عشية انتهاء فعاليات نسخته الـ56، سيطرت الخلافات في الرأي بين حضور مؤتمر ميونخ للأمن، أحد أهم التجمّعات الدولية التي تصدر عنها رسائل مهمة عن المستقبل، في دورته الحالية، وسط حالة من الغموض في عددٍ من الملفات الدولية، في مقدمتها الخلافات التجارية العالمية والتغير المناخي.
ووسط المشاركة الدولية الواسعة في المؤتمر من مسؤولين رفيعي المستوى بمجالات السياسة، والاقتصاد، والدفاع، والاستخبارات، بينهم رؤساء ورؤساء حكومات 30 دولة، ووزراء خارجية ودفاع من نحو 70 دولة، حسب الموقع الرسمي للمؤتمر، توقّع مراقبون أن لا تخرج هذه الدورة بـ"إجماع على مستوى القضايا السياسية والأمنية" التي يركّز عليها.
أبرز النقاشات
وسيطر على أجندة المجتمعين في المؤتمر، قضايا النظام الليبرالي الدولي، ودفاع الاتحاد الأوروبي عن نفسه، والخلافات التجارية العالمية، والتغير المناخي، والأمن السيبراني، والتنافس الاقتصادي والتكنولوجي بين الدول العظمى والنتائج المحتملة.
كما ناقش المسؤولون المشاركون عدداً من الموضوعات المتعلقة بالسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي، وأفريقيا، وروسيا، وليبيا، وإيران، والصين.
ومِن المُنتظر أن يتناول المشاركون بالمؤتمر أيضاً ملفات عدّة، مثل الأزمات المُشتعلة بمناطق عديدة حول العالم، وقضايا السياسات الخارجية والدفاعية، وذلك وسط إجراءات أمنية مُشددة تتخذها السلطات الأمنية في محيط الفندق المستضيف المؤتمر، إذ يشارك في التأمين نحو 5 آلاف شرطي، إلى جانب أكثر من مئتي جندي، لا سيما بعد إعلان مجموعات يسارية عزمها تنظيم احتجاجات وتظاهرات مناهضة حلف الناتو، في مركز مدينة ميونخ، حيث مقر انعقاد المؤتمر.
خلافات وسجال داخل المعسكر الغربي
في يومه الثاني، دخل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في سِجال مع قادة أوروبا بشأن مسألة تراجع نفوذ واشنطن، واصفاً تصريحاتهم عن انكفاء بلاده عن الساحة الدولية بـ"المُبالغ فيها إلى حد كبير".
وسعى بومبيو، في خطابه أمام المؤتمر، للتخفيف من حدة القلق الأوروبي بشأن العلاقة بين ضفتي الأطلسي في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
وقال، "الغرب ينتصر، ونحن ننتصر معاً"، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أدلى مباشرة بتصريحات مناقضة، مُحذراً من "ضعف الغرب".
وهيمنت المخاوف من تراجع نفوذ الغرب في وجه تزايد النفوذَين الصيني والروسي على مؤتمر ميونخ، الذي يمثل الاجتماع السنوي لقادة العالم وكبار القادة العسكريين والدبلوماسيين لمناقشة التحديات الأمنية.
وفي كلمته التي ألقاها لدى افتتاح المؤتمر، يوم الجمعة، أشار الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير إلى أن الولايات المتحدة "ترفض حتى فكرة وجود مجتمع دولي"، وتتحرّك "على حساب الجيران والشركاء"، معتبراً أن شعار نظيره الأميركي دونالد ترمب "أميركا أولاً" هزّ النظام العالمي، وأجّج انعدام الأمن في عالم غير مستقر.
وأضاف شتاينماير، "كل عام نبتعد أكثر وأكثر عن هدفنا المُتعلق بخلق عالم أكثر سلماً من خلال التعاون الدولي"، وخصّ بالذكر الولايات المتحدة "أقرب شركاء" أوروبا لتراجعها عن المسرح المتعدد الأطراف، في وقت تتفاقم فيه التوترات بين قوى عسكرية كبرى.
لكن، بومبيو شدد على أن "هذه التصريحات لا تعكس الواقع"، وأضاف "فكرة أن التحالف بين ضفتي الأطلسي مات مبالغ فيها إلى حد كبير".
ونوّه إلى أن واشنطن تلعب دوراً أساسياً في المحافظة على أمن أوروبا عبر تعزيز الأمن في الخاصرة الشرقية لحلف شمال الأطلسي عند الحدود مع روسيا، إضافة إلى قيادة الجهود الدولية لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، وتساءل: "هل هذه هي أميركا التي ترفض الأسرة الدولية؟".
وشدد بومبيو على الحاجة إلى العمل بشكل مُشترك لمواجهة التهديدات التي تشكّلها طموحات روسيا التوسعية من جهة، وتعزيز الصين وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي من جهة أخرى، و"حملات الإرهاب" التي تقودها إيران عبر خوضها حروباً بالوكالة بالشرق الأوسط.
وضمّ الأمين العام للحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ، الذي تحدّث أمام الحضور في مؤتمر ميونخ كذلك، صوته إلى بومبيو في الإعراب عن أسفه حيال النبرة المتشائمة التي تبنّاها المجتمعون.
وقال ستولتنبرغ، "توجد منافسة في مجالات عدّة، وبكثير من اللاعبين المختلفين، لكن التحسّر ببساطة على أننا ضللنا الطريق لن يوفّر لنا طريقاً إلى الأمام"، وشدد على أن "أوروبا وأميركا الشمالية شريكان لا غنى عنهما".
لكن، ماكرون كرر المخاوف التي أعربت عنها ألمانيا، وقال إنّ الولايات المتحدة "تراجع علاقتها مع أوروبا"، مضيفاً "على القارّة أن تتولّى تقرير مصيرها".
وتابع، "نحتاج إلى استراتيجية أوروبية تُعيد إحياءنا، وتحوّلنا إلى قوة سياسية استراتيجية".
كما اعتبر ماكرون، سياسة التحدي التي انتهجتها أوروبا في التعامل مع موسكو على مدى السنوات القليلة الماضية "باءت بالفشل"، مؤكداً "الخيار الوحيد يتمثّل في حوار أوثق لحل الخلافات بالنظر إلى أن أحداً لا يرغب في المواجهة المباشرة مع موسكو".
وذكر ماكرون، "أسمع لهجة التحدي من جميع شركائنا. لست مخبولاً، لكنني أعرف أن التحدي مع الضعف ليس سياسة، بل نظام غير فعّال تماماً".
وتابع "ثمة خيار ثان، وهو المطالبة بالحوار واستئنافه، لأننا لا نتحدث كثيراً هذه الأيام بينما تتزايد الصراعات، ولا نتمكّن من حلها".
"هواوي" الصينية تهيمن على الأجندة
إلى ذلك تسلّطت الأضواء أيضاً والنقاشات على الانقسامات في ظل السجال الذي ازدادت حدته بشأن مجموعة هواوي الصينية العملاقة للاتصالات، وهو موضوع آخر هيمن على مؤتمر ميونخ.
وضغطت واشنطن بشدّة لإقناع الدول بمنع (هواوي) من تأسيس شبكاتها من الجيل الخامس لإنترنت الهواتف المحمولة، مشيرة إلى أن مُعداتها "ربما تستخدم للتجسس" لصالح بكين.
وقال وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر، "(هواوي) مجرد نموذج لاستراتيجية الصين البغيضة للتسلل والهيمنة على البُنى التحتية الغربية المهمة. لكنْ حلفاء رئيسيون بينهم بريطانيا وفرنسا قاوموا الضغوط حتى الآن، واتفقوا على فرض قيود من دون الذهاب إلى أبعد من ذلك وحظر الشركة".
بدوره، حضّ وزير الخارجية الصيني وانغ يي الأوروبيين على تبني "مقاربة موضوعية وحكيمة"، مع "توفير بيئة تجارية مُنصفة لجميع الشركات".
كما رفض الوزير الصيني انتقاد الولايات المتحدة بلاده، واصفاً ذلك بـ"الأكاذيب"، وذلك بعد وقت قصير من انتقاد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو سياسة الصين الخارجية بقوله إنها "تسعى لتكوين إمبراطورية"، وقال وانغ "كل هذه الاتهامات ضد الصين أكاذيب لا تستند إلى حقائق".
إلى ذلك، قال بومبيو أمام المؤتمر، "الولايات المتحدة تنوي عبر وكالة تمويل التنمية الدولية وبدعم من الكونغرس الأميركي تقديم ما يصل إلى مليار دولار من التمويل لدول وسط وشرق أوروبا الأعضاء في مبادرة (البحار الثلاثة)، وذلك لتعزيز استقلالها في قطاع الطاقة في مواجهة روسيا".
وأضاف، "الهدف هو تحفيز استثمار القطاع الخاص في قطاعات الطاقة التابعة إليها (الدول الأعضاء في المبادرة)".
وتضم المبادرة 12 دولة في شرق ووسط الاتحاد الأوروبي، وازداد قلقها من نفوذ روسيا منذ ضمّت موسكو شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال اجتماع "مبادرة البحار الثلاثة" في 2017، عرض ترمب تقديم الغاز الطبيعي الأميركي المُسال إلى المجموعة، حتى لا تكون دولها "رهينة" الإمدادات الروسية.
ويأتي عرض واشنطن في ظل معارضة أميركية شديدة لمشروع أنابيب غاز "نورد ستريم 2" (السيل الشمالي 2) الروسي الذي يهدف إلى مضاعفة عمليات إيصال الغاز الروسي إلى ألمانيا، إذْ ترى واشنطن أنّ خط الأنابيب سيزيد نفوذ روسيا في ما يتعلّق بقضايا أمنية واقتصادية في غرب أوروبا.
ويرجع تاريخ المؤتمر إلى عام 1963، حين انطلقت النسخة الأولى منه، باسم "ملتقى العلوم العسكرية الدولي"، وكان يُوصف وقتها بـ"لقاء عائلي عبر الأطلسي"، نظراً إلى اقتصار المشاركين فيه على ألمانيا والولايات المتحدة ودول الناتو فقط، لكن اعتباراً من عام 1994 تغيّر اسم المؤتمر ليصبح (مؤتمر ميونخ للسياسات الأمنية)، وبدءاً من عام 2008 صار (مؤتمر ميونخ للأمن).
وشهدت النسخة الأولى للمؤتمر مشاركة محدودة لا تتعدى 60 مسؤولاً، في حين ازداد الإقبال على المؤتمر اعتباراً من عام 1999، مع مشاركة ممثلين عن دول شرق أوروبا، والهند، واليابان، والصين.