صدرت أخيراً الترجمتان الفرنسية والإنكليزية للجزء السادس من سلسلة "ميلينيوم" الشهيرة التي أطلقها الكاتب السويدي ستيغ لارسن عام 2005 وتابعها مواطنه دايفيد لاغركرانتز بعد وفاته. جزءٌ يحمل عنوان "الفتاة التي كان يجب أن تموت" ويختم هذه المغامرة الأدبية المشوِّقة بـ "كوكتيل"متفجِّر من الموضوعات الراهنة المثيرة التي تترواح بين فضيحة سياسية مدوّية ورحلات مشبوهة إلى جبال الهيمالايا وآخر ما توصّلت إليه التكنولوجيات الجينية ومصانع فبركة الإشاعات في روسيا.
ولمَن لم يقرأ الأجزاء الخمسة السابقة من "ميلينيوم"، نشير إلى أنها سلسلة روائية تشويقيّة (thriller) سويدية باع كل واحد من أجزائها عشرات ملايين النُسَخ عبر العالم واقتُبِست منها عدة أفلام سينمائية وكُتُب مصوَّرة. سلسلة يعود نجاحها بشكلٍ رئيس إلى جاذبية شخصيتيها الرئيسيتين اللتين نتابع مغامراتهما من جزء إلى آخر: الصحافي ميكايل بلومفيست المتخصٍّص في التحقيقات الإقتصادية والاجتماعية والسياسية الذي لا يتردّد في فضح احتيالات الشركات الرأسمالية الكبرى داخل مجلته "ميلينيوم"، وخصوصاً صديقته الحميمة ليزبيت سالندر، الفتاة الغامضة التي يغطّي وشم تنينٍ كامل جسدها وعانت الأمرّين على يد والدها العنيف والجاسوس المزدوج زالا، فتاة نادرة العبقرية في التكنولوجيات الإلكترونية الحديثة ولا شيء يردعها عن استخدام أعنف الوسائل لإحقاق العدالة.
أحداث الجزء الأخير من هذه السلسلة تنطلق مع موت شرّيد من أصول آسيوية في إحدى ساحات ستوكهولم وعجز السلطات عن تحديد هويته. رجلٌ بلا مأوى فقد عدة أصابع من يديه وقدميه في ظروف غامضة وعثرت الشرطة في جيب معطفه الوسخ على عدة أرقام هاتفية، بينها رقم ميكايل بلومفيست. ولذلك، حين تجد الطبيبة العدلية فريدريكا نيمان التي تفحص جثّته أن ظروف وفاته مشبوهة، لا تتوانى عن الاتصال ببلومفيست.
مصانع الاشاعات
ولأن هذا الأخير كان يراوح مكانه في التحقيق الذي كان يقوده حول "مصانع الإشاعات"، وهي مراكز يتواجد معظمها في روسيا ويضطلع فيها قراصنة الإنترنت ببثّ الأخبار الكاذبة على الشبكة العنكبوتية من أجل زعزعة الأنظمة الغربية، تثير قضية هذا الشرّيد فضوله، خصوصاً حين يعرف أن شهوداً عيّان سمعوا هذا الشرّيد، مباشرةً قبل وفاته، يتهجّم كلامياً على وزير الدفاع السويدي يوهانس فورسيل الذي تشاء الصُدَف أن يكون آنذاك عرضة لحملة تشهير وكراهية على شبكة الإنترنت. هل الأمر مجرّد هذيان شخصٍ مختلّ، أم أن ثمة رابطاً حقيقياً بين الرجلين؟ وهل أن الشرّيد توفي إثر تناوله طوعاً كوكتيلاً قاتلاً من الكحول والأدوية، أم أن طرفاً خفياً أقدم على تسميمه بطريقة تجعل وفاته تبدو كفعل انتحار؟
خلال سعيه للإجابة عن هذين السؤالين، يحاول بلومفيست عبثاً الاتصال بصديقته ليزبيت التي تتواجد سرّاً في موسكو من أجل تصفية حساباتها مع شقيقتها كاميلا التي باتت تعيش في العاصمة الروسية حيث تملك بفضل والدها الشرير علاقات متينة مع أعضاء نافذين في أجهزة المخابرات الروسية ومع مسؤولين كبار في المافيات الروسية وآخرين في "مصانع الإشاعات"! لكن عدم تواجُد ليزبيت في ستوكهولم لا يعني أنها لم تشاهد بلومفيست يطرق بابها بواسطة كاميرات المراقبة المثبّتة عند مدخل منزلها والموصولة إلى حاسوبها. وكالعادة، نجدها تتقدّم بعدة خطوات على خصومها، لكن للمرة الأولى، ولأن شقيقتها هي المستهدَفة، يربك الشك تصميمها المُحكَم للتخلص منها...
ولئلا نفسد على القارئ متعة قراءة هذه الرواية، نكتفي بهذا الحد من قصّتها، مشيرين فقط إلى أن كل أحداثها لا تلبث أن تتقاطع، كما في جميع الأجزاء السابقة من السلسلة، وإلى أن المسافة التي تفصل جغرافياً بين ميكايل وليزبيت لن تمنعهما من التعاون بشكل وثيق. رواية تسمح لنا أيضاً بالتعرف أكثر فأكثر إلى شخصية ميكايل وبسبر اللغز الذي يلفّ شخص وحياة ليزبيت التي تبدو لنا، أكثر من أي وقت مضى، وحشية، انفرادية، ثائرة ولامعة. فتاة مدهشة على أكثر من صعيد تجعلنا بوحدها نرغب في استمرار هذه السلسلة، خصوصاً أن الانتقاد الوحيد الذي يمكن توجيهه للاغركراتز في خصوص هذا الجزء هو تقليص دورها فيه قليلاً، مقارنةً بالأجزاء السابقة، إضافةً إلى ختمه بصفحات معدودة هذه المغامرة الأدبية الفريدة.
ومع ذلك، تبقى "الفتاة التي يجب أن تموت" رواية فاتنة بقدرة كاتبها اللافتة على الإمساك بأنفاسنا حتى الصفحة الأخيرة منها، عبر قفزه الثابت والمثير من شخصية إلى أخرى، ومن تحقيق إلى آخر، وإثراء قصّتها بمؤامرات وتألّبات غير متوقّعة، وبأحداث مشوِّقة غزيرة ومخيفة يلامس ميكايل وليزبيت خلالها الموت مرات عديدة. رواية طويلة، لكن أقلّ كثافة من الأجزاء السابقة، تنتمي إلى ذلك النوع من الكتب التي لا يسعنا سوى قلب صفحاتها من دون توقّف، وتمنعنا بالتالي من أخذ استراحة لدى قراءتها نظراً إلى تسارُع وتيرة تطوّراتها وتصاعُدها، وعنصر التشويق المستثمَر ببراعة داخلها.
من هنا واجب توجيه تحية للاغركرانتز الذي نجح بشكلٍ لامع داخل الأجزاء الثلاثة الأخيرة من سلسلة "ميلينيوم" في احترام الشكل السردي الفريد الذي ابتكره لارسن، ونقصد تلك التركيبة السحرية التي تقوم على تعاقُب سريع لفصولٍ قصيرة تتسلسل تاريخياً وتضعنا وجهاً لوجه مع مخطّطات إجرامية شديدة التعقيد تلعب الجغرافيا السياسية فيها دائماً دوراً مهماً. ومثل مواطنه، عرف لاغركرانتز أيضاً كيف يخلط ماضي بطلَيّ السلسلة وحياتهما الشخصية بتشعّبات تحقيقاتهما، إضافةً إلى إثباته قدرات فنية عالية سواء في ربط قدرَيّ هذا الثنائي المغناطيسي الذي يشكله ميكايل وليزبيت، أو في تشييد حبكات شديدة الإثارة داخل ظروف جدّ معاصرة.