كانت تصرفات جماعة "أنصار الله" الحوثية تبرهن على أنهم غير معنيين بأي عمل في إطار الدستور اليمني القائم، وكانوا يمارسون مبكراً سلطة أمر واقع لا تلتفت إلى أي اعتراضات أو ملاحظات، وعلى الرغم من محاولات الرئيس الراحل علي عبدالله صالح إقناعهم بدعوة مجلس النواب إلى الانعقاد، لكن مسألة الالتزام بالإجراءات الدستورية ما كانت ذات قيمة عند قياداتهم الشابة التي لم تكن تمتلك الحنكة الكافية لإدارة البلاد بصورة أقل عنفاً وتسلطاً، كما أن خشيتهم من دهاء صالح ومناوراته ضاعفت من مخاوفهم إزاء نواياه.
حصار المجلس
حاصرت ميليشيات جماعة "أنصار الله" مجلس النواب ومنعت أعضاءه من الوصول إليه، واستمرت في تعيين أنصارها مشرفين على مؤسسات الدولة ليصبحوا أصحاب القرار والنفوذ داخلها، وفي الوقت ذاته كانت تواصل إحكام قبضتها على معسكرات الجيش والمؤسسة الأمنية، واستسلم الجميع – عدا أصوات قليلة – للأحداث، وظل الرئيس معتقلاً في منزله وكذلك رئيس حكومته، ولم ينتبه الحوثيون إلى أن أفعالهم ستثير الانزعاج والمخاوف، وبالغوا في تقدير رد فعل الإقليم على التباهي بعلاقتهم بالحكومة الإيرانية.
في بدايات يناير (كانون الثاني) 2015 تحركت ميليشيات "أنصار الله" جنوب صنعاء وصولاً إلى تعز، التي كان دخولهم إليها غير مقنع سياسياً واستفز مشاعر كثيرين من أبنائها، وكان الغطاء الذي استخدموه هو محاربة "الدواعش" كما كانوا يسمون كل خصومهم. وعبثاً حاول محافظ تعز حينها شوقي هائل تجنيب المحافظة الصراع المتوقع بينهم وبين ميليشيات "الإصلاح"، التي كانت تمثل قوةً لا يُستهان بها، لكن الإعلام في الطرفين تمكن من تحويل المعركة بينهما إلى منزلق طائفي "مذهبي" استخدما فيه كل مفردات الكراهية.
كانت المعركة في تعز مدمرة ومزقت النسيج الاجتماعي على امتداد اليمن، وكان الاستقطاب فيها واضحاً ولا يمكن أن تخطئه العين، وكان حزب الإصلاح متمسكاً بمعركة عسكرية لإخراج الميليشيات القادمة من خارج تعز، وعرقل كل المساعي التي بذلها شوقي هائل للتوصل إلى حل يحفظ المدينة من الدمار، لكنه بقي وحيداً في مواجهة أزمة لا يمكنه السيطرة على مساراتها، فاضطُر للاستقالة بعد تعرضه للضغوط من كل الأطراف الحزبية ووجد نفسه محاصراً ففضّل العودة إلى أعماله التجارية.
معركة مصيرية
معركة تعز كانت مصيرية بالنسبة إلى حزب "الإصلاح"، إذ لا بُد أنه أدرك أن وجوده في المناطق القبلية الشمالية - الزيدية تاريخياً – قد تضاءل وخرجت من تحت سيطرة نفوذه، الذي كان في الأساس يعتمد على تغلغله في المجتمع القبلي عبر مشايخه الذين كانوا مرتبطين به لفترات طويلة. وهكذا مثلت تعز منطقة لا يمكنه التخلي عنها تحت أي ظرف لأنها كانت ستمثل نهايته السياسية، وتمكن من حشد الكثيرين داخلها ضد الوجود الحوثي القادم من خارجها، مستدعياً ذاكرة التاريخ الذي تمثله قبائل الشمال في أذهان الناس في المناطق الشافعية وخصوصاً تعز. وفي الوقت ذاته كان "أنصار الله" يرون أن السيطرة على المحافظة ستمكّنهم من محاصرة المحافظات الجنوبية وصولاً إلى عدن، بعدما أحكموا قبضتهم على الشمال.
لم تتوقف الإجراءات السياسية الأحادية التي يتخذها "أنصار الله"، ففي نهاية فبراير (شباط) 2015 أعلنوا عن اتفاق بين الخطوط اليمنية وإحدى شركات الطيران الإيرانية على تسيير 28 رحلة أسبوعياً بين طهران وصنعاء، وكان أمراً مثيراً للاستغراب، إذ لم يكن هناك من سبب تجاري للأمر، فليست للبلدين علاقات تستدعي هذا العدد من الرحلات، وإن كانت "الجماعة" بررته بأنه لكسر العزلة التي فُرضت على مطار صنعاء بعد اعتقال الرئيس هادي، ولم يكن ذلك مقنعاً إلا أنه دل على عدم إدراكهم أن مفهوم السيادة لا يقتصر فقط على حرية اتخاذ القرارات السيادية، بل يصبح خطراً إذا لم يراعِ مخاوف الجوار وتأمين الحدود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الاستئثار بالسلطة
كانت سرعة توالي الأحداث تنبئ بأن "أنصار الله" ينوون الاستئثار بالسلطة منفردين، وفي أفضل الأحوال مع شركاء لا تأثير لهم على الأرض. ولم يتوقفوا عن تجاهل كل القوانين والأنظمة، ومارسوا قسراً كل السلطات تحت غطاء الإعلان الدستوري الذي أصدروه في 6 فبراير 2015، والذي حُلّ بموجبه مجلس النواب وشُكِلت "اللجنة الثورية العليا" برئاسة محمد علي الحوثي، ولم تقبل الأحزاب الرئيسية المشاركة فيها. واستمرت الحكومة التي شكّلها خالد بحاح المحتجز في منزله بممارسة أعمالها بمَن تبقى من الوزراء الذين قبلوا الاستمرار في أعمالهم، وارتبكت مؤسسات الدولة، وصارت أوامر "المشرف" وتوجيهاته هي التي تحدد نشاطاتها وأعمالها.
شكّل الإعلان الدستوري واللجنة الثورية العليا محاولة للحصول على شرعية تتيح لجماعة "أنصار الله" تسيير أعمال الدولة وإغراقها بالتعيينات، ولكن ذلك لم يكن كافياً للحصول على قبول شعبي أو خارجي. وفي خضم هذه الإجراءات شكّل توقيت هروب الرئيس هادي من صنعاء مفاجأةً كبيرة غيّرت موازين المشهد السياسي، لأنه كان في اليوم الأخير الذي بعده تصبح استقالته مقبولة دستورياً دونما حاجة إلى انعقاد مجلس النواب لإقرارها، وليس محتملاً أن يكون هو مَن أشرف على الترتيبات.
بعد وصول الرئيس هادي إلى عدن لحقه عدد من الوزراء والقيادات السياسية، بينما بقي في صنعاء رئيس الحكومة خالد بحاح، الذي سعى الحوثيون خلال فترة احتجازه إلى إقناعه بتولي "مجلس رئاسة"، إلا أنه رفض كل العروض لإصراره على عودة الأوضاع الطبيعية ثم البحث في البدائل التي ترضي كل الأطراف. وأفرج عنه الحوثيون في 16 مارس (آذار) 2015 بعد وساطات مجتمعية كان أبرزها جهود أمين العاصمة المرحوم عبد القادر هلال، الذي استُشهد مع قيادات أخرى في حادثة قصف صالة عزاء بصنعاء في 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2016، وخلال تلك الفترة لم تجر أي اتصالات ذات طابع رسمي بين هادي وبحاح عدا اتصالات الأخير للاطمئنان على صحة الأول.
غادر بحاح صنعاء للمرة الأخيرة إلى حضرموت، ووصلها بعد ثلاثة أيام من إطلاق سراحه، ثم توجه في 24 مارس 2015 (قبل يومين من انطلاق عاصفة الحزم في 26 مارس) إلى الولايات المتحدة التي كان تركها بعد استدعائه لتشكيل الحكومة، حيث كان حينها مندوباً لدى الأمم المتحدة. ومرةً أخرى كان المشهد السياسي يزداد ارتباكاً ولم يتمكن السياسيون من التعامل مع الموقف. وشكّل انتقال الرئيس إلى عدن بدايةً لتأسيس حالة بلا سابقة يمكن الاعتماد عليها، أو الاستئناس بها لإيجاد مخرج مقبول للجميع.