لم يستوعب الإسرائيليون من سياسيين وعسكريين ومواطنين وحتى من كتلة الليكود بعد، خطوة رئيس تكتل "أزرق – أبيض"، بيني غانتس بالتراجع عن معركته التي خاضها منذ نتائج الانتخابات الثانية، وصعّدها مطلع الشهر الحالي، بعد نتائج الانتخابات الثالثة، وأصرّ من خلالها أنه يرفض دخول حكومة برئاسة بنيامين نتنياهو وبأنه عازم على الإطاحة برئيس الكنيست وانتخاب رئيس آخر.
الإسرائيليون لم يستوعبوا بعد، لكن الضالعين في السياسة الحزبية الإسرائيلية وشخصية غانتس، في مقابل قدرات نتنياهو، أو كما يسميه البعض "ملك إسرائيل"، اعترفوا بقدرات الأخير مقابل ضعف ووهن منافسه، إذ أثبت ما كان يردده بأنه قادر على التفوق في كل معركة يخوضها، حتى وهو ملاحق بلائحة اتهامات ومخالفات جنائية خطرة، سبق أن دخل متهمون بها ومن بينهم قادة إسرائيليون إلى السجن.
في المحصلة فإن الرئيس السابق لأركان الجيش الإسرائيلي، الذي تفاخر بقوته وقدرته على الصمود ومواجهة أخطر التحديات، استسلم هذه المرة وانسحب من المعركة، حتى قبل أن يخوضها. أما نتنياهو الذي التزم الصمت السياسي منذ عشرة أيام على الأقل، وتحديداً عند انتشار فيروس كورونا وما يشكله من خطر على حياة الإسرائيليين، فظهر كقائد معركة حقيقي. يظهر على شاشات التلفزيون مساء كل يوم، حين ينتظر الإسرائيليون حلول الساعة التاسعة مساءً لسماع ما سيقدمه من تطورات، مثلما هو الوضع أثناء الحروب. وعلى الرغم من الانتقادات اللاذعة الموجهة له، بعدم التجاوب مع مطلب وزارة الصحة بإدخال إسرائيل إلى حجر كامل منذ ذلك الوقت، وعلى الرغم من معرفة الإسرائيليين بأن السبب يعود إلى مصالح شخصية متعلقة بمصيره السياسي، بقي نتنياهو ثابتاً من دون أن يهتز بسبب أي انتقاد أو تهديد، لا من وزارة المالية ولا الجمهور، الذي احتج على تردده، ولا حتى من وسائل الإعلام، ثم رمى القنبلة إلى حضن خصمه غانتس ليدعه يفجرها ويحرق كثيرين من حوله، من دون أن يتأثر هو. وعلى عكس كل التوقعات، خرج نتنياهو بصورة الرابح الأكبر بل واعترف مَن انتقده لفترة طويلة بقدراته على الاحتيال السياسي.
الإهانة والزحف لرئاسة الحكومة
حتى اللحظة الأخيرة قبل إعلان غانتس نيته الترشح لرئاسة الكنيست، كانت لدى الإسرائيليين بارقة أمل في إمكانية التخلص من نتنياهو، إذ إن عنوان معركة غانتس كان "المنافسة على رئاسة الحكومة"، ليتبين كما رأى البعض، أنه مرشح الليكود لمنصب رئيس الكنيست، ومن ثم لوزارة الخارجية. وإذا كان غانتس رفض قبل أسبوع أن يكون خليفة نتنياهو في الحكومة، فاليوم تبيّن أن طموحاته تراجعت حتى قبل أن يكون خليفة يولي أديلشتاين رئيس الكنيست.
تلقى غانتس تكليفه من الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين لتشكيل الحكومة، وتقدم خطوات عدة أظهر من خلالها امكانية حصوله على دعم أكثرية ولو من الخارج، وتحديداً من القائمة العربية المشتركة، لانجاح جهوده في الحكومة، لكنه في اللحظة الأخيرة وقبل ساعات من انتخاب رئيس الكنيست تراجع وقرر الرضوخ لضغوط نتنياهو لتشكيل حكومة طوارئ بذريعة تفشي فيروس كورونا، حتى اتخذت الحكومة العتيدة اسماً شعبياً هو "حكومة الكورونا". وبهذه الطريقة، وجّه غانتس إهانةً كبرى لشركائه السياسيين، ما استدعى يائير لبيد وموشيه يعالون إلى الانسحاب من تكتل "أزرق – أبيض" ومعهما 16 نائباً، بالتالي بقي غانتس مع أقلية 15 نائباً.
ورأت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في افتتاحيتها أن حزب الليكود نجح في إضافة جندي جديد إليه، وهو ما لم يتوقعه الإسرائيليون في أسوأ السيناريوهات التي وضِعت للحكومة المقبلة. وأضافت الصحيفة "صحيح أن غانتس سيحصل على رزمة كبيرة من المناصب، بما في ذلك وزارة القضاء، التي أصبحت في الولاية الأخيرة جبهة المعارك المركزية بين المعسكرين، غير أنه يعرف جيداً أن نتنياهو ورفاقه في "تجمّع اليمين" سيفعلون كل ما يستطيعون كي يواصلوا قضم أجهزة القضاء، انطلاقاً من الإيمان بأن الديمقراطية تعتمد على "حكم الغالبية" وأن حقوق الأقليات والمساواة المدنية هي شعارات عديمة القيمة والوزن".
الساحر والأرنب
في المقابل، وتحت عنوان "الساحر والأرنب"، خرجت صحيفة "يديعوت أحرونوت" بمقال اعتبرت فيه نتنياهو ساحراً وغانتس الأرنب. وكتبت "لن تجدي المحكمة نفعاً: نتنياهو ساحر حقاً. ما لم ينجح في تحقيقه في الانتخابات حققه الخميس، بتفكيك "أزرق – أبيض". كل التعهدات التي قطعها نتنياهو بالحقائب، بقواعد اللعب، بالسياسة، بالتناوب، تتقزم أمام هذه الحقيقة السياسية. ليس لغانتس طريق عودة. فقد اجتاز الخطوط وهو محكوم بأن يبقى هناك". وحول غانتس كتبت "هو ليس خائناً. وليس بطلاً أيضاً. هو من جيل الجنرالات الذين لم يعرفوا النصر في حياتهم المهنية – التعادل فقط. خرج "أزرق - أبيض" مهزوزاً من جولة الانتخابات الثالثة. وكان يتعيّن على غانتس أن يفهم بأن جولةً رابعة ستقلص حزبه أكثر فأكثر. وأوضحت نتائج الانتخابات أن لا مستقبل لغانتس. ولا مستقبل لـ"أزرق – أبيض" أيضاً. لدينا تجربة متراكمة في انضمامات أحزاب من تيار الوسط إلى حكومة متطرفة، بدءاً من انضمام داش بقيادة يغئال يدين إلى حكومة مناحيم بيغن وحتى انضمام شاؤول موفاز وموشيه كحلون إلى حكومات نتنياهو. الدرس لا لبس فيه: يبدأ هذا بكلمات جميلة عن الوحدة والطوارئ، يتواصل في جهود مخيبة للآمال لمنع حكومة يسارية وينتهي بالمهانة والتبدد. ليس بانتظار غانتس مصير آخر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليبرمان الخاسر الأكبر
مع انقسام "أزرق – أبيض" يصبح الكنيست مقسماً إلى ثلاث كتل: اليمين – غانتس - الأصوليون والقائمة العربية المشتركة وكتلة لبيد – يعالون – ليبرمان ككتلة "وسط". وسيكون أفيغدور ليبرمان في مثل هذه الوضعية الخاسر الأكبر. وهو لم يقل كلمته بعد، لكن الكاريكاتيرات التي ملأت شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام أظهرته عاطلاً من العمل. كما يبدو مصير حزب "العمل" (ميرتس)، غير واضح، وسط توقعات بالانضمام إلى حلف "لبيد – يعالون"، وسيكون لبيد زعيم المعارضة.
خدعة كبيرة في السياسة الإسرائيلية
هناك مَن اعتبر خطوة غانتس خدعةً كبيرة، والاحتمالات الأكبر أن يكون مصيره كسابقيه، ايهود باراك وتسيبي ليفني، اللذين انضما في السابق إلى حكومة يرأسها نتنياهو ثم رماهما الأخير بعدما استغل وجودهما لفترة معينة لصالح مشاريع حزبه الليكود. واعتبرت صحيفة "هآرتس"، خطوة غانتس "خدعة وحشية في تاريخ السياسة الإسرائيلية. ومع ذلك، وبعد أن منحوه تسهيلات على استقامته وصدقه وطهارة دوافعه، فإن غانتس أدار أخيراً إحدى الخدع الكبرى في تاريخ السياسة الإسرائيلية". وأضافت "في الـ 25 يوماً التي مرت منذ الانتخابات الثالثة فعل غانتس، المخادع والمتردد كما يبدو، المستحيل. إذ ربط بين أفيغدور ليبرمان وأيمن عودة (رئيس القائمة العربية المشتركة"، وأوجد معهما كتلة سياسية، حتى لو كانت مؤقتة، لم تكن لتخطر ببال أحد قبل ذلك. وبعد هزيمة موضوعية في صناديق الاقتراع قلب غانتس الأمور وأصبح أول مَن يحصل على التفويض من الرئيس. وحارب ضد نتنياهو في كل الجبهات ووضع نفسه كدرع للديمقراطية، وحصل في هذا الأسبوع على الفوز بالضربة القاضية في معركة الصد الحاسمة ضد محاولات الانقلاب الذي جرّبها نتنياهو وخادمه يولي أديلشتاين في الكنيست". وتابعت الصحيفة "معسكره (غانتس) كان محلقاً. والإحباط الذي كان قبل الانتخابات واليأس الذي جاء بعدها على الفور، انقلبا إلى أمل جديد غريب على اليساريين القدامى، يقول إنه على الرغم من كل شيء إلا أن هناك أملاً جديداً. وأثار نضال غانتس و "أزرق – أبيض" ضد عمليات التدمير غير الديمقراطية التي أجراها نتنياهو، في يسار الوسط الروح القتالية التي ظن كثيرون أنها انطفأت منذ زمن. غانتس لم يخدع فقط معسكره بصورة ضمنية، بل بصورة صريحة، إذ تركه محبطاً ويائساً. لقد ملك قلب هذا المعسكر عندما لم يكن أحد يتوقع ذلك، وبعد ذلك حطمه على صخرة الواقع. كل صوت أُعطي من أجل انتخاب غانتس، اعتُبر تحدياً مؤلماً، غانتس قاد كتلة يسار الوسط إلى جبل نابو في السياسة من أجل أن يشرف على أرض الميعاد. وبعد ذلك أعلن بصورة مفاجئة مثلما هو مكتوب في سفر التثنية (في التوراة) لقد جعلتك تراها بعينيك، لكنك لن تصل إليها. أنا سأذهب وحيداً، الوداع".
أمام الوضعية الجديدة ونوعية الحكومة التي سيتم تشكيلها، ستُلقى التهم الموجهة لنتنياهو في ملفات الفساد وخيانة الأمانة في سلة المهملات، فأولى وأهم المهمات التي ستضعها الحكومة المقبلة على رأس أولوياتها، إلغاء محاكمته عبر المصادقة على "قانون نتنياهو"، كما أُطلق عليه، وهو القانون الذي يمنع محاكمة رئيس حكومة. كما سيتم تنفيذ مشروع الضم بأكثرية داعمة في الكنيست.