيعة بينه وبين جزء من الحراك.
ومع إصداره "أوامر صارمة لقوات الأمن" للتصدي لأي شخص يرفع خلال التظاهرات علماً آخر غير علم الجزائر، بدأت عمليات اعتقال طاولت كل من يرفع الراية الأمازيغية، قبل أن تشمل نشطاء سياسيين منهم كريم طابو وفوضيل بومالة وسمير بلعربي والمجاهد لخضر بورقعة (86 عاماً) أحد قادة "حرب التحرير" عقب تصريحه بأن الجنرال قايد صالح يسعى إلى فرض مرشحه في الانتخابات الرئاسية.
فرض الانتخابات
على الرغم من الضغط الشعبي، تمسك قايد صالح برفض الدخول في مرحلة انتقالية، والدعوة إلى ضرورة تنظيم انتخابات رئاسية حَدّدت لها الرئاسة موعد 4 يوليو (تموز)، لكن الشارع رفضها ولم يترشح أحد، ما أدى إلى تأجيلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بقاء رموز نظام بوتفليقة، أزعج المتظاهرين وجعلهم يتمسكون بمطالبهم التي تجاهلها الإعلام، لأن قيادة الجيش أصرت على الذهاب نحو الانتخابات، وحدد رئيسها الراحل، موعد 15 سبتمبر (أيلول) موعداً لاستدعاء الهيئة الناخبة و12 ديسمبر للانتخابات على رئيس جديد.
لمحاصرة الحراك، أسدى قايد صالح، في 18 سبتمبر، تعليمات إلى الأمن الوطني، تقضي بوقف العربات والحافلات التي تُقل المتظاهرين من الولايات إلى العاصمة، أيام الجمعة، مؤكداً أن "الظروف ملائمة لإجراء الاستحقاق الرئاسي".
ومع تعالي الأصوات الداعية إلى ضرورة انسحاب الجيش من السياسة تحت شعار "دولة مدنية وليس عسكرية"، نفى قايد صالح أي طموحات سياسية له. وهو موقف دأب على نفيه حتى بعد تنحي بوتفليقة.
انتخاب تبون
بعد 10 أشهر من الحراك، استطاعت المؤسسة العسكرية أن تفرض خريطة طريقها، على الرغم من استمرار الحركة الاحتجاجية، بشكل سمح لتبون بالوصول إلى الحكم، ليصفهُ قايد صالح في "رسالة تهنئة"، بأنه "الرجل المناسب والمحنك والقادر على قيادة الجزائر نحو مستقبل أفضل".
بعد وفاة قايد صالح، يتفق الجزائريون على أنه صاحب الفضل في عدم إراقة الدماء منذ بداية الحراك، وتمسكه بالحفاظ على الطابع السلمي للتظاهرات. لكنهم ينقسمون بين من يرى أنه عرقل التغيير الجذري في البلاد وأسهم في إعادة إنتاج النظام القديم، ومن يعتقد أنه الرجل الذي حمى وحدة البلاد واستقرارها، ووفى بعهده بقيادتها إلى انتخاب رئيس جديد تقع عليه مسؤولية الاستجابة لمطالب التغيير.