يُعرض في العاصمة الفرنسية في هذه الأيام فيلم جديد للمخرج البولندي الأصل رومان بولنسكي. ويتدافع الناس لمشاهدته لعدة أسباب منها ما يتعلق بالمخرج نفسه هو الذي يتمتع بشعبية كبيرة في فرنسا وأوروبا، ومنها ما يتعلق بموضوع الفيلم وكونه مأخوذا إلى حد ما عن كتاب إميل زولا الحامل نفس العنوان، "إني أتهم"، والمدافع عن براءة الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس من تهمة التعامل مع العدو الألماني عند نهايات القرن التاسع عشر ما أثار يومها زوبعة وأوصل معاداة السامية ودور المثقفين في الحياة العامة إلى ذروة. ويذكرنا هذا بأنه في العام 1919 ظهر فيلم فرنسي صامت، بالعنوان نفسه تدافع كثر لمشاهدته في الصالات بفضل حمله العنوان نفسه، لكنهم فوجئوا بكون موضوعه شيئا آخر تماما: كان فيلما عن الحرب العالمية الأولى لا علاقة له بكتاب زولا أو بقضية دريفوس، ومع ذلك تقبّله المتفرجون وحققوا له نجاحا إذ بدا مستجيبا لنزعة معادية للحرب كانت قد استبدت بهم بعدما عاشوا وشاهدوا أهوال الحرب الأولى ولا سيما نعوش الجنود عائدة من الجبهة بعشرات الألوف!
حتى وإن كان آبيل غانس قد كتب سيناريو فيلمه بنفسه، لا شك أنه استوحى الكثير فيه من كتاب هنري باربوس، "النار" المعادي كليا للحرب وكان يُقرأ على نطاق واسع في فرنسا تلك الأيام. والحال أن ما كان يهم غانس في الأساس أن بقوله في "إني أتهم" هو لاجدوى الحرب بأي حال من الأحوال وأنها ليست سوى مقتلة مجانية حيوانية لا تفضي إلى أي مكان. وهو قال ذلك من خلال حكاية غرام وغيرة وحب وتنافس تتجول فيها كاميراه بين الجبهة – حيث استخدم أحيانا مشاهد معسكرات ومعارك حقيقية استعارها من أرشيفات وزارة الدفاع الفرنسية، وأحيانا مشاهد حقيقية صورها بنفسه ولكن أيضا مشاهد تمثيلية صور معظمها في الجنوب الفرنسي.
الخروج من القبور
بيد أن الفيلم لم يكن وثائقيا طبعا ولا كانت مشاهد الحروب والموت كل ما فيه. بل لا بد أن نذكر هنا كيف مزج آبيل غانس في الفيلم بين الواقعية وغرائبية تمثلت لديه في مشهد رهيب لم يكن من شأن المتفرجين أن ينسوه لفترة طويلة من الزمن: مشهد يتخيل فيها خروج مئات الميتين المدفونين إثر إعادة جثامينهم من الحرب، من قبورهم لينضم كل واحد إلى أهله وأحبائه قبل أن يؤذَن له بالعودة إلى قبره. ومع ذلك تكمن حبكة الفليلم في مكان آخر، لدى الجندي فرانسوا إبن ضيعة ريفية إذ يستجيب لنداء الواجب ما إن يدعو داعي الحرب ويتوجه إلى الجبهة تاركا زوجته إديث دون أن يكون جاهلا أن غرامها بالشاعر المحلي جان قد يؤذي زواجهما. لكنه سيافجأ بالشاعر معه في الجبهة. وهكذا يدور التنافس هناك على حب إديث وتتوزع الحكاية بين المتنافسين في الجبهة والفرية بحيث ينتهي الأمر بموت الإثنين معا، ولكن بعد أن ينتفض الشاعر غضبا ويمزق دواوين شعره متسائلا عما حلّ بإنسانية صار القتل "هواية أفرادها الأولى". والحقيقة أن من يصرخ "إني أتهم" في المشهد الأخير البالغ القسوة في الفيلم إنما هو الشاعر الذي سينتهي الأمر إلى توجيه الإتهام بصراخ مكتوم – إذ كان الفيلم في نسخته الأولى صامتا – إلى الشمس "التي ترى كل شيء وتعرف كل شيء لكنها لا تحرك ساكنا". ولسوف يقول غانس لاحقا أنه أراد أن تكون صرخة الشاعر قبل لحظات من موته في نهاية الفليم ضد الحميع، "ضد العسكر والسياسيين والمفكرين والمجتمع والطبيعة... فهم جميعا تواطأوا ليجعلوا الحرب ممكنة بل حتمية". ولئن قلنا هنا أن صرخة الشاعر كانت مكتومة في هذه النسخة لا بد من التذكير بأن غانس عاد إلى فيلمه يطوره مرات ومرات بل إنه سيحقق منه نسخة جديدة ناطقة في العام 1938 إذ شعر أن الحرب العالمية الثانية لا محالة مندلعة حاملة "للإنسانسة من جديد ثدرا كبيرا من الفظائع وجرعات مليونية من الموت والدما" لتنتهي كما الأولى بلا شيء!"
عاش آبيل غانس حتى قارب المئة عام من عمره واعتبر خلال نصف القرن الأخير من حياته واحداً من كبار المخرجين الذين صنعوا للسينما الفرنسية مجدها، ولكن في تلك الفترة نفسها، وسط موجة التكريم والتبجيل، لم يتمكن آبيل غانس من ان يحقق ولو فيلماً قصيراً، وهو الذي أعطى السينما الفرنسية فيلميين لاتزال تبجلهما حتى اليوم: "العجلة" (1921) و"نابوليون" (1927)..
والحال ان المأساة التي عاشها آبيل غانس تكشف عن الأوليات القاسية لهذا الفن الذي كان فن القرن العشرين من دون منازع، لكنه كان واحداً من أكثر الفنون التي لم تتوقف يوماً عن قهر فنانينها واحباطهم. فالفـن السينـمائي كان - على الدوام - الفن الذي خلّف من المآسي ما لم يخلفه أي فن آخر، بحيث ان السينمائيين عاشوا أحلامهم وخيبة احلامهم أكثر مما عاشوا لحظات مجد حقيقية، بل يقال دائماً ان وصول فنان السينما إلى أعلى درجات المجد، ان هو إلا الإشارة التي لا تخطئ إلى أن العد العكسي قد بدأ بالنسـبة اليه.
رجل متحف
طوال خمسين سنة سبقت رحيله عن عالمنا (1981) كان آبيل غانس رجل متحف من الطراز الأول: يكرّم وتقام المهرجانات باسمه، وتؤلف عنه عشرات الكتب والدراسات، من دون ان يجرؤ أي منتج على المراهنة بقرش عليه. وهذا ما جعل الكثيرين يعتقدونه ميتاً منذ زمن بعيد، حين وصلهم نبأ رحيله.
بدأ آبيل غانس حياته، رجل أدب ومسرح وشعر، ثم شرع في كتابة العديد من السيناريوهات مع السنوات الأولى لولادة فن السينما الروائية، بعد ذلك وخلال الفترة بين 1911 و1915 بدأ يخرج سيناريوهاته بنفسه وتجلت موهبته السينمائية باكراً، حيث اعتبر إلى جانب جورج ميلياس المؤسس الحقيقي للسينما التخييلية في فرنسا. وهو بعد سلسلة من الأفلام القصيرة وأفلام الحرب، وبعد ان كان من أوائل مبتكري اللقطة المكبرة ذات البعد النفساني في السينما، أتيح له في 1917 ان يحقق أفلامه الدرامية الكبيرة الأولى مثل «ماتر دولوروزا» (1917) و«السيمفونية العاشرة» (1918) ثم «إني اتهم» الفيلم الذي جاء دعوة صريحة ضد الحرب وأثار ضده نقمة العديد من الأوساط القومية. وهو في العام 1921 بدأ تحقيق فيلم «العجلة» الذي يمكن اعتباره أول فيلم مناصر للبيئة في تاريخ السينما حيث رسم التعارض بين الآلة بشتى تجلياتها، وبين الطبيعة الهادئة..
منذ البداية انطبعت سينما آبيل غانس بقدر كبير من الشاعرية وقدر أكبر من الابتكار، حيث كان في كل فيلم من أفلامه وكأنه يخترع السينما من جديد، ولقد قاده هذا إلى أن يحقق في 1927 فيلمه الأكبر والأهم «نابوليون» الذي كان، بحق، واحداً من أكبر الاستعراضات في تاريخ السينما. وكان أول لقاء حقيقي بين السينما والتاريخ، خاصة إن غانس حرص على أن يجدد في أسلوب العرض، حيث استخدم طريقة الشاشات الثلاث، ما جعل فيلمه عصياً على العرض، ولكن مفاجئاً في الوقت نفسه.
كان فيلم «نابوليون» لحظة المجد الكبرى في حياة آبيل غانس، إلا أنه كان أيضاً لحظة إعلان الغروب لمساره المهني، حيث نراه بعده يحقق بعض الأفلام ويعيد ضبط أفلام قديمة له ولا سيما "إني أتهم" الذي ضبطه وضبطه مرات ومرات، من دون أن يرقى إلى لحظة المجد التي بلغها بفيلمه الكبير ذاك. مهما يكن فإن المنتجين وأصحاب السـلطة في اللعبة السينمائية ظلوا بعيدين على الدوام عن الاهتمام بآبيل غانس وبابتكاراته السينمائية، كما أن الجمهور نفسه لم يتابع أفلامه التالية مثل «غرام بيتهوفن» (1937) أو «لوكريس بورجيا»، أو «الفردوس المفقود» أو "فينوس العمياء» (1940). وهكذا راح آبيل غانس يخلد إلى صمت يطول أكثر وأكثر، حتى استراح نهائياً منذ أواسط الخمسينات مكتفياً بتكريمه ووضعه في المتاحف.